((باكثير)) أول من أرهص بمأساة فلسطين في الأدب العربي المعاصر في مسرحية، كان (علي أحمد باكثير) قلعة أدبية فنية متكاملة في وجه الشيوعيين والمتهودين والعملاء وكان نموذجاً رفيعاً للكاتب الداعية. كان علي أحمد باكثير من أولئك الذين أدركوا أن للأدب وظيفة مهمة بل مارس ذلك في كتاباته فوظف إبداعه في خدمة قضايا أمته ومن أبرزها قضية فلسطين التي استولت تداعياتها في الأربعينات ومن قبل في العقود الماضية وهي من عصر الأديب علي أحمد باكثير الذي كان يتفاعل معه ومع مجرياته وأحداثه ولديه في الساحة الأدبية ما يشهد على فعاليته الأدبية. يتحرك باكثير على ساحة الأدب الإسلامي ببراعة وتوثب ووفق تصور إسلامي صحيح للحياة والأحياء والقدس هي البدء والمنتهى في رحلته الإبداعية فقد شكلت فلسطين بالنسبة ل (باكثير) قضية الروح ولمعة الإبداع وكنز لاستمراره الفني الذي أبان عن ثقافته الواسعة ووعيه الكبير وإلمامه بالعوامل الخطيرة التي تدير عجلة الأحداث داخلياً وخارجياً في إطار محكم من حقول المنع والعطاء .. يقول باكثير ((وبدأت بأول مسرحية طويلة كتبتها عن قضية فلسطين وكان ذلك في عضون سنة 1944م قبل نكبة فلسطين الكبرى بثلاث أعوام وقد تنبأت في هذه المسرحية التي أسميتها (شيلوك الجديد) بنكبة فلسطين وقيام الدولة اليهودية فيها وخروج أهلها العرب كما تنبأت بأن الحل الوحيد أمام العرب هو فرض الحصار الاقتصادي على هذه الدولة). كان باكثير يعتبر قضية فلسطين خطاً إبداعياً ساخناً بالنسبة لذلك العصر: طبيعة مسرحياته كانت تحمل طابع السخرية والملهاة وتارة تحمل طابع الحزن والمأساة، كان سكرتير الأممالمتحدة (تريجفي لي) يتحيز لليهود تحيزاً صارخاً بحكم صهيونيته فيقول عنه باكثير ((كان قلبي يمتلئ قيحاً كلما قرأت اسمه أو رأيت صورته في الصحف وتضاعف حقدي عليه فأخذ يغلي في نفسي ويؤرق منامي ويفسد عليّ سكينتي ويدفعني للانتقام منه بقلمي إذ لا سبيل إلى الانتقام منه بغيره وقلت في نفسي لأسخرن منه سخرية تمزقه وتمرغه في التراب)) . ثم شرع باكثير بالتمثيل الساخر لهذه الشخصية تجلت في مسرحية (نقود تنتقم) حيث أبرز صورة خيالية لزوجة المسيو (تريجفي لي) وهي تخبر زوجها سكرتير عام الأممالمتحدة أنها سمعت النقود في الخزينة الحديدية تتحدث فيما بينها وتتوعد بالانتقام منه وذلك لأنها من التي دفعتها الدول العربية المشتركة في هذه الهيئة وتسربت إلى خزائنه ضمن الراتب الكبير الذي يتقاضاه، فيتهم سكرتير الأممالمتحدة زوجته بالجنون والخبل ويتصاعد الحوار وتتنامى الأحداث إلى أن يرسلها إلى مستشفى الأمراض العقلية وبعد أن يثبت الفحص الطبي أنها سليمة العقل ويمعن باكثير في سخريته اللاذعة من هذا الشخص البغيض (تريجيفي لي) وشبيهه (حاخام) الوكالة اليهودية (موشيه شرتوك) وتتكشف الخيوط الدرامية لهذه المأساة الملهاة عن نقطة تحول في حياة باكثير الفنية حتى أعاد اكتشاف نفسه ثائرا ًساخراً مؤسساً لبدء عهد جديد لعلاج القضايا السياسية في المسرح. الرئيس الأمريكي (ترومان) الذي تمت على يديه مأساة فلسطين: يقول باكثير بعد ما نشر مسرحية (سأبقى في البيت الأبيض) تدور حول (ترومان) (تأكد عندي أهمية مواصلة هذا الاتجاه السياسي فكتبت ما يزيد على سبعين تمثيلية عن مختلف القضايا العربية والإسلامية وكان معظمها يفيض سخرية حيث كنت أتناول الشخصيات الاستعمارية من أمثال تشرتشل وترومان والجنرال سمطسن