البنك المركزي بصنعاء يكشف عن مواصفات الإصدار الجديد من الفئة الورقية فئة 200 ريال    إيران: استمرار تقاعس مجلس الأمن تجاه تصرفات الكيان خطير للغاية    انتقالي لحج يناقش تعزيز العمل المشترك ويستعرض التطورات المحلية    ترامب يتوعد روسيا برسوم جمركية بنسبة 100 بالمئة    عند تصنيف أمريكا للإخوان كإرهابيين.. كيف ستتعامل دول التحالف مع حزب الاصلاح    الرئيس الزُبيدي يعزّي ممثل المجلس الانتقالي في هولندا بوفاة والده    مجلس المستشارين يبدأ تقييمًا شاملًا للتحديات التعليمية بعدن ويضع خارطة إصلاحية    ميناء سمهرم أو خور روري أحد أهم موانئ مملكة حضرموت القديمة    اسباب ارتفاع الضغط وعلاجه بلاعشاب    اقرا تفاصيلها    كأس العالم للأندية حتى الفشل له ثمن باهظ في سيرك "فيفا" الذهبي    السعودية في المرتبة الثانية بين الدول الناشئة في تمويل رأس المال الجريء    حزب الله اللبناني يدين المجزرة الصهيونية في وادي فعرا بالبقاع الشمالي    المحمدي يلتقي المناضل أديب العيسي ويشيد بدوره في تعزيز الشراكة الجنوبية    غدًا سكان وموظفو الدولة بمناطق صنعاء سيصلون لله في الميادين والحدائق اقرأ الاسماء    محافظ الحديدة يدشّن موسم حصاد التمور ومشروع التجفيف بمديرية التحيتا    حضرموت بين قلق السيادة ومزالق الخصومة: نحو عقدٍ جنوبيّ جديد يعيد التوازن والريادة    متوسط أسعار الذهب في صنعاء وعدن الثلاثاء 15 يوليو/تموز 2025    بن حبتور يطلّع على نشاط مركز تقنية المعلومات بوزارة التربية    إب .. رحيل مؤلم لمعلم افنى حياته في تعليم الاجيال    ريال مدريد يعلن تعاقده مع الاسباني الفارو كاريراس    النصر السعودي يعيّن جيسوس مدربا للفريق    مودريتش يبدأ المغامرة الرابعة    صرخة عطش من قلب تعز المحاصرة    وزارة الأوقاف تعلن تدشين أعمال موسم الحج القادم    المجتمع ميدان لمعركة الوعي    تدشين فعاليات موسم نجم البلدة السياحي لعام 2025م بالمكلا    وزير الخارجية يلتقي المبعوث رفيع المستوى لبرنامج الأغذية العالمي إلى اليمن    مصر تسدد مليار دولار    "بعدان وبيت بوس" يسجلان أعلى نسبة في كمية الامطار المتساقطة    العبث بمصائر الشعوب    برشلونة يعلن رحيل لاعب وسطه بابلو توري إلى صفوف فريق ريال مايوركا    بنك في صنعاء يعلن نقل مقره الرئيسي إلى عدن    دعوة للمشاركة في أداء صلاة الاستسقاء غدا الأربعاء 10 صباحا    الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض طائرة مسيرة أطلقت من اليمن    نجاح اختتام الاختبارات التحريرية للشهادة التكميلية بمدارس تعليم القرآن الكريم    المدير العام لفرع الهيئة العامة لحماية البيئة بساحل حضرموت تؤكد الأهمية البيئية لظاهرة موسم البلدة    مناقشة دعم الصليب الأحمر لمشاريع تنموية وإنسانية في البيضاء    كنز دفين منذ 5500 عام.. اكتشاف مقبرتين داخل "أهرامات" في بولندا!    زفاف جماعي رابع عشر ل 38 عريساً وعروس بالبيضاء    بلاتر يفتح النار على السعودية    الشيخ بريك صمودة : المهرة لن تفرط بأمنها واستقرارها ونرفض أي جموع من خارج المحافظة    تعرف على رحلات طيران اليمنية اليوم الثلاثاء    أخطاء شائعة في تناول الأدوية قد تعرض حياتك للخطر!    الوزير البكري يوجه بمتابعة أرضية ملعب نادي الجلاء بعدن    مستشار ألمانيا.. "إسرائيل تقوم بالعمل القذر من أجل الغرب"    عبدالفتاح إسماعيل ابتهج بمقتل سالمين وأرتعب وخاف عندما رشح للرئاسة    "نيويورك تايمز" تعترف بتعمّد أمريكا قصف مركز إيواء المهاجرين بصعدة    طارق صالح يرفض الحضور إلى عدن ويصف العليمي بالفاشل    حلم تلاشى تحت وطأة صفعات قوية    بيان للرأي العام    نصائح عملية للحد من التعرق المفرط في الصيف    حنان مطاوع تعود إلى المسرح بعد غياب 10 سنوات ب"حتشبسوت.. العرش والحب"    الامم المتحدة: تفشي شلل الأطفال في 19 محافظة يمنية    تدمير مستوطنة أثرية جنوب صنعاء وسط صمت رسمي    مرض الفشل الكلوي (12)    يهودي من أبوين يهوديين.. من هو الخليفة أبو بكر البغدادي؟    العام الهجري الجديد آفاق وتطلعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل من كتاب اسهار بعد اسهار
نشر في الجنوب ميديا يوم 25 - 12 - 2013


(بهجة غرابة)*
تترك الخالة " بهجة غرابة " باب بيتها في الجيب الشرقيِّ من الدومة مشرعاً ، وتأتي إلي ساحة بيتنا في وقتٍ مبكِّر جداً من النهار ، حتي أنه متأخرٌ جداً من الليل ، مرةً كلَّ عام ، رحلة موسمية انهار بموتها ، جمالُ طقوسها بتصرفاتٍ مرتفعة .
