من الغارات إلى التجسس.. اليمن يواجه الحرب الاستخباراتية الشاملة    الدولة المخطوفة: 17 يومًا من الغياب القسري لعارف قطران ونجله وصمتي الحاضر ينتظر رشدهم    ضبط الخلايا التجسسية.. صفعة قوية للعدو    التدريب في عدد من الدول.. من اعترافات الجواسيس: تلقينا تدريبات على أيدي ضباط أمريكيين وإسرائيليين في الرياض    نجاة برلماني من محاولة اغتيال في تعز    سقوط ريال مدريد امام فاليكانو في الليغا    الأهلي يتوج بلقب بطل كأس السوبر المصري على حساب الزمالك    الدوري الانكليزي: مان سيتي يسترجع امجاد الماضي بثلاثية مدوية امام ليفربول    الرئيس الزُبيدي يُعزي قائد العمليات المشتركة الإماراتي بوفاة والدته    قراءة تحليلية لنص "مفارقات" ل"أحمد سيف حاشد"    الأرصاد يحذر من احتمالية تشكل الصقيع على المرتفعات.. ودرجات الحرارة الصغرى تنخفض إلى الصفر المئوي    شعبة الثقافة الجهادية في المنطقة العسكرية الرابعة تُحيي ذكرى الشهيد    محافظ العاصمة عدن يكرم الشاعرة والفنانة التشكيلية نادية المفلحي    قبائل وصاب السافل في ذمار تعلن النفير والجهوزية لمواجهة مخططات الأعداء    هيئة الآثار تستأنف إصدار مجلة "المتحف اليمني" بعد انقطاع 16 عاما    وزير الصحة: نعمل على تحديث أدوات الوزارة المالية والإدارية ورفع كفاءة الإنفاق    في بطولة البرنامج السعودي : طائرة الاتفاق بالحوطة تتغلب على البرق بتريم في تصفيات حضرموت الوادي والصحراء    تدشين قسم الأرشيف الإلكتروني بمصلحة الأحوال المدنية بعدن في نقلة نوعية نحو التحول الرقمي    جناح سقطرى.. لؤلؤة التراث تتألق في سماء مهرجان الشيخ زايد بأبوظبي    وزير الصناعة يشيد بجهود صندوق تنمية المهارات في مجال بناء القدرات وتنمية الموارد البشرية    اليمن تشارك في اجتماع الجمعية العمومية الرابع عشر للاتحاد الرياضي للتضامن الإسلامي بالرياض 2025م.    شبوة تحتضن إجتماعات الاتحاد اليمني العام للكرة الطائرة لأول مرة    رئيس بنك نيويورك "يحذر": تفاقم فقر الأمريكيين قد يقود البلاد إلى ركود اقتصادي    صنعاء.. البنك المركزي يوجّه بإعادة التعامل مع منشأة صرافة    الكثيري يؤكد دعم المجلس الانتقالي لمنتدى الطالب المهري بحضرموت    بن ماضي يكرر جريمة الأشطل بهدم الجسر الصيني أول جسور حضرموت (صور)    رئيس الحكومة يشكو محافظ المهرة لمجلس القيادة.. تجاوزات جمركية تهدد وحدة النظام المالي للدولة "وثيقة"    خفر السواحل تعلن ضبط سفينتين قادمتين من جيبوتي وتصادر معدات اتصالات حديثه    ارتفاع أسعار المستهلكين في الصين يخالف التوقعات في أكتوبر    علموا أولادكم أن مصر لم تكن يوم ارض عابرة، بل كانت ساحة يمر منها تاريخ الوحي.    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    محافظ المهرة.. تمرد وفساد يهددان جدية الحكومة ويستوجب الإقالة والمحاسبة    عملية ومكر اولئك هو يبور ضربة استخباراتية نوعية لانجاز امني    نائب وزير الشباب يؤكد المضي في توسيع قاعدة الأنشطة وتنفيذ المشاريع ذات الأولوية    أوقفوا الاستنزاف للمال العام على حساب شعب يجوع    هل أنت إخواني؟.. اختبر نفسك    أبناء الحجرية في عدن.. إحسان الجنوب الذي قوبل بالغدر والنكران    عين الوطن الساهرة (1)    سرقة أكثر من 25 مليون دولار من صندوق الترويج السياحي منذ 2017    الدوري الانكليزي الممتاز: تشيلسي يعمق جراحات وولفرهامبتون ويبقيه بدون اي فوز    جرحى