مواضيع ذات صلة محمد السعيد ادريس يختلف الأمر كثيراً أن تكتب عن الحرب من خارجها وأن تكتب وأنت على أرض المعارك بكل ما تعنيه من واقعية شديدة الدرامية . هذه هي أولى ملاحظات تلك الزيارة السريعة لقطاع غزة المقاوم . هناك ومن فوق هذه الأرض وبعد ما يقرب من سبعة أشهر ونصف الشهر من الزيارة الأولى التي وطئت أقدامي للمرة الأولى في حياتي تراب فلسطين (28-31 مارس/ آذار 2012)، كان المشهد شديد الاختلاف . في المرة الأولى كان الدافع للذهاب إلى غزة هو الوفاء بعهد قطعته على نفسي أن تكون أولى مهماتي الرسمية كرئيس للجنة الشؤون العربية في البرلمان المصري إلى فلسطين، لإعادة تأكيد معانٍ رمزية عدة أولها أن فلسطين كانت وستبقى هي "الحلم القاعدة" لإعادة تأسيس مشروع النهضة العربية، فمنها وحدها سيتحقق حلم الوحدة وبها ومن خلالها سيتحقق حلم النهضة، وثانيها التأكيد أن ثورة الشعب المصري في 25 يناير/ كانون الثاني 2011 بتشديدها على هدف الكرامة والسيادة الوطنية جنباً إلى جنب مع هدفي العدالة والحرية، كانت تحرص على عودة مصر مجدداً إلى أمتها وإلى دورها في قيادة هذه الأمة لتحقيق مشروعها النهضوي الحضاري بكل أبعاده، وثالثها التأكيد أن مصر الثورة قطعت، ونهائياً، خيوط العلاقات التي نسجها النظام المخلوع مع الكيان الصهيوني، وأن هذا الكيان لن يكون أبداً بعد الثورة صديقاً أو شريكاً أو حليفاً، بل هو العدو الاستراتيجي، إلى أن ننجح في تحرير فلسطين . كانت الزيارة الأولى زيارة إعلان مبادئ أما زيارة يوم الاثنين الفائت (19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012) فكانت زيارة اختبار لهذه المبادئ في وقت شديد الصعوبة بالنسبة إلى الثورة المصرية، في ظل حالة انقسام واستقطاب يزداد حدة يوماً بعد يوم بين مجمل التيارات السياسية التي شاركت بدرجات مختلفة في هذه الثورة بين طرف إسلامي سياسي (إخواني - سلفي)، يريد أن يستأثر بالسلطة وفرض النظام السياسي الذي يريده عبر دستور ينسج هو خيوطه، وطرف مدني متعدد الانتماءات (ليبرالي، قومي ناصري، يساري ماركسي) يرفض تسليم الثورة لمن يعدهم أطرافاً هامشية في إنجازها، وأطرافاً إقصائية في ممارساتها . الصعوبة لم تتوقف عند حد الانقسام والاستقطاب السياسي الذي عبّر عن نفسه في المعارك الدائرة الآن حول الدستور المصري الجديد والجمعية التأسيسية المسؤولة عن إعداده، بل تمتد إلى أوضاع اقتصادية وأمنية شديدة السوء، وعودة رموز ورجال نظام مبارك إلى ممارسة أدوار تخريبية وتدميرية على المستويين الاقتصادي والأمني، فضلاً عن التخريب السياسي والإعلامي، ما وضع رئاسة مصر في موقف شديد الحرج بين عجز غير مسبوق في إدارة شؤون الدولة والحكم، وبين ضغوط خارجية هدفها رهن دعم مصر اقتصادياً، إما بشكل غير مباشر عن طريق تسهيل استرداد مصر أموالها المهربة إلى الخارج التي تصل إلى زهاء 200 مليار دولار، وإما بشكل مباشر عن طريق الإقراض المشروط من صندوق النقد الدولي ومن الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، وللأسف من دول عربية شقيقة، وبين تعهدات للحكم المصري الجديد بالحفاظ على معاهدة السلام المصرية - "الإسرائيلية" من دون مساس، وقيام مصر بتطوير علاقات التعاون والتنسيق الأمني والعسكري مع الكيان الصهيوني، وبالذات ما يتعلق بمطالب المحافظة على الأمن والاستقرار على الحدود بين مصر و"إسرائيل" وفي عموم شبه جزيرة سيناء، وتدمير الأنفاق وإحكام الحصار على معبر رفح لمنع تسرب أية أسلحة إلى حركة "حماس" أو غيرها من منظمات المقاومة في قطاع غزة . زيارة يوم الاثنين الفائت كشفت عمق الفجوة بين إعلان مبادئ وبين الالتزام بهذه المبادئ . فبقدر سعادة أهل غزة بالزيارة الأولى في مارس/ آذار الماضي التي تضمنت إعلان تعهدات بدور مصري جديد، كانت صدمتهم من فشل مصر في أول اختبار لهذه المبادئ بعد أن انحسرت الوعود في أدوار لا تختلف كثيراً عن أدوار النظام المصري المخلوع من زيارة تضامن وطمأنة، وتقديم مساعدات طبية وغذائية، ودور وساطة كريه هدفه وقف الحرب الإجرامية