محمد مرسي.. من 'عمود السحاب' الذي يسير في مقدمة المعسكر الى 'انكسار السحاب' في سماء القاهرة؟شكلت حملة 'عمود السحاب' اختبارا هاما للزعامة بالنسبة للرئيس المصري محمد مرسي. فلاول مرة منذ انتخابه تفحص قدرته على الزعامة في ثلاث ساحات في آن واحد: في الساحة المصرية الداخلية، التي بزعم منتقديه لم يحسن لها بل وتراجع الى الوراء في انجازات الثورة؛ في الساحة العربية والاقليمية، التي حاول بعض زعمائها القضم من مكانته كوسيط مقبول من كل الاطراف، ولكنه لا يستطيع. وعلى الرغم من حقيقة أنه عديم التجربة في ادارة المفاوضات السياسية فقد أظهر تفكرا واعتدالا وأعاد مصر الى مكانتها بصفتها 'الشقيق الاكبر' الذي يرتبط به الجميع؛ كما اجتاز مرسي ايضا اختبار الساحة الدولية بما فيها أيضا الساحة الامريكية. فقد نجح في تحطيم حواجز الشك تجاهه ووضع نفسه في موقف اساسي في ادارة المفاوضات حتى نهاية المواجهة. وهكذا مثلا ذهبت 'الغارديان' بعيدا في امتداحه على أنه تمكن من التوفيق بين العطف على حماس وبين المصالح الاستراتيجية لمصر. وبالفعل احتاج مرسي الى كفاءات الشكوى كي يحقق انجازات المفاوضات ويعظمها في ساحته الداخلية؛ اقناع الشعب المصري بانه هو الذي خرج كاسبا من المرابح التي حظي بها رئيسهم والعودة الى التركيز على مشاكل مصر الداخلية. كما كان مرسي مطالبا بقدر كبير من المرونة كي يناور بين المطالب المختلفة التي رفعت اليه، سواء في بيته السياسي الداخلي، حزب الحرية والعدالة، أم من جانب 'المرشد العام' المرجعية الروحانية العليا لحركة الاخوان المسلمين. ورغم المطالبات بان ترد مصر بشدة على الهجوم الاسرائيلي اكتفى مرسي باعادة السفير المصري للتشاور، بتوبيخ السفير الاسرائيلي في مصر، بالشجب العلني ل 'العدوان الاسرائيلي في غزة' وبالدعوة الى اجتماع طاريء لوزراء الخارجية العرب في القاهرة. ولكن هذه الخطوات لم ترضي 'الاخوان' وطالبوه برد أكثر حزما في أساسه مطلب 'قطع العلاقات الدبلوماسية مع العدو الصهيوني الذي هو الحد الادنى الذي يمكن لمصر، التي تعتبر نموذجا للاقتاء لباقي الدول العربية، أن تعمله'. واتخذت خطوات مرسي بالتالي في نظر زملائه في الحزب والحركة صورة الخطوات الهزيلة جدا بل والمماثلة لخطوات سلفه. فمن أخذ مسلم مثله توقعوا ردا اكثر شدة. رغم الضغوط الداخلية أبدى مرسي تمسكا بالخط المعتدل الذي تبناه، والذي تضمن اساسا بادرات طيبة انسانية تجاه سكان قطاع غزة كفتح معبر رفح امام الجرحى ممن نقلوا الى المستشفى المصري في العريش. وتعكس هذه البادرة الموقف الثنائي من مرسي تجاه الفلسطينيين. فمن جهة، في فتح المعبر ابدى تضامنا ورحمة تجاههم. ومن جهة اخرى، فانه قيد البادرة بحدود العريش ولم يسمح بنقل الجرحى الى المستشفيات في المدن الكبرى خوفا من فقدان السيطرة. خطوة اخرى كانت ارسال الوفد برئاسة رئيس الوزراء، هشام قندل الذي الى جانب اظهار التضامن سعى ايضا الى جس النبض بشأن فتح قناة للمفاوضات على التهدئة بوساطة مصر. ومع ذلك، سمح مرسي لمنتقديه بالاعراب عن الاحتجاج ضده. فقد تظاهر المئات امام مكاتب الجامعة العربية في القاهرة مطالبين بالعمل على وقف العدوان الاسرائيلي في ظل اطلاق شعارات مثل 'سلحونا، سلحونا والى غزة ارسلونا'. واختار مرسي الا يوقف اعمال النشطاء الذين سعوا للوصول الى قطاع غزة للاعراب عن التضامن مع سكانه ومع قيادته. الوفد الذي ضم خمسمائة شخصية، دخل الى القطاع في عشرين تشرين الثاني (قبل يوم من وقف النار) وضم نشطاء من كل الطيف السياسي. وصرح أعضاء الوفد بان 'الحرب