ما الإحساس الذي يفرض نفسه بقوة على الأم إذا ما أخفق ابنها وأصبح مجرماً؟ سؤال يلح بقوة بعد نهاية فيلم «علينا أن نتحدث عن كيفين» للمخرجة البريطانية لين رامزي، فهناك أم يسيطر عليها شعور بالذنب، وتحاول استرجاع ماضٍ عاشته مع الابن بكل تفاصيله، لتفتش عن سبب إنجابها «وحشا مستقبليا» لم تر بعينيه لحظة خروجه من أحشائها سوى أمل.. ذلك هو محور حكاية «علينا أن نتحدث عن كيفين» التي أدت دور البطولة فيها الاسكتلندية الأوسكارية تيلدا سوينتون، والتي تلعب دور الأم (إيفا)، وجون سي ريللي، وعرضت أمس في بافليون داون تاون بدبي، ضمن العروض التي ينظمها مهرجان دبي السينمائي الذي تنطلق دورته التاسعة الأسبوع المقبل. فيلم قاس نفسياً، يجعل المشاهد جزءا من عالمه، لكن جمال الأداء والتقاط المشاهد بشكل متميز والكاميرا وحركتها تخفف من وطأة هذا العنف النفسي، وتزيد من التحول قليلاً الى معرفة ما وراء الحكايات، أو ما وراء الجرائم. أعصاب مشدودة الفيلم المأخوذ عن قصة تناولتها وسائل الأخبار قبل سنوات، حول الفتى المراهق في مدرسة كولمباين، الذي أطلق الرصاص على زملائه، وأودى بحياة العشرات، جميع التحليلات كانت منصبة حينها حول هذا المراهق وآلية تفكيره الإجرامية، وحول حياته، لكن لا أحد راعى أن أماً انجبته مازالت على قيد الحياة، وترى شيئاً لا يعرفه الجميع، وخائفة من مواجهة سؤال متخيل حول نوع القصص التي كانت ترويها له قبل أن ينام؟ لذلك عملت المخرجة المتخصصة أصلاً في حكايات المراهقين على تتبع حكاية الأم مع هذا المجرم الصغير. هنا نستطيع الربط، ولو قليلا، مع فيلم يسري نصرالله الأخير «بعد الموقعة» الذي تناول فيه أيضاً حكايات من شاركوا في قتل المتظاهرين في ميدان التحرير في ما عرف ب«موقعة الجمل»، استخدم الأسلوب نفسه في البحث عن ما ورائيات هذه النفسيات. وللعودة الى فيلم رامزي الذي يبدأ من ستارة تحركها الريح، خلف هذه الستارة دموع وقهر وتساؤلات تحوم بداخل الأم ايفا، التي تريد أن تبكي ولدها الذي تحب، لكن جريمته كانت أكبر من حبها فآثرت أن تصرخ بصمت، كي لا تتحمل وزراً آخر، فهي هنا لا تلوم ابنها فحسب، بل تحاول أن تبحث عن سبب آخر أدى الى أن يصبح ابنها مجرماً، خصوصاً في المشهد الذي يليه، ونحن نراها تترنح فوق كومة من المهدئات والأدوية تغسل وجهها بالماء لتظهر ملامح شاب مراهق لا يعرف المشاهد من هو، لكنه يدرك فوراً أن «الفلاش باك» (العودة الى الوراء) قد بدأ، والأعصاب المشدودة تفرض نفسها، كون الفيلم مصنوعا بشكل دقيق، وليس مباشرا، وفيه كثير من المشاهد المركبة. جلد الذات بعد كمية لا بأس بها من المشاهد الثقيلة الوقع على القلب، وبعد كوابيس كثيرة يعيشها المشاهد برفقة الأم ايفا، تبدأ الخيوط بالتماسك أكثر، منذ لحظة وصول الطفل «كيفن» الى العائلة، الكاميرا تتجه فوراً الى ردة فعلها بعد انجابها ليلمس المشاهد عدم راحة وسعادة قبلها، فهو بالنسبة لها سيؤثر في طبيعة وشكل حياتها المبنية على السفر والرحلات، وبالفعل تتغير حياتها، فهي تنظر اليه وكأنها لا تعرفه، تحاول التقرب منه، لكنها تفشل حتى في إعطائه الحليب. تمر السنوات على كيفن، ويبدأ سلوكه العنيف في الظهور، وتتفاقم الفجوة بينه وبين والدته، حتى إنها تلجأ الى طبيب ليؤكد لها أن ابنها لا يعاني شيئاً. تتذكر ايفا أن ابنها لم يكن يسمع توجيهاتها، وتحاول جلد ذاتها بأن هذا السلوك العنيف له علاقة بحالة الاكتئاب التي مرت بها أثناء حملها به، وان جين الاكتئاب انتقل اليه، في المقابل، يظهر الزوج غير مبال بتخوفات زوجته، ويؤكد لها طوال الفيلم أن الأمر طبيعي جدا، وكيف قررا بعد ذلك إنجاب طفل آخر (لكيفين) كي تخف لدى الأول حدة العنف، لكن بوجود شقيقته الصغرى الجديدة تزداد شقاوته العنيفة. عنوان يفرض نفسه وصل كيفن الى سن المراهقة، والتحق بالمدرسة، فتدرك الأم أن مرحلة خطرة سيعيشها ابنها الذي تحبه مع كل هذا الجفاء، تتذكر ايفا كمية المحاولات التي حاولتها للوصول الى نقطة تلاق بينها وبين كيفن من دون جدوى، وتتأكد أن احساس الأمومة كان ينبئها دوماً باقتراب كارثة، فتقرر أن الوقت قد حان للتحدث مع الأب حول كيفن، لكن الأب يصر على أن الأم تبالغ في تحليلاتها ولا ينصت لها، وتحدث الكارثة فعلاً عندما يقوم كيفن بقتل شقيقته الصغرى ووالده بقوس وسهام أهداها إياه والده، ويغادر المنزل مع عدته ليرتكب جريمة راح ضحيتها اصدقاؤه في المدرسة. هنا تنتهي حكاية كيفن، وتعود الى الأم التي عانت نظرات الجيران والرأي العام، تحولت على إثرها الى شبه انسان يمشي على الأرض، منهكة ومتعبة وموجوعة ومصدومة، بعد أن أيقنت أنها انجبت وحشاً بشرياً، وليس إنساناً. مشاهد كثرة تمر بحياة هذه الأم بعد جرائم ابنها، فهي تضرب من عائلات الضحايا تارة، ويبصق عليها وتعزل اجتماعياً، وتريد أن تقول لهم «صدقوني حاولت التحدث مع فرانكلين (زوجها) لكنه لم ينصت لي»، لكن لا أحد يسمع صدى صوتها. لكن عدم قتل ابنها لها زاد من حنق المجتمع عليها بأن الذي فعله كان انتقاما منها كي تعيش بهذا الشكل على ما يبدو. لمشاهدة مواضيع أوفر عن الفن السابع، يرجى الضغط على هذا الرابط.