رئيس مجلس الشورى يهنئ نظيره العماني بالعيد الوطني ال55 للسلطنة    الأقمار الصينية تثير قلق أمريكا كسلاح محتمل والصين تنفي أي مخاطر    يا حكومة الفنادق: إما اضبطوا الأسعار أو أعيدوا الصرف إلى 750    الذهب يتراجع مع صعود الدولار    مليشيا الحوثي تحتجز جثمان مواطن في إب لإجبار أسرته على دفع تكاليف تحقيقات مقتله    أسعار خيالية لتذاكر أول مباراة لبرشلونة بملعب كامب نو الجديد    العراق.. خامس آسيوي يقاتل في الملحق العالمي    بعد 28 عاما.. النمسا تعود إلى كأس العالم    سباعية تزف بلجيكا إلى كأس العالم    13 شهيداً في لبنان إثر غارات صهيونية على مخيم للاجئين الفلسطينيين    خطوة تاريخية للأسطورة.. رونالدو في البيت الأبيض    عملية نوعية في مركز القلب العسكري    حكومة الخونة تواجه أسوأ أزمة مالية    عن الجبهة الوطنية الجنوبية العريضة    حضرموت تستعيد قرار الحلف.. تحرك لإزاحة بن حبريش وإنهاء نفوذه    صهاينة العرب الى اين؟!    ترامب يصنّف السعودية حليفاً رئيسياً من خارج الناتو خلال زيارة بن سلمان لواشنطن    عين الوطن الساهرة (4): مَن يشتري "الذمة الوطنية"؟.. معركة المال الأسود والغزو الثقافي    مطالب جنوبية بتعليق العمل السياسي فورًا والعودة فرض قبضة أمنية كاملة    رابطة "معونه" لحقوق الإنسان والهجرة الامريكية توقع اتفاقية مع الشبكة اليمنية    الكاتب والصحفي والناشط الحقوقي الاستاذ محمد صادق العديني    قراءة تحليلية لنص"البحث عن مكان أنام فيه" ل"أحمد سيف حاشد"    تفاصيل اجتماع رونالدو مع الرئيس ترامب    التأمل.. قراءة اللامرئي واقتراب من المعنى    إلى عقلاء سلطة صنعاء…    الفريق السامعي يجدد الدعوة لإطلاق مصالحة وطنية شاملة ويحذّر من مؤامرات تستهدف اليمن    التحريض الأمريكي ضد الإعلام اليمني.. من الاستهداف التقني إلى الاستهداف العسكري    المنتخب الوطني يفوز على نظيره البوتاني بسبعة أهداف مقابل هدف في تصفيات كأس آسيا    تحرير يمنيين احتجزتهم عصابة في كمبوديا    العراق يتأهل الى ملحق المونديال العالمي عقب تخطي منتخب الامارات    الأسهم الأوروبية تتراجع إلى أدنى مستوى لها في أسبوع    القائم بأعمال وزير الاقتصاد يلتقي المواطنين في اليوم المفتوح    الرباعية الدولية تهدد بعقوبات ضد المحافظين الرافضين توريد الأموال    الشرطة العسكرية الجنوبية تضبط متهمًا بجريمة قتل في خور عميرة    تعز.. حادث مروري مروّع يخلف أكثر من 10 ضحايا    عودة غربان الظلام إلى عدن لإلتهام الوديعة السعودية    رئيس مجلس النواب: اليمن يمتلك ما يكفي لمواجهة كافة المؤامرات والتحديات    الإعلان عن الفائزين بجوائز فلسطين للكتاب لعام 2025    جمعية حماية المستهلك تُكرّم وزير الاتصالات وتقنية المعلومات    فريق أثري بولندي يكتشف موقع أثري جديد في الكويت    الحاكم الفعلي لليمن    المتأهلين إلى كأس العالم 2026 حتى اليوم    مركز أبحاث الدم يحذر من كارثة    قراءة تحليلية لنص "عدول عن الانتحار" ل"أحمد سيف حاشد"    المقالح: بعض المؤمنين في صنعاء لم يستوعبوا بعد تغيّر السياسة الإيرانية تجاه محيطها العربي    إضراب شامل لتجار الملابس في صنعاء    جبايات حوثية جديدة تشعل موجة غلاء واسعة في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي    إحصائية: الدفتيريا تنتشر في اليمن والوفيات تصل إلى 30 حالة    نوهت بالإنجازات النوعية للأجهزة الأمنية... رئاسة مجلس الشورى تناقش المواضيع ذات الصلة بنشاط اللجان الدائمة    مدير المركز الوطني لنقل الدم وأبحاثه ل " 26 سبتمبر " : التداعيات التي فرضها العدوان أثرت بشكل مباشر على خدمات المركز    الدكتور بشير بادة ل " 26 سبتمبر ": الاستخدام الخاطئ للمضاد الحيوي يُضعف المناعة ويسبب مقاومة بكتيرية    قطرات ندية في جوهرية مدارس الكوثر القرآنية    نجوم الإرهاب في زمن الإعلام الرمادي    الأمير الذي يقود بصمت... ويقاتل بعظمة    تسجيل 22 وفاة و380 إصابة بالدفتيريا منذ بداية العام 2025    وزارة الأوقاف تعلن عن تفعيل المنصة الالكترونية لخدمة الحجاج    المقالح: من يحكم باسم الله لا يولي الشعب أي اعتبار    الإمام الشيخ محمد الغزالي: "الإسلام دين نظيف في أمه وسخة"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل من كتاب اسهار بعد اسهار
نشر في الجنوب ميديا يوم 25 - 12 - 2013


(بهجة غرابة)*
تترك الخالة " بهجة غرابة " باب بيتها في الجيب الشرقيِّ من الدومة مشرعاً ، وتأتي إلي ساحة بيتنا في وقتٍ مبكِّر جداً من النهار ، حتي أنه متأخرٌ جداً من الليل ، مرةً كلَّ عام ، رحلة موسمية انهار بموتها ، جمالُ طقوسها بتصرفاتٍ مرتفعة .