كانت أمي التي تتوقع بالتجربة ريقها المسائيَّ ، تستيقظ مبكراً لتعدَّ لها الإفطار عن طيب خاطر .
بمجرد أن يحتدَّ نباح الكلاب الصيفيُّ ، وتبدو واضحةً ارتطامات أقدامها القصيرة بأعواد الذرة ، تنادي من داخل بيتنا بصوت ركيك نوعاً ما :
- خالة بهجة !
وسرعان ما يعلن صوتها الخائف تحققها ، وتفتح الباب أمي ، وتختبئ الخالة بمأمن خلف باب بيتنا حتي يتمَّ الضوء دوائره .
كنت أعرف أنَّ أبي لابد أرسل لها في العشية الفائتة رسولاً ، يخبرها بأن مظانَّ الذرة من مساحات أرضنا قد أتمت عطائها ، وأنَّ جِمالنا قد نقلت أعوادها إلي ساحة بيتنا ، وأنَّ عليها الحضور لمساعدتنا في تحرير كيزانها من أغلفتها الجافة جفافاً اعتباطيا ،
كنتُ أدرك أيضاً ، أنها لابدَّ تدرك تماماً ، موعد طقسنا الحوليِّ ، ولكن بروتوكول الاستدعاء جزء أساسيٌّ من معادلة الرحلة .
كانت هي تميمة ذلك الطقس التي أمَّنت له الصمود أمام اكتفاء الكثير من بيوتنا ، تعقيباً علي سفر الكثيرين من رجالنا إلي دول النفط ، وارتفاعها عن الحاجة عن سلةٍ ممتلئةٍ من كيزان الذرة يعودون بها بعد يوم مرهق من العمل ، ولذلك كان أبي يضبط موعد التقشير علي احتمال مجيئها من عدمه .
لقد كان الكثيرون يأتون فقط للتمتع بما تجيد هي العثور عليه من المضحكات في الظلال السهلة ، هولا يسلم تماماً من التكرار الموسميِّ ، هذا صحيح ، ولكنه يكتسب ، بما تضيف إليه هي من شخصيتها المتجددة كلَّ مرةٍ ، نقاطاً إضافيةً في مقاييس القلوب المفعمة بآلام الفقد ، وآلام الشوق إلي من ابتلعهم يقين الاغتراب ، للسكينة القليلة ، القليلة .
ما إن ينتظم عقد المقشِّرين حتي تزداد النظرات إلي هدوءها الصناعيِّ استنكاراً ، فجأة ، تتصيد لحظة تختارها بعناية ، تتواكبُ عادة مع تكدس أعواد الذرة المخلاة بجوار المقشرين بما يتَّسع للولد عصام ، والعم خيري أبو همام ، والعم عدلي بظيو ، أن يبدأوا العمل المنوط بهم ، وينقلوها في حزم ٍ، علي سلم من الخشب ، إلي سطح بيتنا ، وتقول بصوتٍ مرتفع :
- وعايزلو فتلت صوف !
وأمسك بالملل يتبدد ، وتنبسط الوجوه ، وتهتزُّ أعواد الذرة في الأيدي المرتجفة بفعل استحواذ الضحكات ، ثمّ .. وكأنما انهار وعيها ، واختلطت في ذهنها الحقائق بالأوهام ، تردد كالمجنونة ، وبصوت منغم ، كلمات احتفظ بها ذهنها من مسلسل قديم ، أكاد أتذكر أنها كلمات من إطار شخصية جسَّدها الفنان علي الغندور :
– ياسيدي دفتر وكراسة ، يا سيدي دفتر وكراسة !
يحتد إيقاع الضحكات ، وتردد هي نفس الكلمات بإيقاع مغاير :
- يا سي دي ، دااا فتر ، وي كوراسة داا فتر ، يا سي دي .. !