التي أعلنتها اسرائيل على قطاع غزة هي كاعلان حرب على مصر'. وفي احدى اليافطات التي رفعوها كتب ان 'الثورة المصرية لن تتحقق الى أن تتحرر فلسطين'. وهكذا فقد عبروا عن العلاقة المصيرية التي يجدر برأيهم أن تكون بين تحقيق أهداف الثورة وبين تحرير فلسطين. وتداخلت روح التضامن الاسلامي والعربي بالتالي مع الوطنية المصرية. وكان الفرق بين رد مرسي الواقعي السياسي وبين ردود فعل منتقديه يعكس على نحو سليم القول ان 'الامور التي ترى من هنا لا ترى من هناك'. لا ريب أن توقيت حملة 'عمود السحاب' كان أسوأ توقيت يمكن لمرسي أن يتمناه لنفسه. فالبيت المصري يشتعل ومهمة الاطفاء ملقاة على عاتقه. وتكفي الاشارة الى الاقتصاد الغارق، السياحة المشلولة منذ اندلاع الثورة، فشل لجنة الدستور في اصدار مسودة متفق عليها من كل الفصائل السياسية. واحد التعابير عن أن اللجنة لم تفي بمهمتها هو استقالة ثلاثة عشر من اعضائها الواحد تلو الاخر بدعوى انها غير أهل لاداء مهامة. ويعيق قطع عمل اللجنة المسيرة الديمقراطية التي في أساسها تحقيق مبدأ فصل السلطات بما في ذلك تحديد صلاحيات الرئيس وكذا اعادة اجراء الانتخابات للبرلمان المصري. واذا لم يكن هذا بكاف فقد اضيفت الى مشاكل مرسي حادثة الطرق التي وقعت في أسيوط وجبت العديد من الضحايا بمن فيهم من أطفال. ووجه العديد من المصريين اصبع الاتهام اليه مباشرة كونه وضع في خطاب أدائه لليمين القانونية تحسين البنى التحتية للمواصلات في رأس جدول الاولويات الوطني، الا انه عمليا وظف اهتماما اكبر بكثير للمواضيع الخارجية مما للمواضيع الداخلية. وفي هذه الظروف فان أحداث احياء الذكرى السنوية للثورة وضحاياها سرعان ما تحولت الى مظاهرات احتجاج ومحاسبة للرئيس على الوعود التي نثرها ولم يفِ بها بعد. يبدو أن أيام الرأفة التي اعطاها الشعب لرئيسه آخذة في النفاد. في هذه الظروف فان نجاح المفاوضات بين اسرائيل وحماس كفيل بان يمنح الرئيس المصري مكسبا سياسيا داخليا. فوقف سفك الدماء أعاد لمصر مكانتها كشقيق أكبر في أوساط دول المنطقة ولا سيما في نظر اولئك الذين سعى زعماؤهم الى تحقيق المكاسب نتيجة لنجاح المفاوضات. واحد من هؤلاء هو رئيس الوزراء التركي، رجب طيب اردوغان، الذي عبر سلوكه في اثناء زيارته الى القاهرة عن تطلعه المتواصل لان يحتل مكان الزعيم الاقليمي. وفي الخطاب الذي ألقاه في جامعة القاهرة شدد على مساهمة مصر وتركيا في الاستقرار الاقليمي وادعى بان الدولتين قادرتان على قيادة المنطقة نحو التهدئة دون وساطة خارجية. ولم يتخلى عن الفرصة لان يهاجم بشدة اسرائيل وان يتحدث بشكل احادي الجانب في صالح حماس. غير انه بذلك انكشف مرة اخرى كصاحب موقف غير متوازن، وعلى اي حال كشخصية غير مقبول على اسرائيل كوسيط، وهكذا رفع من أسهم مرسي. كما أن أمير قطر، حمد بن خليفة آل ثاني، رأى نفسه كشريك محتمل للمفاوضات بين اسرائيل وحماس. وقد كان الاول بين الزعماء العرب الذي زار غزة في 23 تشرين الاول قبل أن تبدأ حملة 'عمود السحاب'. والزيارة التي في أثنائها أعلن عن منح مساعدة بمبلغ 400 مليون دولار لاعادة بناء القطاع. وبفضل هذه المبادرات رأى الامير نفسه كشريك عادي للمفاوضات، مثابة صاحب المائة هو صاحب الرأي. لقد رفع الدور الذي لعبه مرسي في الازمة من أسهمه في نظر الرئيس اوباما أيضا. فالشك الذي شهده مرسي بعد انتخابه في وسائل الاعلام الغربية، وتصريح اوباما بان مصر ليست عدوا للولايات المتحدة ولكنها ايضا ليست من حلفائها، وكذا عدم الاستعداد من جانبه للقاء مرسي حين يصل هذا الى نيويورك