لست بأحرص على مصر من أهلها, ولا أملك من الفقه السياسي ما يجعلني أبرر لطائفة فيها من دون أخرى, لكن قراءة التاريخ تستهويني؛ لأنها تفتح مغاليق الأسئلة, وتكشف ملامح المستقبل, ولأن الشعوب لا تتغير كثيراً, والحياة تسير في طريق واحد؛ لذا كان من المؤسف أن أرى (مصر) التي بدأت في رحلة حضارتها مع دول مثل (الصين) تتراجع أحقاباً طويلة إلى الوراء, ثم تدخل في رحلة "التيه" التي قد تستمر 40 عاماً، كما استمرت رحلة بني إسرائيل ما بين الشام ومصر. لا أحد ينكر أن مصر دخلت أزمة اقتصادية خانقة منذ عدة أشهر، انعدمت فيها كثير من الحاجات الأساسية للإنسان العادي, لذلك عيل صبر الناس، وكثر احتجاجهم, وارتفعت أصواتهم, ووجد بعضهم فرصته لاتخاذ ذلك ذريعة للقيام بثورة ثانية على رئيس ديموقراطي منتخب, فكان ما كان في (الأربعاء الأسود) رغم أن أكثر المتفائلين في مصر كلها، كان يرى أن رخاء البلد, وتحسن المستوى المعيشي لن يتم قبل عقد من الزمان, لكن بعض المؤرخين أثبت أن بعض الشعوب كمصر لا يصبر أهلها على الجوع والفاقة, وقد يكون هذا مبعث ثوراتهم المتكررة, حيث يقول ابن خلدون في مقدمته (وكذلك نجد المخصبين في العيش المنغمسين في طيباته، من أهل البادية، ومن أهل الحواضر، والأمصار، إذا نزلت بهم السنون، وأخذتهم المجاعات يسرع إليهم الهلاك أكثر من غيرهم مثل: برابرة المغرب، وأهل مدينة فاس، ومصر) والمادة التي أضحت (دجال العصر) أمسى يقاس عليها الأفكار، والقيم، والأخلاق. كان يطمح المصريون وأصدقاؤهم إلى أن يحقق رئيسهم معجزة في اثني عشر شهراً, وهذا أمر أشد من إدخال رؤوسهم في سمّ الخياط, حتى الرمز العربي العادل عمر بن عبدالعزيز، احتاج إلى عامين ليعم الرخاء الاجتماعي بدولته, وهو القائل زهداً في الحكم: وايم الله, لو أعلم أنه يسوغ لي فيما بيني وبين الله أن أخليكم وأمركم هذا, وألحق بأهلي, لفعلت, ولكني أخاف أن لا يسوغ ذلك لي, فيما بيني وبين الله. العرب في العصر الحديث يعيشون على التاريخ القديم, وهم بذلك خارج الحراك السياسي, فقد أضاعوا اللعبة منذ قرون، ويعيشون على خط التماس بلا فاعلية, وقد يأتي فيه يوم ينقرضون في العرف التاريخي, ورغم أنهم يتئكون على أضخم عقيدة, ومئات من الحكماء، والدهاة، والقادة, إلا أنهم فقدوا حلقة التواصل مع هذه المنظومة، وتحولوا إلى ظاهرة صوتية, وتنامت ظاهرة الخلاف والإقصاء, والخلاف الطويل يعني أن كلا الطرفين على خطأ، كما يقول "فولتير", فما كان أصدق شاعرهم حين قال عنهم حين تركوا خلفهم الشرق الأوربي المسلم: ما كان أعظمها للملك عاصمة وكان أكثرها للعلم تلقينا لم يبق منها ومن مُلكٍ ومن دولٍ إلا رسوم وأطياف تُباكينا والدهر مازال في آثار نعمتها يروي حديثًا به يشجو أعادينا