هل غاب العقل في مصر أم إنحرف؟ لا أكاد أصدق ما يدور أمام عيني في مصر الثورة، شركاء الأمس فرقاء اليوم وخصومه، الاستقطاب قائم، والتربص قائم، والرغبة في الانتصار على الآخر وسحقهم قائم، والعقل غائب عن مصلحة الوطن العليا وإن أعجب بمصالح ضيقة. إذا غاب العقل فإن الإنسان لا يكون مسؤولاً عن أي شيء يعمله في ضوء القانون والشرع حيث رفع الحكم عن النائم والمجنون، ولو ارتكب أفظع الجرائم وأكبر الموبقات. وأحياناً يكون الإنسان في ضوء ذلك- أدنى من الحيوان سلوكاً، أما إذا انحرف الإنسان عن الجادة وغاب عقله طواعية، فإن عقله الذي زيّن له الانحراف يظل يقوده إلى المزيد، وهنا تدخل النفس على الطريق، وأقصد بالنفس هنا الهوى حتى يهوي إلى مكان سحيق لا يليق بالإنسان. الإنسان الذي لا يهمه القانون يسعى إلى أن يكسره أو يخالفه أو أن يهرب منه بكل وسيلة أو ينفذ من خلاله. وفي ضوء البيان الذي صدر عن مجلس القضاء الأعلى يوم الأحد 25/11/2012 تأكيداً لاستقلال القضاء وحصانتهم، وفي ضوء البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية يوم الاثنين 26/11/2012، بعد إجتماع الرئيس مع أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، لا تزال المشكلة مع جهات مهمة وكبيرة في القضاء قائمة، ولكنها مع أهميتها وتشعبها تسمى المشكلة القضائية. وهي احدى المشكلات التي أثارها الإعلان الدستوري الأخير وليست كلها. جاء في بيان رئاسة الجمهورية في المادة ثالثاً، ما يفسر المادة الثانية من الاعلان الدستوري المعيب 'بأن ما يصدر عن رئيس الجمهورية من اعلانات دستورية وقوانين وقرارات وما قد يصدر عنه منها، مقصور على تلك التي تتصل بأعمال السيادة فضلاً عن أنها مؤقتة بنفاذ الدستور وانتخابات مجلس الشعب حفاظاً على مؤسسات الدولة الرئيسية'. وهذا كلام جميل شكلاً وموضوعاً، ولكنه غير محدد، وسيفهمه الرئيس بشكل يختلف عما يفهمه الآخرون، لا أقول في ميدان التحرير، بل في مؤسسة الرئاسة نفسها وفي حزب الحرية والعدالة وفي دوائر الإخوان المسلمين فضلاً عن المعارضة، لأن كلمة 'أعمال السيادة' تذكرنا بالمادة 60 من الاعلان الدستوري الأول في مارس 2011، والتي بسبب فضفاضيتها وغموضها، فسرها مجلس الشعب بما يتفق مع رغباتهم كأغلبية، نظراً لسعة الكلام وفضفاضيته وغموضه، وفسرتها المحكمة الادارية وآخرون على عكس ذلك تماماً. وفي يقيني أن كلمة 'أعمال السيادة'، في ضوء ذات العقلية والطريقة التي يعمل بها الإخوان المسلمون في المجتمع بعد الثورة، بدون توفيق أوضاع الدعوة التي كان ينبغي أن تكون أعمالهم كلها أو في الغالب الأعم نموذجاً يحتذى بل ويعجب به الآخرون، لا نموذجاً منفراً لا يحتذى ويهرب الناس منه، ويكون عرضة للانتقاد الشديد. أقول كان ينبغي أن يشهد الناس لهم سواء أحبّ الناس الإخوان ورضوا بالنموذج أو خالفوه. المهم الاحترام والتقدير. وهنا يطرح السؤال نفسه، من يستطيع من مؤسسة الرئاسة أو في الأحزاب السياسية أو مؤسسة القضاء أو الأزهر أو مجلس الشورى أو التأسيسية، أو تلك المؤسسات التي يريد أن يحصنها الرئيس، أن يحدد أعمال السيادة تحديداً دقيقاً بعيداً عن الغموض والفضفاضية، وفي ضوء ما يقبله الشرع والعقل- هناك مسألة أخرى تتعلق بهذا الأمر وهي الرفض الكامل لما جاء في الإعلان الدستوري المرساوي أو القبول الكامل له. الإخوان المسلمون بشكل خاص تعلموا من الأصل السادس من الأصول العشرين في رسالة التعاليم للامام البنا رحمه الله تعالى حيث جاء به 'وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقاً للكتاب والسنة قبلناه وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالاتباع ولكنا لا نعرض للأشخاص فيما إختلف فيه بطعن أو تجريح'. هكذا الفهم وهكذا يكون الادراك فأين هذا الفهم اليوم في دوائر الإخوان المسلمين الذين يقدمون السمع والطاعة على الفهم. إن استخدام العقل الذي غاب أصبح ضرورة'. وكل أحد 'هنا في النص الذي نقلناه عن الامام البنا تشمل مرسي والمرشد والاسلاميين والعالمانيين جميعاً ورجال القضاء والمحاماة والإعلام وتشمل كل أحد، فليس هناك معصوم بعد الأنبياء. بهذه العقلية يجب أن نفكر، وبهذه العقلية يجب أن ننظر إلى القرارات والاعلانات الدستورية لا بعقلية أعمال