وكذلك أعوان الاستعمار وأذياله من حكام العرب وساستهم). وكان إثر حرب فلسطين التي انتهت بمهزلة المهازل بانتصار اليهود على سبعة جيوش عربية ثم نحرها على مذبح الدولة الملعونة عام 48م أن يقف باكثير حائراً مفزعاً حتى لتضيق أمامه صفحات التاريخ عن معالجة هذه النازلة الكبرى فيقول: (انتابني شعور باليأس والقنوط من مستقبل الأمة العربية وبالخزي والهوان مما أصابها وأحسست أن كل كرامة تصان وظللت زمناً أرزح تحت هذا الألم المض الثقيل ولا أدري كيف أنفس عنه) فيقع باكثير بعد هذه التجربة القاسية على (مأساة أوديب) تلك الأسطورة اليونانية الخالدة (لفوكليس) فيذهب بها من مضمون إلى مضمون ومن فلسفة إلى فلسفة . ذلك أنه كان يحس من أعماقه (أن الذنب الذي ارتكبه العرب في فلسطين والخزي الذي لحقهم من جرائه لا يوازيه في البشاعة غير ذلك الذنب الذي ارتكبه (أوديب) في حق أبيه وأمه والخزي الذي لحق به جراء ذلك وجدير بالذكر هنا أن باكثير يلجأ إلى الأسطورة أحياناً حيث كان يجد فيها غنى وسعة وكفاية وكنه يتنفس من خلالها عبر رئة إسلامية صافية فقد كان شديد الوعي بالأساطير الوثنية اليونانية ...). مسرحية شعب الله المختار: كتبها عام 46م تعرض فيها لأخطار الهجرات اليهودية إلى فلسطين وهو حريص كل الحرص على عمله من الواجهة الفنية حيث أنه كان يدرك تماماً أن على الكاتب المسرحي ألا ينسى وهو يلتهب حماسة الدعوة التي إليها المنتهى, أن المسرحية عمل فني قبل كل شيء فيجب ألا يجور على فنيتها بحال من الأحوال. مسرحية إله إسرائيل: حلل باكثير في هذه المسرحية الوجود اليهودي من أقدم العصور حتى اليوم حيث ضمت بضعة عشر مقطعاً مقسمة إلى ثلاثة أجزاء : - الجزء الأول : في عهد موسى عليه السلام. الجزء الثاني : في عهد المسيح عليه السلام . الجزء الثالث : العصر الحاضر . تناول ذلك في قوة وتركيز وهندسة فنية تنفذ إلى لب الموضوع دون أن يفقد الجمهور عنصر التشويق والتطلع إلى ما يتصل به من ملابسات وتفاصيل قاطعاً طريقه الطويل ليقول للناس باختصار: (لا حاجة لأن تكون فلسطين المستقبل محدود بحدودها التاريخية ففي إمكان المدينة اليهودية الامتداد إلى جميع البلاد التي وعدوا بها في التوراة - المزيفة من البحر المتوسط حتى الفرات من لبنان حتى نهر مصر النيل) هذه هي البلاد التي أعطيت للشعب المختار. يقول باكثير محذراً من خطر اليهود: لا مصرنا تبقى ولا العراق إن طار من يميننا البراق لمن ؟ لقوم من نفايات الأمم هم مظلوم وشر من ظلم ويل لهم .. يبغون بعد يثرب ملكاً لهم في قلب أرض يعرب أين إذا محمد؟ أين ذهب ؟ إن ذل لليهود بعده العرب وينادي باكثير قبل الشاعر الحداثي أمل دنقل بأربعين عاماً (لا صلح) : لا صلح يا قومي وإن طال المدى وإن أغر خصمنا وأنجدا وإن بغى .. وإن طغى ..وإن عدا روَع القدس وهدّ المسجدا وشاد في مكانه هيكله الممردا وشرد الألوف من بلادهم وطردا وذبح الأطفال والنسا يلتمس العدو صلحنا سدى لا لن يكون سيداتي وسادتي ولن نكون أعبدا وينثر باكثير النثريات (الثماني عشرة) التي تشكل الملحمة الإسلامية الكبرى (عمر) حيث تجلى النفس الإبداعي الطويل في هذا العمل الملحمي النفيس والقدس تحتل في هذا العمل مكانة فهي بيت القصيد كما يقولون. هذه قضية فلسطين في أدب الأديب اليمني الكبير علي أحمد باكثير رحمه الله - هذه المادة من إعداد: مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية