مرة أخرى تواجه الكتابة محنتها الأصعب وتخوض مع الدم المراق سباقاً مريراً وغير متكافئ . ذلك أن الحياة والموت تتم صناعتهما في مكان آخر، حيث اللحم الحي أكثر فصاحة من الكلمات والأجساد الطرية التي تمزق أوصالها الشظايا تختزل الرمز برمته ولا تسمح للعيون المحملقة بإشاحة النظر عن هول المشهد وفظاعته . هكذا يبدو الواقع أكثر سوريالية من مخيلات الشعراء وتتكفل الحقيقة المجردة بكل ما يمكن للمجاز أن يجترحه من رؤى ومشاهد عصية على التصديق . وهكذا لا يعود أمامنا في لحظات كهذه سوى التسمر أمام شاشات التلفزة لنتابع الملحمة الجديدة التي تصنعها غزة في مواجهة برابرة العصر الجدد ولنرقب بقلوب مدماة مشهد الأطفال المضرجين ببراءتهم أمام نظر العالم وسمعه . لا أعرف إذا كان نعت الحرب "الإسرائيلية" على غزة بالملحمة هو التعبير الملائم عما يجري . فالمفترض في الملحمة أن تدور بين طرفين متكافئين أو شبه متكافئين، كما كان حال اليونانيين والطرواديين في إلياذة هوميروس، على سبيل المثال . ذلك أن الخديعة وانخراط أخيل في الحرب كانا المتسببين في تحقيق الانتصار اليوناني بعد أن كانت الحرب سجالاً بين الطرفين . لكننا هنا إزاء نوع من التراجيديا الإنسانية النادرة التي تتواجه فيها حفنة من المقاومين مع أحد أكثر جيوش العالم فتكاً وضراوة وامتلاكاً للسلاح . والخلل في هذه الحرب لا يقتصر على العدد والعتاد وحدهما، بل يتعداهما إلى الجغرافيا، حيث ينحشر شعب محاصر ومفتقر إلى أبسط مقومات الحياة داخل شريط جغرافي ضيق تصعب رؤيته على الخرائط، كأننا هنا، ونحن نعيش في شهر محرم بالذات، إزاء كربلاء جديدة تدور رحاها على أرض غزة بين حفنة من المدافعين عما تبقى من تراب فلسطين وبين أحد أكثر الاحتلالات دموية وبطشاً في التاريخ البشري . لكن هذا الصمود الأسطوري الذي تبديه غزة في وجه جلاديها لا يبدو منبتّاً بأي حال عن تاريخها القديم والحديث، كما عن اسمها بالذات . فغزة وفق المعاجم تعني العزة والسؤاد وتعني في تفسير آخر البسالة والثبات على الموقف . والمدينة التي بناها الكنعانيون قبل ثلاثة آلاف وخمسمئة عام لم تعرف، بحكم موقعها الحساس، الهدوء والسكينة إلا لفترات متقطعة من الزمن، وكانت دائماً محلاً لأطماع الطامعين وقبلة أنظار للكثير من الفاتحين الغزاة . وليس بعيداً بهذا المعنى أن يشتق اسمها من الغزو، الذي ارتبطت معه في حلف شبه دائم . وفي غزةالمدينة دفن هاشم بن عبد مناف، جد الرسول الأكرم، بعد أن أدركته المنية فوق أرضها أثناء رحلة التجارة الصيفية التي كانت قريش تنظمها باتجاه الشمال . وغزة أيضاً هي مسقط رأس الإمام الشافعي الذي أثرى الفقه الإسلامي بآرائه وأحكامه النيرة . ومن المفارقات اللافتة في هذا السياق أن تكون غزة هي المدينة التي قبض فيها الفلسطينيون على البطل العبري الشهير شمشون وأودعوه السجن في أحد أقبيتها حتى وفاته . ولم يكونوا ليفلحوا في ذلك لو لم تقم حبيبته دليلة بقص شعره أثناء نومه، بعد أن تبين لها أن قوته الهائلة كامنة في شعره بالذات، وبعد أن قررت أن تحسم الصراع المؤلم بين قلبها ووطنها لصالح هذا الأخير . وإذا كان ثمة من دلالة لهذه الحادثة التي استلهمها الشعراء في قصائدهم فهي أن المرأة الفلسطينية تؤثر أن تخون قلبها ولا تخون وطنها، وأن تنتصر للتراب الأم والقضية المقدسة على أي عاطفة أخرى، مهما بلغ اضطرام نيرانها . إن غزة وهي تقاتل وحيدة اليوم، كما فعل الجنوب اللبناني قبل ستة أعوام، إنما تنتصر لاسمها وتاريخها ولأسطورتها المثقلة بالرموز والدلالات، لا بل إن جرحها المفتوح هو الذي يغذي شجرة الكرامة العربية التي تكاد تذبل من الشح والجفاف . ولابد لي هنا من أن أتذكر ما تناهى إلى مسامع الناس بعد حرب حزيران من أن بعضهم رأى قبور الشهداء تتحرك في غزة . وبدت تلك "الرؤيا" تعبيراً عن الدهشة والاستغراب إزاء ركون أهل غزة المؤقت إلى الصمت والتقاعس عن مواجهة الاحتلال . يومها هتف محمود درويش بمرارة "لا يتحرك الأموات إلا حين لا يتحرك الأحياء" . لكن تلك الغفوة القصيرة لم تكن سوى الاستثناء النادر في تاريخ أهل غزة الذين لم يذعنوا لغاصب ولم ينحنوا أمام إعصار .