في مجتمعاتنا الخليجية ،التي تنعم برخاء كبير واستقرار اكبر،نشأت فيها ظاهرة غريبة غدت تعرف (بدكترة المجتمع) ،ظاهرة تبناها المجتمع من خلال مجالسه ودواوينه ،لتصبح هذه الظاهرة من متلازمات الحضور وضرورات البروز الإجتماعي والإعلامي . ولم تسلم من هذه الظاهرة المؤسسات الحكومية والخاصة ،فراح الكثير من افرادها ينعمون على انفسهم بلقب دكتور ، ليمسي الموظف أستاذا ويصبح دكتورا ...مع مرتبة الشرف ،فى تطور علمي ومعرفي يخالف النواميس الكونية والمعرفية ،ان هذه الظاهرة تعكس تهافت المجتمعات ومنها مجتمعنا الى كل معاني الشكلية وصورها النمطية المظهرية الخداعة . لقد كان التباهي فى مراحل سابقة يكون فى المركب والمسكن والملبس ،اما فى وقتنا الحالي فقد تجاوزنا ذلك بكثير،وصار التباهي الأكاديمي بعدا آخر من أبعاد المباهاة التى يرنو اليها الفرد والجماعة . لقد نشطت مافيا الشهادات المزورة فى مجتمعنا ،وراح مروجوها يجوبون مؤسساتنا الحكومية والخاصة ،مروجين لبضائع مزجاة في قيمها المعرفية والفكرية ،مدموغة بأختام مؤسسات غير معروفة ،وليس لها وجود على خارطة التعليم الاكاديمي ،ومع ذلك وجدت هذه الشهادات رواجا بين أفراد المجتمع ،وأصبح الكثير منهم يتسلح بهذا العبث الاكاديمي ويجعله مسوغا ومهراً للقب صاحب السعادة الدكتور فلان وعلان ،والأدهى من ذلك عندما تشاهد إعلان مباركة فى صحيفة يومية ، يشير ويبارك هذا الانجاز الفكري والمعرفي ،والمفارقة ان هذا الاعلان يشير دون خجل او مواراة الى اسم الجهة المانحة لهذه الشهادة ،يتوسط ذلك صورة المحتفى به الممنوح لهذه الدرجة العلمية ،والمملوح فى حضوره الدعائي من خلال تلك الصورة التي تظهره وهو ينظر الى الأفق البعيد نظرة صقر جارح يستعد لمغامرة قنص جديدة ، لكن الفارق يكمن فى الطريدتين ،فطريدة الصقر وغنمه يكون ثمينا يشاركه صقاره أكله ،أما طريدة صاحبنا فهي قطعة كرتونية مزيفة يكون مآلها مشب البيت كونه مكان تجمع الخلص من الاصدقاء القدامى الذين ما عرفوا دروب هذه الشهادات ولا كنهها . وفي بيئاتهم الوظيفية يتم تسريب الخبر عن طريق احد الحواريين ، ممن لهم اسبقية شرف الصحبة وديمومة الثقة،فيعلن هذا الحواري نبأ حصول هذا المدير على شهادة الدكتوراة مع مرتبة الشرف ،من جامعة كذا .....الامريكية او البريطانية ،فيتهافت الجميع أفواجا يأمون مكتب صاحب السعادة مهنئين ومباركين ،وصاحبنا يسألهم وقد رسم على وجهه شيئا من علامات الإستغراب ممزوجا بالفرح قائلا:- مبروك على إيش؟ فيقولون شهادة الدكتوراة ...يا مدير ،وهنا يتواضع لهم ويلين فى كلامه ويشكرهم شكرا جزيلا ويحثهم على التزود بالعلم والمعرفة ،ولكنه لا ينصحهم بهذه الجامعة العريقة ،إن ارادوا إكمال دراستهم كونها من أصعب الجامعات ومتطلباتها الدراسية والاكاديمية عالية جدا . وهنا ولضمان البقاء فى دائرة صاحب السعادة ومناطق نفوذه ،وتحت تأثير طموح الصحبة والقرب من سعادته يقترح (مشروع حواري قادم ) ان ينشر إعلان مباركة لصاحب السعادة فى صحيفة يومية ،يكون بإسم الادارة ومنسوبيها ،فتبدأ حملة جمع التبرعات من الموظفين ويسبغ عليها ذلك الموظف التقي فى سيماه ومظهره المباركة ويرى فيها تعاونا على البر والتقوى ،وتشجيعا على طلب العلم ،وخصوصا ان صاحب السعادة يجسد مرحلة اللحد فى طلبه المتأخر للعلم ،ويتبنى الحملة أيضا اكثر الموظفين تقصيرا وأقلهم انتاجية ،ويتم الضغط على الموظفين الصغار للدفع والمشاركة ،وخصوصا ان هذه الدكتوراة مجيرة للجميع ،أما صاحب السعادة فيصبح أكثر عقلانية وتوازنا ،وتصبح الاكاديمية وقياساتها وشواهدها أساس كل حراكاته الادارية والحياتية ،وتصبح المصطلحات الفضفاضة كالتضخم والخواء الفكري والمعرفي وحوار الحضارات ،مرتكزات حضوره المسرحي ،كما ان حكمه الادارية تتجلى اكثر وتواضعه الجم يصبح ظاهرة لانه يعكس ثقة عمياء بنفسه وبقرطاسه الاكاديمي المشنوق عنوة فى غرفة المشب . إن ما سقته آنفا يظل واقعا معاشا نراه ونشاهده ،وهذا لا يلغي تميز الكثيرين وإبداعهم وحصولهم على اعلى الدرجات العلمية والمعرفية ،لكن ماذنب هؤلاء المتعلمين حقيقة ،عندما يساوي المجتمع بينهم وبين اولئك المزورين؟ ،أليس هذا عيباً فى المجتمع وأفراده؟ بلى انه كذلك ،وستظل هذه الظاهرة معول هدم للمجتمع ومؤسساته المختلفة ،نحتاج وقفة صادقة من الجميع بدءا بالفرد وصولا لكل الاجهزة المعنية والمناط بها كشف هذا النوع من الاحتيال والتزوير لنحمي المجتمع ونصون أعرافه وتقاليده. علي المطوع- أبها