ويشتعل الهواء مكاناً أفضل للعيش ، ثم .. تضع يدها مفتوحة ومنحرفة خلف أذنها كالمقرئين وتصيح :
– البت قالت لابوها ولا اختشت منِّيه ،
يبايا توب الحيا بان . والنهد بان . منِّيه !
ويسري الجنون من نفس إلي نفس ، ويتوقف العم خيري أبو همام عن العمل فجأة ويصيح :
- يبي يبي يبي يبي !
وتستأنف هي جنونها المدبر :
- يبايا زرعك الوخري طاب ، لمّو
يتوقف الولد عصام عن العمل فجأة ، ويمسك سريعاً بطرف الموال :
– لاحسن عيال الأواهر ، يقطفوا وردو ، ويعوِّلوك ، همّووو ، يا بووووي !
تشاركهم الضحكات الجنون ، فيتوقف البعض عن العمل تماماً ، يظلُّ العم عدلي بظيو داخل اتزانه المزمن تماماً ، وتتباكي الخالة بهجة فجاة ، وتصيح نادبة :
- وزرعنا الحنة ، وكترت لحزانيييي ، إهه إهه إهه ، وووووووووووه !
يتداخل عصام سريعاً مع حالتها :
- كان بدري عليك يا قنيَّان ، سيَّبتني لمين يبايه ، يا بووووووووي !
تنفجر الضحكات ، وتفلت من جدتي خيوط السيطرة علي تماسك العمل ، وتضطر ، دفعاً للانهيار إلي التدخل :
- بهجة ، خليك ف حالك ، وخلي الأنفار يشتغلوا !
تزداد العيون تطلعاً ، كان يطربون لأيِّ سخرية تطال جدتي ، كانت العضلة العصية التي تدرأ الطامعين عن أشياءنا ، ولا تخيب الخالة بهجة عادةً أملهم ، وتنظر إلي جدتي في ازدراء مدبر وتصيح في تهكم :
- ها ها هأ ، ها ها هأ ، مين ؟ نورا ، يا سيدي نورا ، يا عيني نورا ، والعفشة نورا ، وعايزالها فتلت صوف ! .
وأري الأعواد ترتجف في عصبية مع إيقاع الغناء ، وأري عصام ممسكاً بعود من الذرة ، رفعه بإحدي يديه إلي الأعلي ، وانخرط في الرقص .
وأري جدتي تخبئ ضحكاتها في جيب طرحتها ، وبعينين دامعتين ، وبصوت مكدس بالضحكات تقول لي :
– يا واد روح عيِّط أبوك !
لا أذهب ، ولا ينهار السامر ، كانت تعرف ، وكنت أعرف أن أبي ، حتي لا يقمع حرية هؤلاء المتعبين ، يفضل في ذلك اليوم ، مراقبة الطقس بكلِّ جوارحه من البيت ، ويشاركنا ضحكاتنا أيضاً ، ويبارك جنون الخالة بهجة والآخرين .
وأنه سوف يجئ بمجرد أن ينتهي العمل من تلقائه ، ليوزع أجور العاملين ذرة ، وسوف يخص الخالة بهجة بكرم ٍ إضافيٍّ ، وإيماءةٍ ضروريةٍ لتستمرَّ الرحلة .
وأنا أستعيد الآن حداثة تلك الصور يدهشني كثيراً أنني كنت أبكي بعيون حقيقية ، إذا لم يعاملني أبي كالغرباء ، فلا يعطيني أجري من الذرة ، يدهشني أيضاً تلك السعادة الممتلئة التي تستحوذ عليَّ عندما يستأنف كرمه ، ويعطيني أكثر من حقي .
أنتبه الآن .. أنه كان يخدعني بتظاهره بالإسراف في الكرم حيالي ، لقد كان يعرف بالتأكيد الزائد عن الحد ، أني عما قليل ، وبعد أن أعرض ممتلكاتي الخاصة من الذرة علي أمي ، والصبيان ، سوف أتسلق السلم الخشبيَّ ، وسوف أجد سطحنا قد أصبح جزيرة حقيقية من الذهب الأبيض ، مسورة بأعواد الذرة الخضراء الفارغة ، وسوف ألقي بممتلكاتي بين ممتلكاته .
أعتقد أنَّ لموت الخالة بهجة ، نبضٌ أكيد في انهيار ذلك الطقس ، أو ربما بدقةٍ أكثر انهيار جماله ، فإنَّ الطقس لا يزال قائماً ، ولكنه يتم بآليةٍ ركيكة ، مجرد عمل .
لا أدري هل إحساس الطفل بجمال الأشياء الضخم تعقيبٌ علي إسقاطات نفسه البسيطة . أم أنَّ الندرة ، طالت الجمال حقيقةً من تلقائه ، وأن السعادة للطفولة فقط .
ياحقول الذرة .. يا ماضي أبي المجيد ! ..
محمد رفعت الدومي
*فصل من كتاب اسهار بعد اسهار


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.