د. أحمد عبداللاه خَبْطةُ اقدامهم التي زلزلت الساحات المصرية كانت البيان الاول قبل بيان الجيش ، وكما قال الكاتب الكبير عبد الحليم قنديل فان الشعب المصري هو القائد الاعلى للقوات المسلحة ... مصر اذاً حسمت أمرها نهائيا ، وغرقت ( تيتانك ) الاخوان في أول رحلة لها ، وكما ادَّعى وتباهى صانعو تلك السفينة العملاقة مجازاً بأنها قادرةٌ على الصمود حتى أمام القدرة الالهية فقد أغرقها جبلٌ زاهد متصوف من الثلج ( آيس برج ) أطلَّ برأسه في محيط غامض المدى ذي مزاج متجمد ، دون ان ترصده عيون الرقابة في خطأ بشري فظيع ، وهو ماتم بالضبط مع الاخوان العمالقة التاريخيين في تنظيمهم وإمكاناتهم ، غرقوا في سنة أولى حكم في بلد المنشأ ، البلد القائد للأمة ولم يعد احد قادر ان يتنبأ بطبيعة الهزات الارتدادية لهذه السقطة العظيمة والسريعة لجماعة الإخوان ، التنظيم الأكبر سناً ووجاهةً . الاخوان الذين كان لهم تاريخ مشهود من الصبر ومن المواجهات المختلفة مع الأنظمة السياسية الحاكمة يواجهون اليوم شعباً بأكمله تسنده كل مؤسسات الدولة ونخبها ، وهذا يعد أكبر حدث في التاريخ السياسي المعاصر و ظاهرة يتعين على الإستراتيجيين التوقف أمامها . ولعل اهم نتيجة يمكن تسجيلها هنا هي ان تنظيم الاخوان تكشَّفت هشاشته القيادية بعد ان اقتنع العرب بأنه قدَرٌ حتمي وقوي ولا مفر من الامتثال له . لقد أنتجت تجربة الإخوان القصيرة وما آلت اليه حقائقاً تغافل عنها المجتمع العربي او كان يجهلها وهي ؛ ان الأحزاب الدينية بمختلف أنواعها تعاني من معضلة جينية كبيرة تتمثل في الخلط بين الدين المطلق والسياسة البراجماتية المتقلبة كإدارة لمصالح الدول ، وتتخذ من الخطاب الاصولي الديني وسيلة لانتشارها ونجاحها دون ان تكون جاهزة بمشروع واضح المعالم لكيفية إخراج الواقع من هذا الركود التاريخي ، وكيفية تحقيق التكامل الحضاري مع دول العالم وبناء مجتمعات ديمقراطية آمنة وشراكة وطنية تتعايش في ظلها الأديان والطوائف تحت سقف القانون ، ناهيك عن غموض مواقفها بين الدولة الوطنية والعولمة الإسلامية . لقد قدم الإخوان نموذجاً مضطرباً متناقضاً منذ الوهلة الأولى حين اعتمدوا سياسة إقصاء شركاء الثورة وشباب الساحات ، وأمعنوا حتى الضياع في عمليات التمكين الإخواني من مفاصل الدولة ومقدراتها دون ان يمتلكوا أدنى وعي بحقائق المرحلة الانتقالية واستحقاقاتها الملحَّة ، وان العبء التاريخي كان يجب ان يتولاه ويقوده اصطفاف سياسي واسع لا يستثني أحد . لقد احتكرت جماعة الاخوان لنفسها ميزة الإسلام الجميل كدعامة معنوية عظيمة ، يضاف اليها الميزة الحاسمة المتمثلة بالمصادر المالية اللامحدودة في اطار التضامن الإسلامي للتنظيم الدولي والنشاطات الرأسمالية لمؤسساتها وأفرادها ، والإعداد اللانهائية للجمعيات ومصادر التبرعات السرية والعلنية ودعم دول اقليمية .... الخ دون وجود تشريع ديمقراطي ينظم ذلك ، وهتان الميزتان أحدثتا خللاً إستراتيجيا فادحاً ، من الناحية المادية والمعنوية ، في ميزان الأحزاب والقوى الاجتماعية وتكافؤ فرصها الوطنية بل وفي مسار العملية السياسية ، كفيل بان يُبقي العرب لعقود طويلة تحت حكم الأحزاب الدينية . ولهذا فان الحقيقة الماثلة اليوم والتي بدأت تثير اهتمام المشرعين والسياسيين والمجتمع المدني تتلخص في ضرورة تقنين توظيف الدين الاسلامي الحنيف ومنابر المساجد في الترويج السياسي والحيلولة دون قولبة الديانات السماوية في أطر حزبية او جماعات او جمعيات وهو في نظرنا التحدي الأول امام التشريعات الدستورية في الدول العربية والإسلامية في المستقبل القريب ، وتجاوز فرضية الاخوان بأنهم الفئة المؤمنة في بيئة جاهلية ، باعتبار ان الدين لكل الناس وان لا احد غير الله ، الخالق العظيم ، مطَّلع على ضمائر الخلق وسرائرهم وان لا تراتبية في الدين والإنسانية لمجرد الانتماء لتنظيم او جماعة . ان الاستخلاص المهم اليوم هو ضرورة الوعي الكامل بان افتتاح عهد الديمقراطية الحقيقة ليست لقطة رومانسية في وضع شعبي عاطفي تساق اثره الجماهير كالقطعان إلى صناديق الاقتراع بل هي عملية أكبر من هذا تماماً ، ولهذا فان على الشعوب الثائرة التي تمر بمراحل انتقالية عليها ان تدرك أن خيار المشاركة الواسعة لكل الطيف السياسي هو القاطرة الواقعية دون مزايدات الصندوق ( بالرغم من اهميته ) لاعتبارات كثيرة اولها وأهمها ان الديمقراطية نظام يُبنى في اطار عملية تاريخية عقلانية دون القفز أو اجتزاء فعالية ما من السياق الكامل ... ولعل درس آخر تعلمه العرب الساعون إلى بناء نظام ديمقراطي هو ان الصندوق يجب ان يكون حاضراً في اطار منظومة ديمقراطية متكاملة وليس معزولاً او منفرداً يقود إلى أزمات كبيرة .. خاصة حينما يقفز صندوق الانتخابات الرآسية او البرلمانية على التوافق حول استكمال بناء مؤسسات الدولة والدستور ووجود عقد اجتماعي سياسي حقيقي وتحديد قواعد اللعبة الديمقراطية ، ووجود ضامن لحمايتها وحراسة مكاسبها . لعل درس مصر هو الاكبر من نوعه في حياتنا السياسية المعاصرة ، وربما درس للغرب المتخبط ودبلوماسيته ومصادره ، ولا نفترض هنا بان مصر قد بلغت شاطئ الامان فالرحلة صعبة والنتيجة لم تتضح معالمها بعد كما لم تتضح تداعياتها على الساحة العربية ، ولا احد يتمنى إقصاء الاخوان او التنكيل الإعلامي بهم لأنهم جزء حي من الشعوب ومنظوماتها السياسية بل نتمنى عليهم ان يفسحوا الطريق امام قيادات شابة تواجه تحديات العصر ... لكن ما يجب قراءته هو : الفرحة على وجوه أبناء مصر وكأنهم عادت اليهم الحياة بعد قنوط مهلك ، وهي قراءة لو يدرك الكبار في كل مكان تتقدم على اي اجتهاد في تحليل المشهد الكامل .