GMT 15:00 2014 السبت 1 فبراير GMT 14:45 2014 السبت 1 فبراير :آخر تحديث مواضيع ذات صلة مثلُ كتاب سافتح الصفحة الاُولى: شابة فتيّة تمنحُ القادمين بطاقات ٍ صغيرة ً مُلئت بمعلومات مقتضبة. أوانئذ من حقنا أن ندخلَ. والمدخلُ الى أين يُفضي؟ لم تسنحْ لي فرصةُ لدخول المكان. لكنْ ، حين غادرتُها حدجتني بنظرة حانية مشوبة بلوم خفيّ ناعم. وثمة مدخلٌ آخرُ ولجتُه ، على ميمنتي أبوابُ غرف ضاجّة بالحوار اقرب الى الصراخ. عشرات يوغلون في الغرف ومثلهم يخرجون مُغادرين المكان. كنتُ ارومُ دخول الغرفة الأخيرة التي يواجهني بابها ، ، وعلى يساري سياجٌ واطيء وراءه ساحة مكتظة بالناس: كتابُ عرائض، مراجعون ، موظفون آتون ورائحون ، وضوءُ الضحى يتدفقُ ويحبو في الفراغات. احتواني آخرُ باب ، يُفضي الى قاعة طويلة تنطوي على أسرة متقاربة. وعلى يساري أبوابٌ تخرج منها ممرضاتٌ يحملن صحوناً توزع على شاغلي الأسرّة. ترى لمَ جئتُ الى هنا ، ألكي انام؟ في الرقعة الواقعة بين الباب الخارج والباب الداخلي طاولة يجلس وراءها موظفتان. حين وقفتُ امامهما فتحت احداهن سجلاً كبيراً وقرأت ملاحظات عني ، رفعت رأسها والتفتت نحو زميلتها. مُعلنة موافقتها على ولوجي الصالة. لكن ، أنا لستُ في حاجة الى النوم ، والوقت لم يزل في منتصف النهار. وفيما كنت مسترخياً على السريرارنو حولي ارتفعَ صخبٌ ثمّ ضجيجٌ وانكمشت العاملات في امكنتهن واقفات ذاهلات. وسمعت همس احداهن لقد عاد ثانية. حين رفعتُ رأسي رأيته: فتى أهوج بيده سوطٌ يضرب به يميناً ويساراً. كان بارعاً شرسَ الهيئة. وبخفة ينقل السوط من يده اليمنى الى اليسرى ويستعمله بذات المهارة.ويرافق حركته صوتٌ اشبه بالفحيح او بعويل ناعم. اقترب مني ، حرّك السوط حوالي وكاد أن يضرب وجهي ، بيد اني مددتُ يدي مُمسكاً اياه من نهايته وسحبته بقوة فسقط الفتى على سريري. لففته حول عنقه وظلّ مسجى الى جواري. ضغطت على عنقه فأرسل حشرجة ، ثمّ ارخيتُه قليلاً. همستُ في اذنه: تتصرفُ بغباء وأنت تُقلق راحتنا ، فالقادمون الى هنا مرضي في حاجة الى هدوء. وعليك أن تكفّ عن شقاوتك. / ردّ صارخاً: لا أحد يستطيعُ ايقافي / اذاً ، ماذا تُريد؟ /لا شيء ، اني اتمتعُ وحسبُ / وعلى حساب راحة الناس / انا حرّ ، اتركني اذهبْ والّا.. / ضغطتُ على السوط وكدتُ اقطعُ انفاسه ، صرخ: موافق ، سأكف عن ازعاجكم واغادر المكان / غبئذٍ ارخيتُ السوط ، ثم سحبته. وقف بصعوبة على قدميه وكان وجهُه محتقناً احمرونفسُه يتدفقُ بطيئاً. مدّ يده يريد استعادة سوطه ، لففته على شكل دائرة وناولته اياه. وقبل أن يُغادر اقبلت ممرضة تحمل صحناً كبيراً من طعام منوّع: رز ولحم دجاج وخضار وعصير ليمون وتفاحة كبيرة. وضعت الصحن امامي ومضت. قلتُ له اجلس وشاركني الطعام. بدءاً رفض ، هزّ كتفه ، لكنه هزّ رأسه موافقاً: انا جائع / هلم اذاً وكلّ فأنا سأكتفي بقدح العصير. وبسرعة التهم الرز وفخذي الدجاج والخضار. اما التفاحة فقطعها بالسكين الى نصفين: نصفاً له ونصفاً لي./ اذاً صرنا صديقين / هزّ رأسه: نعم ، وساتخلص من هذا السوط / سألته / لمَ لا تذهب الى المدرسة؟ / لقد فصلوني بسبب الغياب. وليس لديّ رغبةٌ في الدراسة / غلط ، عليك أن تكمل دراستك لتجد موقعك في الحياة / لن يقبلوني بعد الان / ساساعدك ، عدني أنّك ستكون جاداً ، لكنْ ، أين أهلك؟ / ليس لديّ أحدٌ سوى زوجة أبي ، وقد طردتني من البيت / سأجد لك ملجأ ً في القسم الداخلي /.... ولا أدري ما الذي حصل بعدئذ ٍ ، بل كنتُ راكباً عربة يجرّها حصان بنيّ ، كان يجلس بهدوء الى جواري. الطريق وعرٌ مليء بالحفر والمطبات ، لكن الحوذي بارع والحصان صبورٌ. امام مبنى المدرسة توقفنا ، واحتوتنا بوابته الواسعة. استقبلني مديرُها بودّ ساخن: / جئت اعيده الى المدرسة / قال: كان من افضل طلاب المرحلة الأخيرة ، فجأةً تغيّر وتعثّر وبدأ يغيبُ ، ثم فصلناه / اطمحُ أن تمنحه فرصة أخيرة / نعم ، سأخصم من غياباته يومين ويُمكنه أن يعود الى دراسته / ما انبلك سيدي / ينبغي ان توقع على كتاب وتتحملَ المسؤولية / ساوقع على مثل هذا الكتاب ، انه اجراءٌ قانوني ، لكن لديّ طلبٌ ثان ٍ فهل بوسعك أن تقبله في القسم الداخلي ، فقد طردته زوجة ابيه من البيت / لدينا قسمٌ داخلي ملحق بالمدرسة يوفر للفقراء من الطلبة المأوى والطعام والملبس ومصروفاً يغطي حاجاته اليومية / لقد اسديت الينا فضلاً كبيراً لن ننساه / لا عليك ، فأنا اعرفك من ايام طفولتنا الأولى في المدرسة الشرقية ، انا اسماعيل ابراهيم / ابراهيم البقال ، لصق القيصرية. لا انسى كرمَك ، كنتَ تقدّم لي الجوز والتمر كلما زرتك في دكان الوالد. غبئذ ٍ انقطع خيط هذا اللقاء بعد أن امنتُ مستقبل هذا الفتى الذي دخل في قلبي كما لو كان ابني. لكن.. الى اين ستحملني قدماي هذه المرة؟ كنتُ اجلس فوق جدار عال ٍ حيث تتأرجحُ رجلاي ، وامامي فسحة من الأرض المكتظة بالخضار: الملفوف والقرنبيط والبصل. كان صديقي هاشم الذي فارقته من اربعين عاماً منحنياً على الأرض يلتقط بآلة اشبه بالمنجل كرات من اللهانة يقوم بتنظيفها ورميها جوار كرات اخرى.ترامى اليّ صوته: / ما زلت اطلبك عشرة دنانير ، قال مازحاً / لقد سددتها يوم زرتني في البصرة قبل اربعين عاماً ، انسيتَ / ردّ من دون ان يرفع رأسه نحوي: / لا أتذكر / الم تزرني ، ومكثت عندي عشرة أيام ، واقتنيتُ لك بدلة جديدة وقميصاً وزوج حذاء أنيق ، ألم آخذك في رحلة نهرية الى الفاو استغرقت من العاشرة صباحاً حتي السابعة مساء ، ألم تأخذ معك حقيبة كبيرة من كتب التراث اذكر منها: فقه اللغة للثعالبي ، ومعجم تاج العروس ، وديوان المُتنبي والمفضليات ، والنحو الوافي باجزائه الثلاثة ، وكتباً اخرى غابت عن بالي ، لقد سددتُ الدين / سكت كلانا ، ولم يزل يقوم بقلع الملفوف وتشذيبه ولم يرفع راسه نحوي ابداً. / لكن كيف آل امرُك الى الزراعة ، سألته ، وأنت استاذ جيد في اللغة؟ / أنا الآن متقاعد امضي وقتي في هوايات عدة فضلاً عن القراءة والكتابة ، اعيش وحدي واولادي واحفادي لهم حياتُهم الخاصة وانشغالاتهم / وام عيالك؟ / لقد انفصلنا وتعيش مع اخيها الذي لم يتزوج / سكت هنيهة ثم رفع رأسه ونظرني: / انا آسفٌ ونحن نلتقي بعد هذه السنوات الطويلة وعلى هذه الشاكلة / اوه ، لا عليك ، أنا عابر وحسبُ / ماذا تقول؟ / لا انت ولا أنا حقيقيان ، كلانا ضغث حلم طوباوي سقيم ، بعد قليل سنختفي كلانا ، ستمضي انت الى حنية وأنا الى اخرى ، وقد ينتظرني مكانٌ آخرُ / اذاً ، دعنا نتمتع بهذه اللحظات الأثيرية ، نملأ باصرتنا بمرأى الآخر ، ياه ، كم كانت سخية أثيرية أيام الدراسة ؛؛ حيث كان سريرُك جوار سريري ، وبين حين وآخر توقظني باصابعك واسمعك تقول: / انت تشخر ، لا تنم على ظهرك ، ثمّ انسيتَ ان شمعة واحدة كانت تضيء فراشينا، ونحنُ نقرأ تحت ضوئها حتى مطلع الفجر.؟ / اذكر ذلك ، وكيف انساه ، كما لا انسى جلساتنا الطويلة في ليالي الأصياف تضمّنا مقاهي الأعظمية ونحن نقرأ الصحف والمجلات العربية. وكان زادُنا المصرية واللبنانية الصادرة حديثاً ، فيها قرأنا روائع ترجمات البعلبكي وسامي الدروبي وجورج طرابيشي وآخرين نسيت اسماءهم.، حين نتعب نتجوّل في شوارع الأعظمية ، وقد نعبر جسر الأئمة الى الكاظمية نتعشى هناك ونعود قبيل الفجر. كان الزمن أماناً لا يجرح فيه انسان غيره.. / لا ادري ما الذي حدث بعد ذلك ،ااستمر حوارُنا أم ذبل؟ لكنّ المرأى تضاءل وشحب ، ثم اختفى كلّ شيء ، ولم اكنْ بعدئذ في ايّ مكان..... ايلاف