على القطاع . فاللقاء الذي وصف بالتاريخي بين الرئيس المصري محمد مرسي ورئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان في القاهرة لم يسفر إلا عن مساعي وساطة لوقف الحرب وتجديد الهدنة من دون تساؤلات جادة عن شروط هذه الهدنة والثمن الذي سوف يدفع، ومن دون وعي بأهداف هذه الحرب . لكن الحرب ومسارات تطوراتها غير المحددة وضعت الكيان وقيادته في اختبارات أكثر صعوبة وتعقيداً على النحو الذي كشفه وزير الحرب إيهود باراك . فقد نقلت صحيفة "هاآرتس" الصهيونية عن باراك قوله في ما وصفته ب"أحاديث داخلية"، أنه "لا يشتاق إلى معركة طويلة"، وأضاف "نحن لا نعرف التنبؤ بدقة ما هي نقطة النهاية، فهذه ليست هندسة بناء، من الواضح أننا لن ننهي قبل أن نحرز الأهداف التي استقر رأي المجلس الوزاري المصغر عليها، وهي تقليل إطلاق صواريخ القسام، وزيادة الردع، وتحسين الواقع الأمني لسكان الجنوب"، يقصد هنا بسكان الجنوب تلك المناطق من فلسطينالمحتلة القريبة من قطاع غزة التي تتعرض أكثر من غيرها للصواريخ قصيرة المدى . الاختبار "الإسرائيلي" صعب على ضوء تصعيد المقاومة ضرباتها لتصل صواريخها إلى القدسالمحتلة و"تل أبيب" للمرة الأولى عبر "صواريخ فجر" الإيرانية وصواريخ أخرى محلية الصنع، وعلى ضوء ما يتصوره الخبراء من أهداف حاكمة لذلك العدوان أولها هدف الردع للمقاومة في قطاع غزة، وثانيها هدف جعل مطلقي الصواريخ في غزة غير قادرين على إطلاقها، وثالثها هدف إسقاط حركة حماس . فالتوقعات تؤكد أن "إسرائيل" لن تحقق أياً من هذه الأهداف، وأن أفضل ما تأمل بالحصول عليه من خلال تصعيد ضرباتها الجوية أو حتى الغزو البري، على أثمان سياسية واستراتيجية من خلال تحفيز أطراف مهمة لتشديد ضغوطها لوقف الحرب . والتصور "الإسرائيلي" هنا يتلخص في أنه "كلما زاد الضغط لوقف العملية، كان هذا أفضل، وسيكون بوسعنا أن نستخدم ذلك كرافعة ونقول نعم لوقف النار وأيضاً لنا شروط" . هذه الشروط أو المطالب تتضمن أو تبدأ بوعد من "حماس" للمصريين، ومن المصريين إلى "إسرائيل" بالحفاظ على الهدوء والوقف النهائي لإطلاق الصواريخ، والثاني الإصرار على أن تتعهد مصر أمام الأسرة الدولية في أن تكون هي الضامنة للهدوء والتعهد بمنع نقل الأسلحة إلى قطاع غزة عبر الأراضي المصرية، والثالث أن تنشأ آلية دولية تضمن ألا يدخل إلى غزة وألا ينتج في غزة سلاح الصواريخ والمقذوفات الصاروخية . شروط "الهدنة" بقدر ما هي اختبار ل"إسرائيل" كدليل على نجاح العدوان، فإنها أيضاً اختبار لمصر التي تدفع بقوة نحو تحديد خياراتها الاستراتيجية نحو الكيان الصهيوني في وقت شديد الحرج داخلياً وفي ظل حالة الانقسام والاستقطاب السياسي وتفاقم الأزمات الأمنية والمعيشية، وخارجياً في العلاقة مع الداعمين للاقتصاد المصري خاصة الولاياتالمتحدة، فمصر تجد نفسها الآن محصورة بين خيار الخضوع للضغوط الخارجية ومن ثم تخسر رهان التغيير الثوري في إدارتها لسياستها الخارجية، وبين خيار الانخراط في علاقات صراع مع الكيان الصهيوني يُكسب الرئيس الجديد وتياره الإسلامي السياسي مصداقية ثورية، لكنه خيار يضعه في مواجهة خصوم في الداخل، مازالوا بحكم مصالحهم، على عهدهم من الالتزام بسياسة النظام المخلوع وفي مواجهة ضغوط الخارج التي تضع الحفاظ على معاهدة السلام شرطاً لتقديم الدعم الاقتصادي . اختبار مصر يمتد إلى النظامين العربي والدولي سواء في علاقاتها مع الرئيس الأمريكي أوباما بعد تجديد انتخابه ليفي بوعد حل الدولتين وإنجاح عملية التسوية، وبين ازدواجية سياستها نحو المعارضة السورية والمطالبة بتسليحها لإسقاط نظام الاستبداد وامتناعها المطلق عن خيار تسليح المقاومة الفلسطينية لإسقاط نظام الاحتلال . يزيد من صعوبة هذا الاختبار الموقف الإيراني الذي وضع الجميع في حرج بالغ، ففي الوقت الذي تقطعت فيه أوصال علاقة "حماس" مع إيران على ضوء موقفها من الثورة السورية، لم تجد الحركة غير الصواريخ الإيرانية لردع "إسرائيل"، في إشارة شديدة الدلالة إلى عمق مأزق الاختبارات التي يواجهها الجميع .