عسكريون ينصبون خيمة اعتصام في مأرب    قراءة تحليلية لنص "رجل يقبل حبيبته" ل"أحمد سيف حاشد"    الهيئة العامة لتنظيم شؤون النقل البري تعزّي ضحايا حادث العرقوب وتعلن تشكيل فرق ميدانية لمتابعة التحقيقات والإجراءات اللازمة    مأرب.. فعالية توعوية بمناسبة الأسبوع العالمي للسلامة الدوائية    المستشفى العسكري يدشن مخيم لاسر الشهداء بميدان السبعين    وفاة جيمس واتسون.. العالم الذي فكّ شيفرة الحمض النووي    بحضور رسمي وشعبي واسع.. تشييع مهيب للداعية ممدوح الحميري في تعز    الهجرة الدولية ترصد نزوح 69 أسرة من مختلف المحافظات خلال الأسبوع الماضي    القبض على مطلوب أمني خطير في اب    في ذكرى رحيل هاشم علي .. من "زهرة الحنُّون" إلى مقام الألفة    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    على رأسها الشمندر.. 6 مشروبات لتقوية الدماغ والذاكرة    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    صحة مأرب تعلن تسجيل 4 وفيات و57 إصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام الجاري    ضيوف الحضرة الإلهية    الشهادة في سبيل الله نجاح وفلاح    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قاسم حداد .. شاعر النار المقدسة والأخيلة المجنحة ثنائية العشق والجنون في أخبار قيس!
نشر في الجنوب ميديا يوم 25 - 12 - 2013


قاسم حداد .. شاعر النار المقدسة والأخيلة المجنحة
ثنائية العشق والجنون في أخبار قيس!
فؤاد نصر الله
المصدر: مجلة الخط- العدد34
الشاعر الكبير قاسم حداد ، وجه من وجوه الثقافة العربية المعاصرة ، وصوت متحقق ترك أصداء واسعة في الخليج والعالم العربي ومنها انطلق في كافة أنحاء العالم ، بحق.
من مواليد 1948، بالبحرين، وقد لعب دورا كبيرا في أن تصبح البحرين من البؤر الثقافية المؤثرة على المستوى العربي مع أبناء جيله ، نظرا لما اتسم به شعره من قوة وعمق ، وقدرة على استيعاب التراث ، وتمثله ثم دمجه بالجماليات المعاصرة ، وقد كان من أبرز من شاركوا في تأسيس " أسرة الأدباء والكتاب في البحرين" عام 1969. وعنها صدرت مطبوعات عديدة ذات قيمة أدبية وفكرية لا يستهان بها .
ظل قاسم حداد مندمجا في حياة مجتمعه الذي عرفه ، وأيقن أنه كلما فهمه وأدرك أسرره ، جاءت كتاباته أكثر صدقا وتأثيرا في الجمهور العريض المتعطش للثقافة الرفيعة.
استفاد قاسم حداد من الفنون المعاصرة كالسينما ، والفن التشكيلي ، والعمارة بل أن قصائده تؤكد اقترابه من فنون الموسيقى والأوبرا والباليه ، حيث نقل للنص تلك المساحة الواسعة من التشكيلي الإيقاعي واللحني في قصائد رائعة تتسم بالجودة والأصالة.
كان من الشعراء العرب الذين أسهموا في إيقاظ مخيلة حادة تلتقط أدق تفصيلات الواقع ويتم دمجها بشكل فني جميل مع اللغة التي تميزت دائما بالحيوية والعنفوان.
قد يرى بعض النقاد أن قصائد قاسم حداد متعالية على الذائقة التقليدية لجموع الناس ، لكنه يرد عمليا عبر نصوصه بأن النص الأصيل هو من يتعب الشاعر في تشكيله ، وفي المقابل فإن المتلقي عليه أن يقوم بجهد مماثل ، حيث يتورط في النص مشاركا ، ومتفاعلا ، وحاملا لذات التراث الذي يتكأ على معرفة أصيلة لا تقطع الصلة بما في الحياة من عطاءات.
شغل الشاعر قاسم حداد عدداً من المناصب القيادية في الشأن الثقافي ، أدراها بكل كفاءة وبقدر كبير من الوعي بمتطلبات المرحلة ، متصلا بالحركة الثقافية في شتى أنحاء الوطن العربي .
تولى رئاسة تحرير المجلة الشهيرة " كلمات" ، و التي صدرت عام 1987 ، ومنها مارس دورا فاعلا في التعريف بالثقافة البحرينية التي تتسم بمزايا عدة ، وتنفتح على العوالم الفنية في أكثر مناطق الكتابة توهجا.
بالإضافة إلى كونه عضوا مؤسسا في فرقة (مسرح أوال)، التي قدمت عروضها في أكثر من مكان وكان لها سمعة طيبة ، حيث انتبهت لأهمية أن ترتبط العروض المسرحية بالثقافة المحلية مع وجود ترديدات عالمية في ذات العروض التي تقدمها للمتابعين والمهتمين بالحالة المسرحية .
ترجمت قصائدهم إلى عدد من اللغات الأجنبية ، منها الإنجليزية والفرنسية .
أما عن مسيرة حياته فيمكن تلخيصها في كونه شخصا عصاميا بكل معنى الكلمة ، فقد تلقى تعليمه بمدارس البحرين حتى السنة الثانية من المرحلة الثانوية. بعدها التحق بالعمل في المكتبة العامة منذ عام 1968 حتى عام 1975 ، وهي فترة شكلت ثقافته وغذت وجدانه ومدته بروافد ثقافية ضرورية ، كما جعلته قريبا جدا من الكتاب ثم عمل في إدارة الثقافة والفنون بوزارة الإعلام منذ عام 1980.
لم يعش قاسم حداد في عالم مغلق بل اهتم كثيرا بأن يتداخل مع الشأن العام عبر مقالاته المتخصصة في الفن والحياة في عدة صحف عربية .
حول نصوصه الأدبية كتبت عنه عدد من الأطروحات البحثية الأكاديمية في الجامعات العربية والأجنبية، كما تناولت أعماله الرصينة والرائدة العديد من الدراسات النقدية بالصحف والدوريات العربية والأجنبية.
يعتبر من أهم المشاركين في المهرجانات العربية والدولية بقصائده ودراساته وكتاباته ، ومن بينها : مهرجان المربد - بغداد – 1974، مهرجان أصيلة العاشر 1987- المغرب – 1986، مهرجان جرش - الأردن – 1997، المؤتمر الأول لاتحاد الكتاب اللبنانيين - بيروت 1984، مهرجان الإبداع - القاهرة ، ندوة العمل الثقافي المشترك (الكويت / الرياض)1985، لقاء الشعر العربي الفرنسي- غرنوبل - فرنسا / الرباط - المغرب 1986 ، الندوة الشعرية في مئوية جامعة جورج تاون - واشنطن 1989، ندوة الانتفاضة الفلسطينية - صنعاء 1989، معرض الكتاب في الشارقة - الإمارات العربية المتحدة، ندوة أبو القاسم الشابي- فاس - المغرب – 1994، مهرجان مؤسسة الهجرة للثقافة العربية- أمستردام- هولندا – 1998، بالإضافة إلى مهرجانات عديدة أخرى.
أما إصدارته ، فهي أكثر من أن تحصى ، نذكر منها : " قلب الحب" .. بيروت 1970 ، "الدم الثاني " .. البحرين 1975، "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة" .. بيروت 1972، " البشارة" ..الكويت 1970 ، " النهروان" .. البحرين 1988 ، " انتماءات " .. بيروت 1982 ، " شظايا " .. بيروت 1981 ، " القيامة " .. بيروت 1980 ، " مجنون ليلى " لندن 1996 ، " عزلة الملكات " .. البحرين 1992، " يمشي مخفورا بالوعول" .. 1990 ، " الجواشن" .. المغرب 1989، " علاج المسافة " .. تونس 2000، " قبر قاسم ".. البحرين 1997، " المستحيل الأزرق".. مع صالح العزاز ، " الغزالة يوم الأحد" .. بيروت 2010 ، إضافة إلى سيرة شخصية لمدينة المحرق وغيرها من كتابات في فن السيرة.
قاسم حداد بلا منازع ، هو شاعر النار المقدسة ، والأخيلة المجنحة .تلك النار التي اختطفها من أعلى القمم الشاهقة ، ووهبها لجمهوره المتذوق ، باسطا لهم أجنحة " المخيلة " التي راحت تسمو حتى بلغت الأعالي دون أن تفقد مرجعيتها الأرضية!
في هذه القراءة السريعة نحاول الولوج إلى أعماق قاسم حداد من خلال أخبار مجنون ليلى:
" أخبار مجنون ليلى " .. هي تلك البوابة التي ندخل بها عوالم قاسم حداد الشاعرية ، مشتبكا بالسيرة الذاتية ، مضمخا بعذابات العشاق من خيرة الشعراء ، موصولا بتراث الفرسان في شبه الجزيرة العربية .
كتب قاسم حداد نصه البديع في العام 1996 ، عن " قيس " محاولا أن يمد بصره عبر فضاءات ترتهن بأنين العشاق ، ووله المحبين ، ومتاريس العيون الحزينة التي تراقب كل شيء في البادية . تسري نسائم " البحرين " في خلايا النص ، وهو ينزع إلى ملاقاة الهوى الذي ضيع الروح وأسرها في قمقم اللغة ، غير أن الشاعر بطبعه متمرد ، وبما لديه من حدس ومقدرة على رؤية ما يمكن أن تشكله النار من معادن مصهورة ، وأحاسيس متشظية ، يكون البناء الشعري عبرطبقاته المتراكبة . إنه يتلمس موقف المتأمل ، متحسسا طريقه في هدوء الحكماء ، ونبرة الشجن التي تتسلل في ثنايا النص:
سَأقُولُ عَنْ قيس
عَنِ الهَوَى يَسْكُنُ النّارَ.
عَنْ شَاعِرٍ صَاغَنِي في هَوَاهُ.
عَنِ اللَّوْنِ والإِسّْمِِ والرَائِحَةْ.
عَنِ الخَتْمِ والفَاِتحَةْ.
القول هنا يبدأ من لحظة المس ، حين تصوغ النصوص شاعرية متقدة ، لتشمل عدة عناصر تشمل الاسم واللون والرائحة ، وكلها تؤدي إلى نوع من الإعتدال في القول والحركة مع إزاحات جمالية تحوم في دوائر الدهشة :
كُنْتُ مِثْلَ السَدِيمِ ، اْسَتَوَى فِي يَدَيْهِ.
هَدَانِي إِليْهِ.
بَرِئْتُ مِنَ النَاسِ لَمَّا بَكانِي إِليْهِمْ
زَهَا بِيْ وغَنُّوا الأَغَانِي بأشْعَارِهِ.
تتولد من الأحزان طاقة هائلة ،تتحول إلى قصائد تلقى هنا وهناك على هدي من تلك المشاعر التي تأخذ حركتها من مد وجزر ، وهنا تكون للأغاني شهوة الوصال بالحبيبة التي تمترست خلف كبريائها. هكذا يستشعر القلب ما وراء البهجة من ترانيم متأسية ، وهو موقف يجمع ثنائية الإشتعال والإنطفاء :
فَمَا كانَ لِي أَنْ أُقَدّرَ هَلْ أَشْعَلَنِي أَمْ طَفَانِي.
سَأقُولُ عَنْ قَيس
عَنْ جَنَّةٍ بَينَ عَيْنَيَّ ضَاعَتْ
عَنْ هَوَاءٍ أَسْعَفَ الطَيْرَ واسْتَخَفَّ بِنَا واصْطَفَانَا
عَنْ كُلّمَا هَمَّ بِيْ تُهْتُ فِيهِ
هنا يبرز وجه " قيس " بكل ما يحمله في تراثنا القديم من بلاء مقيم ، حيث قصائد العشق مضمخة بعذاباته حيث يقف وحيدا يدفع الوحدة بأبياته الشعرية الصادقة التي تعبر عن لواعج النفس . هنا يستحضر قاسم حداد صورة الطائر وهو يحرك جناحيه في الفضاء فيعلو كي يفارق الأرضي فيما قلب الشاعر نفسه موصولة بالأرض وأثقالها. هو إذن مزيج يجمع الأضداد ويستحضر الجغرافيا من بين طيات الكتب والأطالس وسطوح الرمال ، وكثبانها ، وتموجات الخليج ، وجبال الحجاز ، فالشعور بالألم يجمع بين الأشياء المتباعدة ، ويعيد تنضيد الحياة بكل ما فيها من تناقضات :
وبَاهَيْتُ كَيْ نَحْتَفِي بالمَزِيجْ
عَنِ العِشقِ تَلتَاعُ فِيهِ الحِجازُ
ويَشّْغَفُ فِي ضِفَّتَيهِ الخَلِيجْ.
يستعيد الشاعر وجه " قيس " ويكشف عن مأزقه ويردد أحزانه ، خاصة حينما يهبط الليل فيشعر بالعزلة وبالمأزق الذي يعيشه. سؤال يوجهه قاسم حداد لقيس ويوجهه لنفسه: هل كانت قصيدة العشق هروبا من المواجهة أم اقتراب من النار المقدسة؟
ذلكم هو السؤال الصعب ، الذي يندرج ضمن ترديدات مؤجلة ، وتتحول إلى مجال بصري لرؤية الذات وهي واقعة في شبكة التساؤلات المستحيلة :
سَأقُولُ عَنْ قَيس
عَنْ حُزْنِهِ القُرّْمُزِيِّ
عَنِ اللَّيلِ يَتْبَعْ خُطَاهُ الوَئِيدَهْ
عَنِ الماءِ لَمَّا يَقُولُ القصيدة
الماء الذي تحدث عنه شاعر هو محمد العلي ، في تحولاته ، يظهر في قصيدة قاسم حداد مرتبطا بمحنة القلب حين يتلفت فلا يجد حبيبا ولا يعثر على مجيب . وتتصنت الأذن على قوافل تدب فوق رمال الصحراء مخترقة الدروب المهجورة ، متوسلة بالموج سبيلا للخلاص ، والهودج يهتز فيتأرجح الجسد ، وتكمن الروح الحزينة في محارة تختص ببكاء قديم موصول بالنداءات التي تسربها الطيور المائية . يبدأ البكاء مع ظهور " الوحش " ويكون السؤال عابرا للأزمنة ويقابل قاسم حداد قيسا وهو يتبادل معه الأمكنة والأزمنة والهواجس . لا أحد يعرف الحدود الفاصلة بين قيود الزمن وتشوشات المكان ؛ خاصة عندما ترتحل القوافل ، فلا يكاد يصلنا منها غير " الحداء " مأسورا بالأحزان القديمة . ولا يبقى من حركة القوافل المسافرة بين المدن وعبر الصحاري غير الخيول الشريدة التي هي الوجه الخفي للمخيلة :
بَكى لِي البُكاءَ،
وهَيأَ لِي هَوْدَجَاً
وانْتَحْى يَسْأَلُ الوَحْشَ عَنِي
كَأَنِّي بِهِ لا يَرَى فِي القَوافِلِ غَيْرَ الخُيول الشريدة.
يحفل تاريخنا القديم ببعض صور الجفاء ، والتخلي عن أبناء القبيلة كلما كان ذلك مؤديا إلى رسوخ قبضة شيخ القبيلة . تنكر القبيلة بعض فرسانها لكنها تبكيهم ليلا ، ويصبح دمه مستباحا ، حين ينزع السيف من غمده كي يطعن القلب الجسور الذي أحب ، وتظهر أرض نجد لتكون مسرحا للفجيعة ، مستحضرة تراثا متسلسلا بذكريات القتل الرحيم ، والهجر دون سابق إنذار:
سَأَقُولُ عَنْ قَيس
عَنِ العَامِرِيَّ الذِي أَنْكَرَتْهُ القبيلةُ.
عَنْ دَمِهِ المُسْتَبَاحْ.
عَنِ السَيْفِ لَمَّا انْتَضْاهُ مِنَ القَلْبِ
واجْتازَ بِي أَرْضَ نَجْدٍ لِيَهْزِمَ كُلَّ السِلاحْ.
يعرف الرب أن الفرسان الشجعان كثيرا ما يخسرون المعركة إذا خاضوها بشرف ، وهو الشيء الذي ينتبه إليه قاسم حداد ، وهو يعيد ترتيب أوضاع القلب من هزيمة وانتصار ، من كر وفر ، من إقبال وامتناع . هو وقت يصلح للذاكرة المجهدة ، حيث يبحث الفارس عن تلك اللحظات التي تمنح النفس الشعور باللذة ، وهنا تتقلب القلوب وتعود الخيول لتصهل في رقعة الصحراء وفي الذاكرة لتشير بقوة إلى نوبات الإغارة الممعنة في قسوتها ، والصهد الذي يغسل الجسد وتتوهج به الروح :
عَنِ اللذَّةِ النادرة
عَنِ الوَجْدِ والشَوْقِ والشَهْقَةِ الساهرة
عَنِ الخَيْلِ تَصْهَلُ بِي فِي الليالِي
والصَّهْدِ يَغْسِلُنِي فِي الصَبَاحْ.
يتوحد قاسم حداد مع قيس ، في تلك اللحظة الفارقة حيث يصبح كلاهما على شفا القصيدة المستحيلة ، ويكون النداء للبعيد بينما هو اقرب من حبل الوليد. ربما يستطيع القلب أن ينجو من محنة الهزيمة والشعور بخديعة الاصدقاء وتخلي القبيلة عنه . هو موقف شديد البؤس والهشاشة غير أن " الدم الساهر" في عروق الشاعرين يتسلل لخلايا التي تعرف كيف تجيد الإنشاد في محنة الوجود:
و يا قَيسُ يا قَيسُ
جَنَّنْتَنِي أَو جُنِنْتَ ،
كِلانَا دَمٌ سَاهِرٌ فِي بَقايَا القَصِيْدَةْ.
يتوقف النشيج الحزين ويعرف قاسم حداد بطله المغترب بكل أسماله وأحزانه ، ويخرج عن جسد النص الشعري ليبدأ مواجهة بشكل مختلف، وافق جمالي ينفتح على حقول دلالية شديدة الثراء .
قاسم حداد يشحذ المخيلة ، ويشكل لنا نصا شعريا عالي القيمة ، ثريا بالأفكار الجديدة ، متسلحا بوعي المفكر ، وبهاجس المواطن ، وبروح الفارس النبيل.
ماذا يمكن أن يقول عن ليلى ، وهي الطرف المقابل لقيس في ذات المحنة ؟
هنا يسرح الشاعر بمخيلة مبتهجة وبصور بكر غناء ، عبر لغة مثقلة بالرقة . يتحدث عن تلك البدوية التي خلدتها القصيدة وعن المغامرة التي خاضها الفارس حين تشبب بالجيد والقد واللمحة.
يختطف قاسم حداد النار المقدسة ويضمنها نصه الشعري ، متوسلا بلغة تجمع القديم بالحديث في مزج لغوي جميل، متخطيا محنة الفارس لذي أسقطه الهوى وخذلته تقاليد القبيلة رغم نبله وفروسيته :
عن ليلى
سَأقُولُ عَنْ ليلى
عَن العَسَل الذِي يَرْتَاحُ فِي غَنَجٍ على الزَنْدِ.
عَنِ الرُمَّانَةِ الكَسْلَى.
عَنِ الفَتْوَى التِي سَرَّتْ لِيَ التَشْبِيهَ بالقَنْدِ.
عَنِ البَدَوِيَةِ العَيْنَينِ والنَارَينِ والخَدِ.
يرنو للافق البعيد مستحضرا تفاصيل المأساة ، متوجا إياها بمغامرة الكشف فيما العشق يري بسرية في تلك الهضاب القاحلة . ونلمح " نجدا" في تضاريسها ، مشتبكة بملامحها وذاكرتها ، أما ليلى فتحضر شاهدة على الجفوة التي انتقلت لدائرة الإبعاد والنبذ ثم صارت المأساة متجسدة في تلك القطيعة المؤلمة:
لَها عِنْدِي
مُغَامَرَةٌ تُؤَجِجُ شَهْوَةَ الشُعَراءِ لَوْ غَنُّوا
صَبَا َنجْدٍ مَتَى قَدْ هِضْتَ مِنْ َنجْدِ
عَنِ النَوْمِ الشَفِيفِ يَشِي بِنَا.
عَنْ وَجْدِنَا ، عَنْها.
لِئَلا تَعْرِفَ الصَحْراءُ غَيْرَ العُودِ والرَنْدِ.
تكتسي القصيدة بوشاح حزين ، فيما يأتي المعجم اللغوي من نفس المفردات الكلاسيكية بعد نخفيف الوحشي عنها :
سَأقُولُ عَنْ ليلى
عَنِ القَتْلى.
وعَنْ دَمِنا الذِي هَدَرُوا.
عَنِ الوَحْشِ الصَدِيْقِ.
وفِتْنَةِ العُشاقِ
واللَّيلِ الذِي يَسْعى لَهُ السَهَرُ.
هو العشق القاتل ، والصحراء التي تبتلع الرغبات والقبيلة التي تدفن النسوة احياء بعشقهن . ثم ترتد الذاكرة لترسم صورة طفلين في براءة الحياة ، وتتولد مشاعر في غاية النقاء تنكسر في اصطدامها مع التقليد ، وهو ما يحدث في وقتنا الراهن بإزاحات بسيطة تخفي قسوة المشاعر وجمود القلب في تلك المنطقة من العالم ، حيث تستبعد كل عاطفة صادقة في مقابل تقاليد راسخة لا يمكن تجاوزها أو تخطيها:
عَنِ الطِفلَينِ يَلْتَقِيانِ فِي خَفَرٍ
ولَمّْا يُزْهِر التُفاحُ يَخْتَلِجانِ بِالمِيزانِ
حَتْى يَخْجَلُ الخَفَرُ.
لِليْلى شَهْقَةٌ أَحْلى
إِذا ما لَذّةٌ تَاهَتْ بِنا
وَتَناهَبَتْ أَعْضَاءَنا النِيرانُ.
مُتْنا أَو حَيِينا.
أو يَقولُ الناسُ أخْطَأنا.
في تلك المنطقة الحرجة سيكون البكاء حلا وحيدا للمحنة التي تستعد لقص المشاعر والتنكيل بالقلوب الغضة. لا يمكن توقع الغفران ن ولا تصور يمكن ان يعفي المحب عن جريمته التي تتمثل في صدق مشاعره. يطل الحزن من العيون ليغمر المشهد كله:
سَتَبْكِي حَسْرَةٌ فِينا إذا غَفَرُوا.
سَأقُولُ عَنْ لَيلى
عَنِ المُسَافِرِ عِنْدَمَا يَبْكِي طَوِيْلا
عَنِ السِحْرِ اللَّذِيْذِ إِذا تجَلّى فِي كَلامِ عُيُونِها
عَنْ نِعْمَةٍ تُفْضِي لأنْ أقْضِي رَحِيلا
عَنْ مَراياها مُوَزّعَةً تُخَالِجُ شَهْوَةَ الفِتْيانِ
عَنْ مِيزَانِها مَشْبُوقَةً.
عَنْ عَدْلِهَا فِي الظُلْمِ.
عَنْ سَفَرِي مَعَ الهَذَيَانِ.
عَنْ جِنِيةٍ فِي الأِنْسِ تَنْتَخِبُ القَتِيلا
كل هذه الصور تؤكد المحنة التي تعرضت لها ليلى ، وكيف جرت الأمور ، حتى وصل " قيس " إلى حافة الجنون ، ليهرب نفسيا من مواجهة هزيمته المدوية . قاسم حداد يستعير " قناع قيس " ، ويمد يده لليلى فإذا هي ترتعد فقد اشتركت في جريمة الصمت حين جلل المشهد كله:
لَيْلايَ لَوْ يَدُهَا عَليَّ
ولَوْ يَدِي مَنْذُورَةٌ تَهَبُ الرَسُوْلا
سَأقُولُ عَنْها مَا يُقالُ عَنِ الجُنُونِ إذا جُنِنْتُ
ولِي عُذْرٌ إذا بالَغْتُ فِي مَوْتِي قَلِيلا.
ينتهي المشهد ببالموت ، وهو فعل ساكن فيما ماء القصيدة يعلن عن حياة مشحونة بمشاعر نبيلة تفيض في نجد وتصل الحجاز ، وتسكب عطرها في ماء الخليج.
هذا هو مدخلنا لمقاطع مختارة من هذا النص الشاهق الذي يعبر عن حب قديم ورؤى جديدة ، ومحن متجددة.
بالمخيلة ، وبالمشاعر الرهيفة وباللغة الطازجة ، وأيقونات قاسم حداد تتردد الحكاية لقديمة بعد ان يعاد تنضيدها على مهاد العصر ، فإذا كنا نكاد نطوي صفحة العام 2013 فثمة كلام كثير يمكن أن يقال ولغة يمكن ان تصبح جارحة وشاعر لديع عنفوان القول والرؤى وفتنة الخيال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.