السيادة، الفضفاضة التي يمكن التهرب من خلالها من كل شيء أو كل إلتزام. ويمكن إدخال أي شيء في أعمال السيادة، طالما كان الباب مفتوحاً للتأويلات التي لا نهاية لها. ولذلك ينبغي وصولاً إلى حل مناسب، دفعاً للاحتقان والاستقطاب والملائكية التي يضفيها بعض الناس على أنفسهم، ينبغي إجتماع الفرقاء الثلاثة، أعني من يدعمون القرارات والاعلانات الدستورية والتحصين للشورى والتأسيسية ومعظمهم من الاسلاميين هذا هو الفريق الأول، أما الفريق الثاني فيرفض الاعلان الدستوري بالكلية ولا يريد الحوار مع الرئيس إلا بعد إلغاء الاعلان الدستوري المعيب. وهم هؤلاء الذين إحتشدوا في التحرير وفي الميادين الأخرى أخيراً، بل وإعتصم بعضهم ونادوا برحيل مرسي، وسقوط حكم المرشد كما نادوا من قبل بسقوط حكم العسكر. وهناك فريق ثالث وطني إسلامي أو علماني وليبرالي يكاد يضيع صوته وسط قوة وحشد الفريقين الأولين، وهذا هو الفريق الذي استخدم عقله بالكامل أو قدر الامكان، إذ يرى قبول بعض المواد من الاعلان الدستوري، تلك التي تتعلق بحقوق الشهداء والمصابين وتطهير المجتمع من الفساد. أما المواد التي تتعلق بالتحصين فهي غير مقبولة عند هذا الفريق الثالث، لأنها تؤدي إلى ديكتاتورية ولو محتملة والعاقل من سد أبواب الفتن وعالج مستصغر الشرر. أقول من الضروري أن يجتمع هؤلاء جميعاً على مائدة حوار واحدة، ويستمر النقاش حتى نجد حلاً بعيداً عن التهديد باللجوء للعسكر أو تدويل القضية. لقد تخبطت الرئاسة كثيراً منذ أن جاء مرسي إلى كرسي الرئاسة. تخبطت في موضوع إعادة مجلس الشعب للانعقاد رغم وجود الحكم القضائي بإبطال مجلس الشعب، وتخبطت الرئاسة في موضوع النائب العام وتعيينه سفيراً في الفاتيكان وما صاحب ذلك من غموض وضعف شفافية عند معظم من حاول معالجة هذا الأمر. كانت الاتهامات جاهزة عند كل من الفريقين، وكان التحصين جاهزاً عند الفريقين، ولم يلمس الشعب أن هناك ولو أدنى جزاء لمن أساء ولم تتضح الحقيقة حتى اليوم، وهذا هو التخبط القائم والموروث منذ العهد البائد. وتخبطت الرئاسة في موضوع إغلاق المحلات في وقت مبكر من الليل ولم يتم التنفيذ، وتخبطت الرئاسة عند الاحتفال بما يسمى عيد 6 أكتوبر، وجاءت بأرقام ونسب في خطبة مرسي ذلك اليوم، خادعة وأسوأ مما كان يعلن أيام العهد البائد بشأن تعهدات ووعود مرسي بعلاج القضايا الخمس الأساسية في المائة يوم الأولى من حكمه. غاب العقل في الأولى والثانية، أما علاج مجلس الشورى لمسألة رئاسة جريدة الجمهورية، فيذكرنا بالتخبط في العلاج في المؤسسة التي نريد تحصينها في مسألة الصحافة هل توقع أحد منا أن يقع شهداء أو قتلى بعد الثورة والمرحلة الانتقالية وفي عهد الرئيس مرسي؟. إن من حق أي قوى سياسية أو غير سياسية، أن تعبر عن مطالبها دون سقف في أي وقت وأي مكان، طالما كان ذلك سلمياً، وذلك هو مقتضى الديموقراطية التي أتت بمرسي إلى الرئاسة، وليس فقط نظام الانتخابات، بل يمتد النظام الديموقراطي إلى حقوق كثيرة منها تداول السلطة دون حرج أو عنف والاصرار على حقوق الإنسان والأقليات والمرأة والشباب. وقف المعارضون للديكتاتورية والفرعنة والسلطة المطلقة في التحرير وغيره من الميادين، وليصفهم من يصفهم بالبلطجة، لا يضرهم ذلك بل يضر من قال عنهم ذلك. أنا لا أصدق أن الغرب يستطيع أن يحل مشاكله بنفسه، وأن نستدعيه لحل مشاكلنا. ولا أعتقد أن الله تعالى فضّل الغرب علينا بالعقل، ولكن الغرب سعى إلى إستخدام العقل، ونحن للأسف الشديد أهملنا الشرع والعقل. بل واستخدم بعضنا العقل للإساءة إلى الشرع، فكان منا من يرى أن هدم الأهرامات وأبو الهول وإرضاع الكبير وزواج القاصرات وتكفير الديموقراطية كل ذلك من الشريعة، بل ذهب بعضهم إلى أن الاستعانة بغير المسلمين لحمايتهم وحماية الحدود التي رسمتها إتفاقية سايكس بيكو منذ 95 سنة تقريباً هو من صلب الشريعة. رحمة الله تعالى على السلف الصالح والمسلمين الأوائل الذين فهموا الاسلام حق فهمه، وعرفوا الشريعة حق المعرفة وعرفوا مقتضيات تطبيقها، فحلوا مشكلاتهم دون ظهور مشاكل أكبر أو أوضاع أسوأ، وتوسعوا في الآفاق لحل مشكلات الآخرين، وبعضنا يلجأ للآخرين لحل مشكلاتنا. والله أعلم ماذا سيكون عليه الوضع عند قراءة هذا المقال. ' كاتب مصري