كانت أمي التي تتوقع بالتجربة ريقها المسائيَّ ، تستيقظ مبكراً لتعدَّ لها الإفطار عن طيب خاطر .
بمجرد أن يحتدَّ نباح الكلاب الصيفيُّ ، وتبدو واضحةً ارتطامات أقدامها القصيرة بأعواد الذرة ، تنادي من داخل بيتنا بصوت ركيك نوعاً ما :
- خالة بهجة !
وسرعان ما يعلن صوتها الخائف تحققها ، وتفتح الباب أمي ، وتختبئ الخالة بمأمن خلف باب بيتنا حتي يتمَّ الضوء دوائره .
كنت أعرف أنَّ أبي لابد أرسل لها في العشية الفائتة رسولاً ، يخبرها بأن مظانَّ الذرة من مساحات أرضنا قد أتمت عطائها ، وأنَّ جِمالنا قد نقلت أعوادها إلي ساحة بيتنا ، وأنَّ عليها الحضور لمساعدتنا في تحرير كيزانها من أغلفتها الجافة جفافاً اعتباطيا ،
كنتُ أدرك أيضاً ، أنها لابدَّ تدرك تماماً ، موعد طقسنا الحوليِّ ، ولكن بروتوكول الاستدعاء جزء أساسيٌّ من معادلة الرحلة .
كانت هي تميمة ذلك الطقس التي أمَّنت له الصمود أمام اكتفاء الكثير من بيوتنا ، تعقيباً علي سفر الكثيرين من رجالنا إلي دول النفط ، وارتفاعها عن الحاجة عن سلةٍ ممتلئةٍ من كيزان الذرة يعودون بها بعد يوم مرهق من العمل ، ولذلك كان أبي يضبط موعد التقشير علي احتمال مجيئها من عدمه .
لقد كان الكثيرون يأتون فقط للتمتع بما تجيد هي العثور عليه من المضحكات في الظلال السهلة ، هولا يسلم تماماً من التكرار الموسميِّ ، هذا صحيح ، ولكنه يكتسب ، بما تضيف إليه هي من شخصيتها المتجددة كلَّ مرةٍ ، نقاطاً إضافيةً في مقاييس القلوب المفعمة بآلام الفقد ، وآلام الشوق إلي من ابتلعهم يقين الاغتراب ، للسكينة القليلة ، القليلة .
ما إن ينتظم عقد المقشِّرين حتي تزداد النظرات إلي هدوءها الصناعيِّ استنكاراً ، فجأة ، تتصيد لحظة تختارها بعناية ، تتواكبُ عادة مع تكدس أعواد الذرة المخلاة بجوار المقشرين بما يتَّسع للولد عصام ، والعم خيري أبو همام ، والعم عدلي بظيو ، أن يبدأوا العمل المنوط بهم ، وينقلوها في حزم ٍ، علي سلم من الخشب ، إلي سطح بيتنا ، وتقول بصوتٍ مرتفع :
- وعايزلو فتلت صوف !
وأمسك بالملل يتبدد ، وتنبسط الوجوه ، وتهتزُّ أعواد الذرة في الأيدي المرتجفة بفعل استحواذ الضحكات ، ثمّ .. وكأنما انهار وعيها ، واختلطت في ذهنها الحقائق بالأوهام ، تردد كالمجنونة ، وبصوت منغم ، كلمات احتفظ بها ذهنها من مسلسل قديم ، أكاد أتذكر أنها كلمات من إطار شخصية جسَّدها الفنان علي الغندور :
– ياسيدي دفتر وكراسة ، يا سيدي دفتر وكراسة !
يحتد إيقاع الضحكات ، وتردد هي نفس الكلمات بإيقاع مغاير :
- يا سي دي ، دااا فتر ، وي كوراسة داا فتر ، يا سي دي .. !
