(1) أتذكّر جيداً العام 1992. كان بينيّ وبين جامعة صنعاء عامان، وأدخلها. اللهفة والشوق الذي بداخلي ويستعمرني إليها كان كبيراً إلى الحدّ الذي جعلني أراقب ما يجري في حرمها وأنا على مقعدي في ثانوية عبدالناصر التي أكملت فيها دراستي الأولى. ومن هناك أرى: طلبة يحتجّون على عدم تطبيق مدَنية ذلك الحرم الجامعي.رفضهم دخول العسكر إلى داخل الكليّات بأدواتهم النارية فالجامعة للعلم وتعليم السير على خطوات الحياة الخالية من العنف وليس العكس. العدد كثير ويتكاثر مع تزايد عملية الفعل العكسي من قِبل جهات لم تقدر على استيعاب ما يحصل أمامها. احتجاجات يقودها، كالعادة شباب اليسار وشابّاته. تتدخل أصابع لإحراق سيارة نائب رئيس الجامعة،أبو بكر القربي وقتها. يتم اتهام طلبة محددين ويتم ايقاع عقوبات قاسية عليهم.تشتعل الاحتجاجات ثانية ولا تهدأ إلا بعد أن تم إصلاح بعض تلك العقوبات، على ما أذكر. لكنّ ما أتذكره فعلاً وبقوة: تحقيق منع دخول العسكر إلى الحرم الجامعي بسلاحهم الشخصي. مجرد دخول شخصي لغرض ما يؤدونه ويعودون إلى أماكنهم. كان يتم تحديد هويتهم بقطعة قماش ملصقة على أكتافهم مكتوب عليها: الأمن الجامعي. وأثناء هذا أيضاً ظهر الحشد الطلابي المتضامن، وهو التضامن الذي يؤدي إلى هدف لا إلى لا شيء. عندما قامت إحدى الصحف الأهلية وكان اسمها «صدى الشعب»، كنت اشتغلت فيها فترة من الوقت قبل أن أغادرها للثانوية العامة. قامت هذه الصحيفة بنشر اتهامات غير مسبوقة ضد طالبة اشتراكية تشرف على السكن الجامعي للطالبات وهو ما أدى لخروج ذلك الحشد لتقف الجامعة على قدم واحدة حتّى تم إغلاق تلك الصحيفة والحكم على صاحبها بالسجن. هكذا كانت الأجواء حلوة ومدنية وتفرح القلب والعقل وتحت سطوة كل هذا دخلنا الجامعة. (2) استمر الأمن الجامعي على احترامهم لخصوصية الجامعة وللرغبة الطلابية الصامدة في تحييد الحرم الجامعي من أي صبغة عسكرية أو أمنية. بدأنا دراستنا وهناك حدود فاصلة بين حياتنا الجامعية وبين العسكر. انتخابات طلابية واضحة وتشكيلات جديدة بدأت دخول محيط النشاط الفكري الموضوع في إطار المدنية. حتّى الطلاب المنتمين لاتحاد طلاّب اليمن ويتبعون الاصلاح بدأوا في استيعاب المسألة عبر الصندوق أمّا الزملاء في قطاع المؤتمر الشعبي العام الطلابي فلم يكونوا وقتها قد فهموا من الأساس ما يجري. لكن ما هي إلا سنوات إلاّ وبدأت الآلة الأمنية لعبتها من جديد. ودخلت عبر تواطؤ غير مباشر من قبل أعضاء هيئة التدريس الذين دخلوا في مقايضة مع رئيس الوزراء حينها للفصل بين حقوق مدنية الجامعة وبين زيادة رواتبهم الشهرية. زيادة نالوها لكن الثمن كان كبيراً. ما تزال الجامعة تدفع عواقبه حتّى اليوم. وعادت الجامعة مجدداً إلى الحظيرة الأمنية. بدأ موظفون إداريون في الكّليات المختلفة يتصاعدون من وظائفهم لينضموا لهيئة التدريس الذين كانوا يرقبون بصمت عمليات منح أولئك؛ إمّا منحاً دراسية هي في الأساس حق للأكاديميين فقط أو منحهم إجازات دراسية للدخول في تصاريف الدراسات العليا وتحويلهم إلى دكاترة. أنظر اليوم لغالبية من أولئك الذين كانوا موظفين في شؤون الطلاّب بكلية الآداب وكانوا يقومون بأعمال التسجيل أيام كنت طالباً وقد صاروا اليوم أعضاء في هيئة التدريس وتركوا تلك النوافذ التي كانوا يقدمون فيها خدمات تسليمنا بطائقنا الجامعية. الجهاز الأمني كان فاعلاً هنا وبدرجة