ربما لأن المشكلة الاقتصادية التقليدية في مصر فرضت نفسها في الخمسينيات بما لا يقبل تأجيلاً، أصبحت المقترحات الراديكالية بشأنها أكثر تقبلاً، ليس هذا وحده ما ساق إلى تجربة الستينيات الاشتراكية، فوراءها بالأساس اعتبارات سياسية أهمها تغيرات العلاقات الدولية، سألزم نفسي هنا بحديث الاقتصاد دون السياسة، رغم تلازم الاثنين. كانت تجربة هندسة اجتماعية، فيها كل عيوب مشروعات الهندسة الاجتماعية؛ لكي تنفذ خطط تصنيع واسعة طموحة، وقد كانت بالفعل كذلك، أنت بحاجة إلى مصادر تمويل، تأتي أساسًا من قطاع الإنتاج الرئيس (الزراعة)، ولأنه لا يفي بكل المطلوب جرى تأميم جميع مصادر الدخل الأخرى المهمّة، وتحويلها لملكية الدولة، حتى القطاع التجاري أمّمت شركاته الكبيرة! القطاع الزراعي تمّت السيطرة عليه بغير هذه الطريقة، دون أن تفرق النتائج عمّا فعله محمد علي باشا قبلاً، عندما وضع اليد عليه مباشرة، للدقة التاريخية هو لم يفعل جديدًا، فمن عجائب الحياة الاقتصادية التقليدية منذ عصر الفراعنة أن الأرض الزراعية لا يملكها الأفراد، هي ملك للفرعون، وفيما بعد للسلطان العثماني، يمنحها على شكل التزامات لمن يلتزم بتسديد رسومها السنوية، ومن حقه استردادها ونقل التزامها إلى الغير، جديد محمد علي أنه جعل نفسه الملتزم الوحيد، لم يتغيّر هذا إلاّ بالإصلاحات الزراعية على عهود خلفائه. أبقت التجربة الاشتراكية على الملكية الخاصة للأراضي الزراعية مع توسيع قاعدة ملكيتها عن طريق ما سُمِّي بالإصلاح الزراعي، في نفس الوقت أحكمت سيطرتها على القطاع بأن أصبحت المشتري شبه الوحيد لإنتاجه، هي مَن يقرر أسعار الشراء، وما يزرعه المزارع إذا أراد بيع محصوله لها. وإلّا بماذا كانت ستمول خطط التنمية لو لم تسيطر على قطاع الإنتاج الرئيس؟! حققت خطط التوسع الصناعي أهدافًا جزئية لا بأس بها، اتّسع قطاع الصناعة، وارتفعت نسبة مساهمته في الدخل القومي، وامتص قدرًا من فائض العمالة الزراعية (المشكلة الأزلية). التصنيع كان أحد سياستين رئيسيتين في تلك التجربة، الثانية التوسع فى التعليم وجعله مجانيًا في جميع مراحله. كل هذا جميل، إلاّ أن تقييمه يقتضي عدم فصله عن أثمانه، ولا عن آثاره الجانبية الأهم، ولا عن نتائجه على حركة التحديث، ممّا سأتحدّث عنه في المقال التالي.. هنا أشير لواحدة من أهم نتائج التجربة، عندما أدّت إلى اتّساع الطبقة المتوسطة نتيجة للسياستين آنفتي الذكر، وهو أمر محمود؛ لأنه يعني إنقاص الأعداد المتزايدة للطبقة الأفقر، إلاّ أنه يخلق مشكلاته، واقع الأمر أن الطبقة الأفقر تزايدت ولم تنقص؛ بسبب ارتفاع الوعي والرعاية الصحيين، في نفس الوقت أدّى اتّساع الطبقة المتوسطة المعروف بأنها موئل التطلعات والطموحات، وسهولة التبرم وعدم الرضا إلى مشكلة انغلاق منافذ طموحاتها، ففي النظام الجديد لا يوجد سوى قطاعين: "المزارعون والبيروقراطية" حتى العمال والمشتغلون في القطاع الصناعي الجديد هم بيروقراطية من جهة أنهم عاملون لدى الدولة، واختفت بالطبع طبقة رجال الأعمال، والمديرين التنفيذيين الذين تحولوا إلى موظفين.. للحديث بقية. للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (32) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain