كنت في العاشرة من عمري عندما خاطبت أمي الدكتورة غادة الحوطي قائلا: «أمي.. أرجوك ألا تكبري!!»، التفتت إلي باسمة وقالت: «ولماذا يا حبيبي؟» أجبتها بصوت الطفل الصغير الحاني: «لأنني لا أريدك أن تصبحي جدة!!»، فوجئت أمي بإجابتي وضمتني إلى صدرها وغلغلت أصابعها بين شعيرات رأسي وتساءلت: «ولماذا يا صغيري؟»، قلت لها:»لأنك جميلة ولا أريد لك أن تخسري جمالك يوما ما!»، قلتها ولعل ما كان يدور في خاطري هو صورة الجدة التي غلبتها السنون وغزتها مظاهر الشيخوخة.. ضحكت أمي فخورة بإعجابي وبراءتي وقبلت جبهتي وأنهت حوارنا قائلة: «أعدك يا حبي أن أبذل جهدي لأظل أجمل ما أستطيع طوال عمري». احتفظت بهذا الوعد في قلبي وذاكرتي، وما زلت أتخيل كيف كانت ستشرق اطلالة أمي في هذا اليوم 17 نوفمبر 2013 الذي كانت ستبلغ فيه الثانية والخمسين من العمر، ولو كان لي أن أستعيد الزمان لتمنيت لها عكس ما تمنيت وأنا في العاشرة ولدعوت الله أن يحفظها لي حتى وإن أصبحت جدة، كما حدث فعلا عندما أنجبت شقيقتي مولودها الأول وكانت أمي في الثانية والأربعين من عمرها، ولكن أمي لم تكمل عامها السادس والأربعين عندما اختطفها المرض الخبيث وهي في ذروة جمالها أماً وجدة، لقد صارعت أمي المرض وهو يقضم حياتها رويدا رويدا، وقاومته يوما بعد يوم مدافعة عن حياتها وعن جمالها ووعدها الذي قطعته لذلك الصبي الصغير الذي لم يرد أن يعرفها إلا جميلة. لقد شب الطفل الصغير وحيدا بعد أن تركته أمه إلى دار الخلود، وبات يتساءل كيف يا ترى كان سيشعر بلمسة يدها وهو يقبلها مهنئا بذكرى ميلادها الثاني والخمسين؟ هل كانت يدها ستبدو بالنعومة نفسها التي شعر بها عندما داعبت بها شعيرات رأسه؟ وكيف كانت ستكون إجابتها لو داعبتها متسائلا عن عمرها وهي التي كانت تحتفظ به سرا خطيراً لا تتقبل بشأنه المزاح؟ لقد غضبت مني يوما عندما أعلنت أنها قد بلغت التاسعة والثلاثين فكيف كانت ستشعر لو علمت أنني قد أعلنت على الملأ أنها في هذا اليوم كانت ستتجاوز الخمسين بعامين كاملين؟ اعذريني يا أماه، فأنا أحبك مهما كان عمرك. في هذا اليوم لا أملك إلا أن أحمد الله الذي جمعني بك في هذه الرحلة القصيرة التي كانت أشبه بالومضة منها بعمر، ولا أتمنى إلا أن أكون لك ابنا باراً تفخرين به كما أتباهى بك دائما أماً حنونا عطوفة محبة رائعة بهية.. إنني أشعر بوجودك معي يا أمي وكأنك لم تفارقيني لحظة، أشعر بك في قلبي وأمام ناظري وكأنك ترعينني وتقومين مساري لو أخطأت وتتابعين معي نضجي وحياتي، لقد منحتني أجمل سنوات عمري عبر تسعة عشر عاما قضيتها معك قبل أن ترحلي، واليوم ما زلتِ نبراسي المضيء ومثلي السامي وما زلت أسعى لكي أجعلك أكثر أمهات الدنيا فخراً واعتزازاً لأرد بذلك جزءاً يسيراً من صنيعك لي. يا أيها الشباب في كل مكان، لا تضيعوا فرصة وجودكم مع أمهاتكم!! قبلوا أيديهن، واحتضنوهن، ودللوهن، واعلوا منزلتهن، ولا ترفضوا لهن طلبا، ولا تجعلوهن يمضين ليلة واحدة دون أن تحظوا برضاهن، فالعمر قصير، وقد تستيقظون يوما لتجدوا أنفسكم تتحسرون على ما لم تفعلوا لهن!! كل عام وأنت بخير يا أمي في جنات النعيم عند رب عزيز كريم!! كل عام وأنت أمي، الجدة الجميلة الشابة، كما عرفتك دائما.. كل عام وأنت بخير يا من أكرمتني بأغلى ما أملك.. وهو أن أكون ابنك!! فيصل كيال - جدة