ويشتعل الهواء مكاناً أفضل للعيش ، ثم .. تضع يدها مفتوحة ومنحرفة خلف أذنها كالمقرئين وتصيح :
– البت قالت لابوها ولا اختشت منِّيه ،
يبايا توب الحيا بان . والنهد بان . منِّيه !
ويسري الجنون من نفس إلي نفس ، ويتوقف العم خيري أبو همام عن العمل فجأة ويصيح :
- يبي يبي يبي يبي !
وتستأنف هي جنونها المدبر :
- يبايا زرعك الوخري طاب ، لمّو
يتوقف الولد عصام عن العمل فجأة ، ويمسك سريعاً بطرف الموال :
– لاحسن عيال الأواهر ، يقطفوا وردو ، ويعوِّلوك ، همّووو ، يا بووووي !
تشاركهم الضحكات الجنون ، فيتوقف البعض عن العمل تماماً ، يظلُّ العم عدلي بظيو داخل اتزانه المزمن تماماً ، وتتباكي الخالة بهجة فجاة ، وتصيح نادبة :
- وزرعنا الحنة ، وكترت لحزانيييي ، إهه إهه إهه ، وووووووووووه !
يتداخل عصام سريعاً مع حالتها :
- كان بدري عليك يا قنيَّان ، سيَّبتني لمين يبايه ، يا بووووووووي !
تنفجر الضحكات ، وتفلت من جدتي خيوط السيطرة علي تماسك العمل ، وتضطر ، دفعاً للانهيار إلي التدخل :
- بهجة ، خليك ف حالك ، وخلي الأنفار يشتغلوا !
تزداد العيون تطلعاً ، كان يطربون لأيِّ سخرية تطال جدتي ، كانت العضلة العصية التي تدرأ الطامعين عن أشياءنا ، ولا تخيب الخالة بهجة عادةً أملهم ، وتنظر إلي جدتي في ازدراء مدبر وتصيح في تهكم :
- ها ها هأ ، ها ها هأ ، مين ؟ نورا ، يا سيدي نورا ، يا عيني نورا ، والعفشة نورا ، وعايزالها فتلت صوف ! .
وأري الأعواد ترتجف في عصبية مع إيقاع الغناء ، وأري عصام ممسكاً بعود من الذرة ، رفعه بإحدي يديه إلي الأعلي ، وانخرط في الرقص .
وأري جدتي تخبئ ضحكاتها في جيب طرحتها ، وبعينين دامعتين ، وبصوت مكدس بالضحكات تقول لي :
– يا واد روح عيِّط أبوك !
لا أذهب ، ولا ينهار السامر ، كانت تعرف ، وكنت أعرف أن أبي ، حتي لا يقمع حرية هؤلاء المتعبين ، يفضل في ذلك اليوم ، مراقبة الطقس بكلِّ جوارحه من البيت ، ويشاركنا ضحكاتنا أيضاً ، ويبارك جنون الخالة بهجة والآخرين .
وأنه سوف يجئ بمجرد أن ينتهي العمل من تلقائه ، ليوزع أجور العاملين ذرة ، وسوف يخص الخالة بهجة بكرم ٍ إضافيٍّ ، وإيماءةٍ ضروريةٍ لتستمرَّ الرحلة .
وأنا أستعيد الآن حداثة تلك الصور يدهشني كثيراً أنني كنت أبكي بعيون حقيقية ، إذا لم يعاملني أبي كالغرباء ، فلا يعطيني أجري من الذرة ، يدهشني أيضاً تلك السعادة الممتلئة التي تستحوذ عليَّ عندما يستأنف كرمه ، ويعطيني أكثر من حقي .
أنتبه الآن .. أنه كان يخدعني بتظاهره بالإسراف في الكرم حيالي ، لقد كان يعرف بالتأكيد الزائد عن الحد ، أني عما قليل ، وبعد أن أعرض ممتلكاتي الخاصة من الذرة علي أمي ، والصبيان ، سوف أتسلق السلم الخشبيَّ ، وسوف أجد سطحنا قد أصبح جزيرة حقيقية من الذهب الأبيض ، مسورة بأعواد الذرة الخضراء الفارغة ، وسوف ألقي بممتلكاتي بين ممتلكاته .
أعتقد أنَّ لموت الخالة بهجة ، نبضٌ أكيد في انهيار ذلك الطقس ، أو ربما بدقةٍ أكثر انهيار جماله ، فإنَّ الطقس لا يزال قائماً ، ولكنه يتم بآليةٍ ركيكة ، مجرد عمل .
لا أدري هل إحساس الطفل بجمال الأشياء الضخم تعقيبٌ علي إسقاطات نفسه البسيطة . أم أنَّ الندرة ، طالت الجمال حقيقةً من تلقائه ، وأن السعادة للطفولة فقط .
ياحقول الذرة .. يا ماضي أبي المجيد ! ..
محمد رفعت الدومي
*فصل من كتاب اسهار بعد اسهار


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.