في ايلول كي يلقي خطابه الاول في الجمعية العمومية للامم المتحدة، كل هذا أخلى مكانه للتقدير ولفتح قناة مباشرة بين البيت الابيض ومكتب الرئيس المصري. وساهم سلوك مرسي أغلب الظن في ضمان التحويل السريع لاموال المساعدة الامريكية الى مصر بمبلغ نحو 2.8 مليار دولار. وبلا شك ساهم الامر ايضا في تقدم المفاوضات على نقل المساعدات من صندوق النقد الدولي بمبلغ 4.8 مليار دولار، والتي هي أيضا بدعم امريكي. وبينما نجحت قدرة المناورة لدى مرسي في الساحة الاقليمية والدولية، فصحيح حتى الان فشل الرئيس في معالجة المسائل المشتعلة على جدول الاعمال المصري الداخلي. فهو ليس فقط لم يتمكن من تهدئة الخواطر، بل وبخطوة مفاجئة أعلن بعد يوم من التوقيع على وقف النار بان كل القوانين والمراسيم التي اعلن عليها منذ 30 حزيران 2012 سارية المفعول الى حين اقرار الدستور واجراء الانتخابات للبرلمان. واشعل هذا الاعلان النار واثار عليه الدوائر الليبرالية، التي فسرت خطوته كعملية اختطاف اخرى غايتها السماح للاخوان بالسيطرة سواء على لجنة صياغة الدستور أم على البرلمان المصري. كما ان جهاز القضاء المصري الذي يعتبر اكبر الاجهزة تقديرا بين الجمهور، رأى في هذا الاعلان تهديدا حقيقيا على استقلاليته. لم تكن هذه المرة الاولى التي ينفذ فيها الرئيس عملية اختطاف ويضطر الى التراجع عنها. هكذا حصل مثلا عندما حاول عقد البرلمان المصري رغم أن رئيس المحكمة الدستورية منع ذلك بسبب عدم شرعية الانتخابات. وفي فرصة اخرى أعلن خلافا للقانون عن تنحية المدعي العام واثار عليه الجهاز القضائي. وفي الحالتين اضطر مرسي الى التراجع عن قراراته حين تبين له بانه تجاوز القانون. وعليه فانه اذا كان الجمهور فسر في المرتين الاوليين خطواته كنتيجة لانعدام التجربة، فانه على خطوته الحالية رد ب 'لن ننسى ولن نغفر'. فالمعنى العملي لاعلان الرئيس هو أنه في غياب الدستور فانه هو الذي يجمع في يديه الصلاحيات التنفيذية، التشريعية والقضائية، وهكذا يمس بشدة بمبدأ فصل السلطات الذي يسعى الدستور الى اقراره. هذا الاختطاف اعتبر نوعا من التكرار بالنسبة لمنتقدي مرسي ممن رأوا بذلك نسخة عن أنماط عمل سلفه مبارك التي تمثلت بحكم الفرد. وفضلا عن ذلك، فباعلانه مزق مرسي الجمهور المرسي وشقه الى معسكري: مؤيدوه من بين الاخوان ومعارضوه من بين التيارات الاخرى. غير أن هذه المرة اصبح الشرخ نازفا وانتهى بقتل اثنين من المتظاهرين الذين تماثلوا مع الاخوان. لقد عادت الاحداث في مصر لتثبت بان ثورة التحرير لا تزال حية وان خطوة الرئيس، التي من شأنها ان تحطم الحلم الثوري، لا تترك الجمهور غير مبالٍ. يبدو أن مرسي لم يستوعب بعد كم غيرت الثورة الثقافية السياسية في مصر وكم هو الجمهور مستعد لان يضحي كي يحافظ على سيادته ويضمن الا يعود الحكم المطلق للسيطرة. وبالتالي، فانه حتى لو قصد مرسي اطلاق الحلم الثوري، فان تحقيق الديمقراطية بوسائل الحكم المطلق والتي في اطارها وضع نفسه فوق القانون، لم يعد مقبولا في نظر الجمهور. ولم يتردد المتظاهرون في ان يذكروا رئيسهم بمصير سلفه ومنذ الان باتت تسمع اصوات احتجت على أن 'مرسي يظن نفسه نبيا... غير أن حتى النبي لم يأخذ لنفسه صلاحيات كثيرة بهذا القدر...'. في مثل هذه اللحظة الحاسمة، كما يهدد ثوار التحرير، يجدر بالرئيس أن يستمع الى الاصوات التي تهتف هذه المرة ايضا: 'الشعب يريد اسقاط الرئيس'. د. ميرا تسوريف نشرة الكترونية تصدر عن مركز دايان لبحوث الشرق الاوسط وافريقيا جامعة تل ابيب 2012 مفترق الشرق الاوسط 6/12/2012