محمد أبو عرب مما لا شك فيه أن الوطن بوصفه قيمة وجدانية، شكل وما زال يشكل مفردة كبيرة لأجناس الفعل الإبداعي، فكثيراً ما توقف عنده الشعر، وكثيراً ما تناولته اللوحة، وكذلك السرد، والغناء، والمسرح، وغيرها، إذ يرى فيه المبدعون موضوعاً لا ينضب، ولا يمكن أن يصبح الحديث فيه مكروراً مستهلكاً، فلكل وطنه، ولكل مشاعره تجاهه، ولكل رؤيته لقيمته . لذلك يمكن الجزم أنه لا تخلو سيرة مبدع من وقفة ولو قصيرة عند الوطن، فإن لم تكن قصيدة كانت لوحة، وإن لم تكن لوحة كانت قصة أو رواية، وإن لم تكن ذلك كله كانت أغنية، فالوطن في قلب المبدع كالحب، حالة إنسانية يشترك فيها البشر ويتفاعلون معها بأنماط لا يمكن حصرها . لا يمكن حصرها بالمعنى الدقيق للجملة، إذ من المبدعين من يرى الوطن في صورة النهر أمام بيته، ومنهم من يراه في صف الأشجار، ورائحة الخبز عند الفجر، أو في الشوارع الضيقة، والبيوت القديمة، أو صوت الأطفال يتراكضون في حيه، أو ابتسامة جاره، أو غيره مما لا يحصى . لذلك لا يمثل الوطن لدى المبدع كونه جغرافية وبشراً يشتركون باللغة والعادات، بل يمثل أكثر من ذلك بكثير، فحين قال محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياةْ: نهايةُ أيلولَ، سيّدةٌ تترُكُ الأربعين بكامل مشمشها، ساعة الشمس في السجن، غيمٌ يُقلّدُ سِرباً من الكائنات"، لم يجعل من الوطن بقعة أرض أو بشراً يشاركهم العادات والملامح، بل هي صور تعيد إليه ملامح الوطن في الذاكرة وترجعه إلى الأمومة فيه . قد يكون ذلك كله ما جعل من علاقة المبدع بالوطن، علاقة أشبه بالأسطورية، فالمنتج الإبداعي الذي شهده الكون منذ صياغة الأجناس الإبداعية هويتها، لا يمكن حصره، ويكاد يتجاوز الخيال البشري بما يجعل منه ذا جمالية عالية فذة تقدم الوطن كحالة كونية وجدانية خالصة . أحد الشواهد على ذلك، قصيدة الشاعر جوزيف حرب، التي غنتها فيروز، "رح نبقى سوا"، ففيها تقول: "من يوم التكون يا وطني الموج كنا سوا/ ليوم البيعتق يا وطني الغيم رح نبقى سوا/ تاجك من القمح تمنيتلك السلام/ وشعبك بيحبك لتبرد الشمس وتوقف الأيام" . صورة خارجة عن المألوف ينسجها حرب، في توصيفه شكل علاقة الشعب بأرضه، فكأنه يقول لا يمكن أن يكف أهلك عن حبك أيها الوطن، حتى لو بردت الشمس وانتهى الكون، فالعلاقة أزلية، وغير مقرونة بأي معيار . من هنا يكون التساؤل شرعياً، حول المبدعين الذين هُجِروا من أرضهم وصار الوطن لديهم صوراً يستعيدونها من الذاكرة؛ هل يمكن لهؤلاء أن يبنوا علاقة مع أوطان جديدة، وهل يمكن لأية جغرافية أن تعوضهم عن فكرة الوطن وجدانياً، وإلى أي حد يترك غياب الوطن هوة في روح المبدع؟ [email protected]