لا يمكن تصوّرها. الدكتور الكبير ابو بكر السقّاف وحده كان يصرخ في البرية هاتفاً بأن ما يحدث كارثي ويصيب الكيان الجامعي في مقتل لكنّ أحداً لم يهتم. كان الجميع يبحث عن فوائد أخرى وزيادات إضافية كي يقوم برفع راتبه الشهري وامتلاك سيّارة تقوده من البيت إلى الجامعة والعكس. لكن إلى أين تمضي الجامعة فلا أحد يهتم! وكان من الطبيعي والحال هذه أن يأتي (الدكتور) خالد طميم رئيساً للجامعة ليكتمل المشهد. لا يمكن أن تكتمل الصورة الأمنية إلا بهذا التعيين الفادح، وما يزال الجميع على صمتهم. الجميع، في هيئة أعضاء التدريس، على صمتهم وهم يرون لطميم وهو يصعد على رؤوسهم. وأتكلم عن طميم هنا كمجرد رمز لتلك المرحلة وليس كشخص له ما له وعليه ماعليه. اكتمال المشهد كان لا بد أن يأتي بمواقف تدل عليه وعلى النقطة التي وصلها بإعلان أعضاء هيئة التدريس الذين دخلوا من بوابة الأمن عن هويتهم ووظيفتهم الحقيقية. اثنان في قسم التاريخ قدّموا بورقة تقرير إلى الجهاز الأمني في الدكتور العظيم سيّد مصطفى سالم. تخيّلوا! الكبير سيّد مصطفى سالم، عاشق اليمن وحامل قلبه وجنسيته. والاتهامات عثورهم على خريطة في واحدة من رسائل الماجستير التي أشرف عليها لطالب غير يمني لا تحدّد موقع جزر حنيش بشكل دقيق. لقد أتى هؤلاء لمراجعة أرشيف القسم والتفتيش في نوايا أعضئءه وليس للتدريس. بالنسبة لي،كنت قد صرت عضو هيئة تدريس بجامعة ذمار وكنت أمّر على كلية الآداب بصنعاء بحكم ارتباطات تدريسية. لقد كنت هنا طالباً وعملت معيداً لعام واحد وتم رفض استمراري لأسباب أمنية! (علامة استفهام). وقتها كان الطاقم الأمني بقسم الاجتماع قد تطاول وازدهر بوصول طميم إلى رئاسة الجامعة. الدكتور عبدالجبّار ردمان تكّفل مرّة بإيصال رسالة أمنية جبّارة وأنا بداخل الكلية بعد كتابتي لمقال هنا في الثوري عن الرئيس السابق. في جامعة ذمار كان الأمر قد وصل أيضاً لحدّ العلانية. نائب رئيس جامعة ذمار أمين الحميري أخبرني صراحة أنه سوف يقوم بتقديم التقارير الأمنية ضدي إلى فوق. لقد نسي وقتها أكاديميته وعاد بلا وعي إلى مهنته الأمنية الأصلية: دكتور زراعة وكاتب تقارير وضيع. كما نسي وقتها أن الورقة التي سهلت دخولي إلى الجامعة كانت من الأمين العام المساعد للمؤتمر الشعبي العام بسبب أرشيفي الثقافي الضخم والذي كنت كتبته لسنوات في جريدة الثورة الرسمية كما أن سجليّ الأكاديمي كان كاملاً وفوقه عدم رسوبي في اي مادّة دراسية خلال سنواتي الجامعية. لكن أغرب ما يمكن تخيله واستيعابه أن يقوم كاتب التقارير هذا بدفع رئيس الجامعة أحمد الحضراني بإصدار قرار تعيين لنجل الحميري وهو ما يزال طالباً في كلية الطب. لم يحدث هذا ولا لمرة واحدة في العالم، حتّى خالد طميم لم يفعلها. (ملفّات الدكتورين الحضراني والحميري الآن أمام النائب العام بعد أكثر من ست سنوات من الكتابة عنهما في هذه الجريدة «الثوري» التي كأنها خاضت حرباً بمفردها ضد جبال من الأمن ترتدي ثياباً أكاديمية). المهم، تطاولت الحالة واستمرت فكان لا بد من ثورة. (3) خرجت الثورة من الجامعة وكان هذا طبيعياً. هذا رصيد الجامعة القديم ولا بد من إعادة استثماره وعن طريق شباب الاشتراكي. كأن التاريخ يعيد نفسه. ذهب رئيس النظام السابق وكان لا بد من استعادة الجامعة لهيئتها الأصلية وارتداء الزي المدني الذي يليق بها لكنّ تأتي المفاجأة بأصوات هاتفة