جهاد هديب (دبي)- يقدم كتاب «رحلات البطريرك ديونيسيوس في عهد الخليفتين المأمون والمعتصم» شهادة حارّة عن أزمنة وأمكنة وشخصيات تاريخية من عهد العباسيين، وبين سطوره تكمن محبة كبيرة للناس والأمكنة، إلى حدّ أنه يمكن القول بأن البطريرك ديونيسيوس التلمحري هو من أوائل رجال التسامح الديني العرب التاريخيين. الكتاب الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في مائة واثنتين وسبعين صفحة من القطع الكبير، فاز مؤخراً بجائزة «ابن بطوطة» فرع تحقيق المخطوطات والنصوص الكلاسيكية، التي يمنحها المركز العربي للأدب الجغرافي التابع لمؤسسة «دارة السويدي الثقافية» بأبوظبي، ضمن ما يعرف ب «ارتياد الآفاق». ومن اللافت أن الكتاب لم يُكتب أصلا بالعربية، إنما بالسريانية التي هي إحدى الاشتقاقات اللغوية السامية التي تركت أثراً كبيراً في تطور اللغة العربية، وقد أنجز هذه الترجمة الروائي الفلسطيني تيسير خلف، يقيم ويعمل في دبي، بحرفية لافتة للانتباه من خلال ما بذله ترجمةً وتحقيقاً، ومن خلال تقديمه لوثيقة نادرة ذات أهمية خاصة لإبراز المكانة الاجتماعية للمسيحيين العرب ودورهم في اللحظات التاريخية التي مرّت بها المنطقة العربية أثناء حكم الخلافة العباسية، إذ أن البطريرك التلمحري قد عاصر أربعة منهم في حياته: هاورن الرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم. وينطوي متن الكتاب على خمس رحلات: اثنتان منها إلى مصر، ولأغراض سياسية تستهدف الوقوف على أسباب «تمرد» الأقباط الذين أحرق متطرفون كنائسهم، وثلاث إلى بغداد إما للقيام بدور وسيط أو لفض النزاعات بين المسيحيين العرب أنفسهم. غير أن أهمية الكتاب تتجاوز قيمته التاريخية رغم أهميتها، إذ هي الوثيقة الوحيدة المكتشفة التي جرى تدوينها في زمن الأحداث ذاتها وليست منقولة بعد أزمنة من الرواة الذين حفظوها في الصدور، أي أنها شهادة عيان حيّة على ما جرى في عهود الخلفاء المسلمين الأربعة في فترة هي الأكثر ازدهارا في الحكم العباسي بحسب ما نعهد. كما أن أهمية الكتاب تكمن أيضا في أنه وثيقة أدبية مكتوبة بلغة رفيعة وأنيقة، وفي هذا الصدد، فقد لاحظت لجنة التحكيم التي منحت الكتاب الجائزة أن «الجزء المتعلق بشهادته الشخصية على أحداث زمنه، امتاز بعدد من المزايا التي جعلته واحداً من أرفع النصوص السريانية وأكثرها صدقا وحرارة». ... المزيد