المجتمعات المعاصرة والحديثة تقوم على ما يصطلح على تسميته بالمؤسسية، فكل مهام الدولة، بما فيها قمة الهرم السياسي حتى أدنى المراتب الوظيفية العامة، تقوم بها مؤسسة لها هيكلها الوظيفي ومهامها المحددة بدقة، وخطتها في العمل، والأهداف التي تسعى في تحقيقها. ولا تعني المؤسسية في طبعتها الجديدة المتعارف عليها في دول العالم الحديث مجرد وجود هيكل وظيفي وعاملين ورواتب وفقط، فهذه صورة قديمة جداً، ما عادت تغني شيئاً، فأكثر المجتمعات تخلفاً لديها هذا النوع من المؤسسات؛ لأنها أصبحت بدهية في العصر الحالي. وإنما نعني بالمؤسسية الجديدة أمور عدة.. نعني بها في المقام الأول وجود خطة خاصة بالمؤسسة أو الوزارة تتناغم وتنتظم مع بقية خطط المؤسسات العامة في الدولة، فهي لا تعمل كجزيرة منعزلة وسط البحار، لا علاقة لها بغيرها من مؤسسات الدولة، بل تعمل في إطار منظومة كلية هي جزء منها. وهذه الخطة ليست خطة خاصة بشخص الوزير، مهما كانت خبرته ومؤهلاته وقدراته العلمية والعملية، فهي خطة المؤسسة أو الوزارة، وهو ما يضمن بقاء الخطة واستمرارها، حتى وإن رحل شخص الوزير بالإقالة أو الاستقالة أو حتى الوفاة. فنحن بصدد مؤسسة بالمعنى الحقيقي إذا كان للوزارة أو المؤسسة أو الهيئة الحكومية خطة مستمرة بغض النظر عن شخص الوزير الذي مع بالغ الاحترام ليس من حقه وضع الخطة، بل مهمته الإشراف على تفعيلها ووضعها موضع التنفيذ، وهنا تظهر كفاءته وقدرته وموهبته. فالخطط تضعها بيوت الخبرة وجمع من المتخصصين، لا يضعها فرد واحد، وكما أسلفنا القول يجب أن تكون الخطة متناغمة مع بقية الخطط التي تضعها المؤسسات والهيئات والوزارات، بحيث نكون بصدد منظومة متكاملة تعمل في اتجاه واحد، لا تضارب ولا تداخل في الاختصاصات. ونعني بالمؤسسية أقصى درجات الفاعلية، فليس مجرد تسيير الأوضاع يعني أن هناك مؤسسة قائمة، ومن ثم فإن مهمة الوزير أو المسؤول تكمن في تطبيق خطة الوزارة، وتحقيق أقصى درجات الفاعلية، وهنا تظهر على المحك شخصية الوزير أو المسؤول. وعندما نتحدث عن الفاعلية في المؤسسات فلابد أن يكون هناك تقييم دوري للمسؤول، يربط الإنجاز بالوقت بالخطة، فمهمة الوزير هي تحقيق أقصى إنجاز في أقل وقت، منطلقاً من الخطة، وهو ما اصطلح على تسميته بالكفاءة الإدارية في العمل. ونعنى بالمؤسسية أقصى درجات الشفافية والمسؤولية، فكل أعمال الوزارة أو المنشأة الحكومية معلنة ومعلومة، ومن اليسير لكل المواطنين الاطلاع عليها، وعلى خطة الوزارة، ومعدلات الإنجاز، وكل ما يسهم في تقويم عمل هذه المؤسسة، لأن المواطن هو نبض الحقيقة، والمقياس الحقيقي لجودة العمل. والشفافية والمسؤولية، ستعني حتمية اختيار الشخص المناسب في المكان المناسب، دون مجاملة أو محاباة، لأن كل شيء مكشوف أمام الجمهور، وهو الحكم، فكل هذه المؤسسات والوزارات والهيئات، بل بنيان الدولة كله، إنما هدفه خدمه المواطن وتلبية رغباته المشروعة. والشفافية والمسؤولية ستعني أن الوزير أو المسؤول يجب أن يرتبط بقاؤه بالإنجاز، فالوظائف العامة ليست وراثية، يبقى فيها الشخص حتى الوفاة، وإنما المعيار فيها هو الكفاءة فقط، فالمسؤول الذي يحقق أهداف مؤسسته في الوقت المناسب، يجب أن يحتفظ بمكانه، وإن أخل بذلك، فلتكن الإقالة أو الاستقالة. وهذه المؤسسية لها فوائد جمة تعود بالنفع على المجتمع والدولة والمؤسسة نفسها والأفراد من عدة جوانب، فهي ستضمن الكفاءة في أداء المؤسسات والوزارات، وربطها بمعدلات إنجاز حقيقية معلنة لكل المواطنين، وهو ما يعني خدمة أفضل، ووقف الهدر في موارد الدولة. كما أنها ستضمن اختيار أفضل الكفاءات لتولي المهام والوظائف العامة في الدولة، والتخلص من المتسللين إلى تلك المناصب في غفلة من المجتمع، إذ إن معيار الشفافية سيكشف كل شيء أمام المواطنين، وسيكون القنطرة والطريق الذي يسهل التخلص من المتقاعسين والمفسدين وعديمي الخبرة. وستضمن المؤسسية دولة معاصرة وحديثة تصل إلى أهدافها بأقل قدر من الموارد التي يجب الحفاظ عليها، وفي أقل وقت ممكن، ومن ثم يمكنها في وقت قصير منافسة الدول الكبرى، التي سلكت ما كان يجب أن نسلكه نحن منذ عشرات السنين، فوصلت إلى ما كان يجب أن نصل إليه. نريد أن نتخلص من عقدة "شخص الوزير" - مع خالص الاحترام للجميع - ونقيم دولة المؤسسات إذا أردنا خيراً لبلادنا.