بإبقاء الجامعة تحت سطوة العسكر. استكثروا أن تعود الجامعة إلى الشكل الذي ينبغي أن تعود إليه. أن تبقى تحت السيطرة وأن يبقى أهلها في الحظيرة. كأنهم لا يقدرون على العيش في مناخ مدني وحياة مناسبة تصلح للعلم وتوابعه. لكن لماذا قمنا بثورة! الأخ رضوان مسعود يقود مظاهرات باسم رئيس اتحاد طلاب اليمن! ياللهول! هذا الطالب قد ترك مقاعد الدراسة من سنوات ولم يعد يحق له قانويناً الهتاف بما يقوم بهتافه! لا ننسى أن هذا الأخ كان من الناس الذين وقفوا أمام احتجاجات طلاّب القطاع الطلابي للحزب الاشتراكي بداخل الحرم الجامعي وهي الاحتجاجات التي قادت إلى ثورة. لكنّ لن نستغرب عندما نعلم أنه يفعل هذا مدفوعاً بمقايضة سيكون رابحاً فيها بتعيينه أميناً عاماً لجامعة صنعاء! ياللهول أيضاَ! لنتخيل هذا العقل(!) المعادي للسلوكيات المدنية وقد صار أميناً عاماً لأهم جامعة يمنية! لكم أن تتخيلوا بلا أي تحفظات شكل النتائج التي سوف نصل إليها لو تم هذا الأمر حقاً! إن أمراً كهذا لوحده يكفي أن يكون سبباً لأن تتوقف الجامعة عن الحياة. ثم لننظر هنا شكل الأرباح الشخصية التي ينظرون إليها وهم يقودون مثل هذه الحرب الجديدة على جامعة صنعاء. زيادة في المستوى المادي الشخصي على حساب إبقاء الجامعة في الحفرة نفسها والطين ذاته الذي غرقت فيه طوال السنوات الماضية وحاول طلابها إنقاذ مايمكن إنقاذه في حين دفع طلاب كثر حياتهم ثمناً لذلك. تبدو الصورة قاتمة وحزينة عندما يتم حساب الأمور في هذا المجال الضيق المنعدم حساسية وشعوراً وطنياً في درجاته الأدنى تجاه هذا الكيان الأكاديمي الباهر. صورة لا بد أن تدفع الناس ثانية للوقوف أمام أي انهيارات قادمة أو عنف قد يحيط بالجامعة وبماهية الرسالة التي ينبغي استعادتها مرة أخرى كي تعود مستحقة لاسمها. لقد فعل طلاّبها ثورة من أجل هذا، وهم قادرون على فعل أخرى. وللحديث بقية. أثمان سهلة .. وتافهة رئيس عام نقابة أعضاء هيئة التدريس في جامعة صنعاء أيّام كان الاضراب العام من أجل زيادة الرواتب كان هو الشخص الذي تفاوض مع رئيس الجمهورية السابق على التنازلات التي سوف تتم من أجل عودة الهيئة للتدريس: التنازل عن حق انتخاب رئيس الجامعة وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام. هو الدكتور نفسه الذي نال ثمناً شخصياً بتعيينه ملحقاً ثقافياً في سفارتنا بالامارات العربية المتحدة. كان يريد أن يكون ملحقاً ثقافياً في جمهورية مصر لكن الرئيس السابق أمعن في إهانته ومنحه وتسفيره إلى الإمارات. ما يشبه النفي.كأنه يقول: سنمنحك ما نريد لا ما تريد أنت وهذه قيمتك عندنا. كان يمكنه أن يرفض وينال ما يريده لأنهم كانوا يريدون إبعاده عن الجامعة بأي ثمن، لكنه، كما يبدو لا يعرف قيمة نفسه، إن كان لها قيمة. كان هذا الدكتور يشكو صعوبة العيش ويريد تحسين أوضاعه المالية. لم يكن يهمّه أن يكون هذا على حساب الجامعة. هذه لا تعني شيئاً في باله. يريد أن يأكل جيداً، أن يشتري دجاجتين في اليوم مثلاً، أن يتمكن من الزواج بحسب الشرع واصلاً حدود الرابعة. أن يرى الحياة كما ينبغي أن تكون من الباب المادي لكن لا مجال له أن يرى كما ينبغي للرؤية أن تكون. هو هكذا أو مخلوق لأن يرى بمقدار أو بمساحة لا تبعد عن قدميه مسافة متر واحد. وهذا طبيعي ويمكن تفهمّه تماماً لشخص لا يرى الجامعة إلا بما يساوي ملحقية ثقافية، وسيّارة و.. دجاجتين.