نقطة بيضاء أشرقت من مصر الكنانة في 25يناير الماضي، وما لبثت أن كبرت واتسعت لتشمل كل جنبات مصر بمدنها، ونجوعها، تلألأت بدماء شهدائها، وتضحيات شبابها، ومصابرة رجالها ونسائها، صغارها وكبارها، ومازالت تكشف أوكار الظلام، حتى وصلت إلى أبواب القصور الرئاسية، ومقرات الفساد، ومؤسسة الطغيان التي صعقها النور الساطع فإذا هي تترنح وتعلن السقوط في ثمانية عشر يوما فقط..!! أقام النظام المصري ما ظنه سياجا أمنيا منيعا يحميه، وعند أول مواجهة شاملة مع الشعب إذا به ينهار ويتفكك كما تفكك الجدار الفولاذي الذي أقامه على الحدود بين مصر وغزة، فلا أمن مركزي، ولا مباحث أمن دولة، ولا أجهزة مخابرات، ولا أمن عام، ولا حرس خاص، ولا فرق بلطجة، ولا غيرها من الأسماء والمسميات قدرت على الصمود. نجحت الثورة، وبدأت حياة جديدة، وظهرت تباشيرها بكشف أولئك الانتهازيين الذين نهبوا ثروة مصر، وحاولوا تقزيمها، وجعلوها مجرد شرطي يحمي أعداء الأمة وينفذ رغبات الدول الكبرى، وكل يوم تظهر فضائح منتنة تتعلق بجرائم إنسانية ارتبكت ضد أبناء وبنات مصر الأحرار، وأخرى تبين السرقة المنظمة لخيرات مصر ومواردها لصالح أفراد وعائلات، وبدا حال بعض رجال الأمن يدعو للرثاء وهم يتظاهرون معلنين براءتهم من الجرائم التي شاركوا فيها باعتبارهم عبيدا للمأمور وليس للآمر نفسه، وحتى الفتنة بين المسلمين والمسيحيين تبين أن السلطة هي التي كانت تشعلها وتفجر الكنائس!! وبلاطجة الحكم والسياسة والإعلام الذين ظلوا يعبسون في وجوه من يعارض النظام، ويتحدثون بلغة الواثق أنه ليس في مصر أحد غيرهم، حتى صدقوا أنفسهم بأنهم منعوا المعارضة من الوصول إلى البرلمان وبأن الجو قد خلا أمامهم للتوريث السهل، ومعهم أولئك الذين مازالوا يصرحون إلى ما قبل السقوط النهائي: لا تسمعوا للمتظاهرين لأنهم (شوية عيال) في ميدان التحرير لا يمثلون ثمانين مليون مصري، خرس هؤلاء جميعا، وبعضهم يحاول اليوم أن يلبس قميصا جديدا ليعيد أداء دور جديد!! وبالمقابل رسم الشعب المصري العظيم لوحة جميلة ونادر، شاركت فيها جميع الفئات والشرائح والطوائف والطبقات وجيل الشباب مع أجدادهم وآبائهم وكأنهم في حفل متواصل بين كل أجزاء مصر يقدمون (كرنفلا) يمتع الناظرين، واستطاعت (الجزيرة) أن تمزج تلك الصورة المتداخلة بكل بهائها وروعتها لتفرض على المشاهدين في كل أنحاء العالم التسمر أمامها. بدأت المواجهة أول يوم في القاهرة على جسر ستة أكتوبر في معركة بدت غير متكافئة واستمرت نحوا من خمس ساعات استخدم الأمن كل معداته الحديثة وعرباته المدرعة، ومياهه الساخنة القوية ليمنع المصلين من أداء صلاة العصر على الجسر، داسهم بالعربات من كل اتجاه، ولم تغرب شمس ذلك اليوم المشهود إلا وقد انتصرت إرادة الشعب التي نهضت من بين الدماء والجراح لتصب أول غضبها على مقر الحزب الوطني الذي يقع عند أحد تفرعات الجسر، ويتم الالتحام بالجماهير في ميدان التحرير، صورة ستظل تلهم أحرار العالم معاني التضحية والفداء، حتى يتم التخلص من عقدة الخوف والتردد وكثرة الحسابات.. ما أروع وأجمل ذلك التلاحم بين المسلمين والمسيحيين في الميادين، حيث وقف المسيحيون بين المسلمين وهم يؤدون الصلاة وكأنهم يحرسونهم، ويؤدي المسيحيون قداسهم يدعون الله وإخوانهم المسلمون يحيطونهم برعايتهم، أدى المسلمون صلاة الجمعة وأخذ إمامهم يستمطر النصر ويدعو دعاء المستغيث المكروب الملهوف ويؤمن على دعائه الجميع المسلم والمسيحي. لقد جمل هذه اللوحة ذلك الصوت الهادر الآتي من الإسكندرية وغيرها من المدن وكأن الناس يرددون بعده نشيدا وطنيا قد حفظوه من قبل: (حسني مبارك: باطل، مجلس الشعب: باطل، الحزب الوطني: باطل، قالوا عنا جبناء)، وما أروع تلك الطفلة التي ارتفع صوتها المزلزل في المنصورة، وقد حركت مشاعر الجماهير التي رددت معها: (علو، علو، علو الصوت، اللي بيصوت مش حيموت، إحنا خرجنا ومش راجعين، إلا واحنا منتصرين)، وذلك الفنان الذي لحن هذه الثورة بصوته الصداح للتتجاوب معه الميادين (الشعب يريد.. إسقاط النظام.. مطلبنا: حاجة واحدة: ارحل، ارحل) ثم ذلك الأداء المتناغم من الشباب والسياسيين والإعلاميين والأحزاب والجماعات وكأنما انتظمهم خيط واحد يقودهم نحو هدف واحد ويمنع تناثر جهدهم، فإذا بهم يعزفون (سيمفونية) جميلة رائعة، ليس فيها صوت نشاز، ظهرت قوية، حماسية، ممتعة لا تملها الآذان.. إنني هنا أقترح على الفنانين المصريين أن يرسموا هذه اللوحة الرائعة الجميلة، ليضعوها في معرض أو متحف على غرار ما فعل الأتراك في (بانوراما الفتح) بمدينة اسطنبول، وسيصبح هذا المعرض قبلة الزائرين لمصر يستمتعون بها ويتعلمون منها، وسيحفظ هذا العمل هذه الملحمة البطولية للشعب المصري وثورته السلمية المظفرة. لكن لابد من الإشارة إلى أن النظام المخلوع المستبد كان هو العامل المساعد لنجاح هذه الثورة، فهو بفرعنته، وعنجهيته، وعدم سماعه لشعبه قد عجل بنجاح الثورة، إضافة إلى اعتماده على أولاده ومقربيه، وتقديمه للحمقى والمتهورين، واستبعاده لأهل الكفاءة والأمانة، واعتماده على دعم أمريكا وإسرائيل، وتخليه عن قضايا أمته، وتعمده قهر وظلم المعارضين والمخالفين، ثم ركوب رأسه بسيره نحو التوريث دون مراعاة لتاريخ مصر ونضال أبنائها، وبرغم أنه ظل ثلاثين عاما لم يعين نائبا للرئيس، وعندما قرر التعيين لم يختر لذلك إلا شخصا ما عرف الناس عنه عملا يستحق الثناء، اللهم ما كان يثني عليه الصهاينة، كل تلك تصرفات عجلت برحيل النظام، وهو ما يستحق عليها الشكر، لأنه لو حاور أو ناور ربما أطال لعمره البقاء بعض الوقت، وكان سيكلف الثوار الكثير من الجهد والوقت والتضحيات..!!