هذه الحلقة من مختارات النصوص أخصصها لنصوص في موضوع واحد يتعلق بما كانت أسبابا مهمة في خذلان المماليك الجراكسة امام الغزو العثماني لبلاد الشام ومصر في عهد السلطان سليم الاول، مما أدى إلى انقراض دولتهم. وفي هذا عبرة لمن يعتبر من الناس في كل عصر وأوان. ويمكن إجمال هذه الأسباب فيما يلي، وقد استفدتها من مخطوط بعنوان:( تاريخ وقعة الغوري هو والسلطان سليم...)(1) لمؤلفه أحمد بن علي الرمّال الملقب بابن زنبل: 1 ظلم الحكام للرعية، وعدم المساواة بين طوائف العسكر مما يجعلهم يختلفون بينهم على السلطان بين مؤيد ومعارض له.، ومن نتائج ذلك عدم إخلاص الجندي في الدفع عن وطنه. 2 عدم الأخذ بأسباب التقدم المادي والاعتماد على الشجاعة والفروسية وحدهما في الحروب . 3 الفهم المغلوط لقضاء الله تعالى وقدره، والفهم الساذج الخاطيء لسنة النبي صلوات الله عليه. 4 الإيمان باستجابة الله تعالى لأدعية المتصوفة، وأنهم لديهم خوارق يخرقون بها العادات، وبالتالي الاستعانة بأدعيتهم في خوض المعارك. وكذلك إيمانهم بالتنجيم والضرب على الرمل. ظلم الرعية واختلاف العسكر على السلطان: قبل بدء معركة مرج دابق أرسل السلطان سليم مبعوثا إلى السلطان قانصوه الغوري الذي كان معسكرا قرب مدينة حلب. يقول ابن زنبل: " ...فأمر (أي السلطان سليم) بإرسال قاضٍ إلى الغوري وكان القاضي أعرجاً فلا زال حتى وصل إلى حلب فرأى وطاق(2) الغوري خاليا من العسكر ما فيه إلا نحو ألف نفس لأنهم كلهم دخلوا حلب وأخرجوا الناس من بيوتهم وفسقوا في حريمهم وأولادهم وآذوهم الإيذاء البالغ وكان ذلك سببا لقيام اهل حلب مع السلطان سليم على الجراكسة... ثم أمر الغوري بالخروج إلى الحرب فخرج جميع العسكر وأودعوا جميع أموالهم عند أهل حلب بعدما آذوهم الإيذاء البالغ فلما خرجوا من عندهم دعا عليهم الكبير والصغير والغني والفقير لمَا حصل لهم من ضررهم..." ويتابع ابن زنبل نقل الأحداث: "... ثم إن الغوري أمر كرتباي الوالي بأن يكشف خبر سليم وعسكره ويرجع على الفور ليتمشى عليه ويبادره بالحرب فلما وصل كرتباي إلى قيصارية (قيسارية) وجد أهلها قد قفلوا أبوابها وتأهبوا لقتال عسكر مصر(عسكر السلطان الغوري) لما بلغهم ما فعلوا في حلب وأهلها من إخراجهم من أماكنهم ونهب أموالهم وغصب نسائهم وبناتهم ثم وجدوا يونس نايب عينتاب(شمال حلب) عزل حريمه وأمواله وهو معول على الرحيل إلى السلطان سليم وقد انقلب على أبناء جنسه ومال إلى الروم... " ويتابع الراوي: " ثم أمر السلطان ان ينادى في حلب برحيل العسكر منها لقتال ابن عثمان وكان ذلك في يوم الجمعة من رجب سنة اثنين وعشرين وتسعماية" قال الراوي:" وكان له موكب حتى رُجّت الأرض وليس الخبر كالعيان وكانت الجلبان( المجلوبون بالشراء) ثلاثة عشر ألف مملوك كلهم اشتراهم الغوري... وكان قصده أن ينشئ له عسكرا من مشتراواته ويقطع القرانصة وهم مماليك الملوك الذين قبله وكان يحسب حسابهم خوفا من أن يمكروا به كما فعلوا بمن كان قبله..." وفي موضع آخر قال ابن زنبل:"... وعلى ما قيل إن السلطان الغوري أمر بأن أول من يخرج للحرب القرانصة لكون أنهم أعرف بالحرب من الجلبان وكان قصده أن تنقطع القرانصة ليستكفي شرهم ويصفو له الوقت فإنه كان يحسب حسابهم خوفا من مكرهم فأمر بتقديمهم للحرب وأخّر جلبانه فعلموا مكره لما رأوه واقفا هو وجلبانه لم أحدا منهم يتحرك من موضعه فتغيرت نياتهم عليه وقالوا: نحن نقاتل بأنفسنا النار وأنت واقف تنظر إلينا بالعين الشامتة ما تأمر أحدا من مماليكك يخرج للميدان؟!... " الفهم المغلوط.... وعدم الأخذ بالأسباب: طالعتُ في المخطوط الذي ذكرته حوارا دار بين أمير من أمراء المماليك الجراكسة كان من الولاة في عهد السلطان قانصوه الغَوْري اسمه (كرتبيه أو كرتباي) وقد مر ذكره . فبعد مقتل الغوري في معركة مرج دابق (922ه 1516م) وسقوط بلاد الشام استولى السلطان سليم الأول العثماني على مصر بعد هزيمة المصريين بقيادة السلطان طومان باي، وكان كرتبيه قد سلم نفسه للسلطان سليم بناء على وعد بالأمان، ثم "بعد أن عرف من عين السلطان الغدر... ترك الأدب وتكلم بكلام من يئس من الحياة وجعل عينيه في عين السلطان سليم ودفع بيده اليمنى في وجه السلطان وقال له اسمع كلامي واصغ إليّ... " على حد قول ابن زنبل، وأخذ يبين للسلطان شجاعة المماليك وشدة بأسهم في القتال، ولولا استخدام العثمانيين للبنادق لما قدروا على المماليك، وقال كرتباي للسلطان سليم:" ... وحُبيتَ بهذه الحيلة التي تحيّلتْ بها الافرنج لما عجزوا عن ملاقاة عساكر الإسلام وهي هذه البندقية التي لو رَمتْ بها امرأة لبَقّتْ (3) بها كذا كذا إنساناً ونحن لو اخترنا الرمي بها لما سبقتَ إليه ولكن نحن قوم لا نترك سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو الجهاد في سبيل الله بالسيف ...، والله يؤيد بنصره من يشاء. وكيف ترمي بالنار على من يشهد لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة! وقد جاءنا بهذه البندقية رجل مغربي للسلطان الملك الأشرف قانصوه الغَوْري، رحمه الله وقاتل الله قاتِله، وأخبره أن هذه البندقية قد ظهرت من بلاد البندقية وقد استعملها جميع عساكر الروم والعرب وهي هذه، فأمره بأن يعلمها لبعض مماليكه ففعل وجيء بهم فرموْا بحضرته فساءه ذلك وقال للمغربي نحن لا نترك سنة نبينا ونتبع سنة النصارى وقد قال تعالى في كتابه العزيز إن ينصركم الله فلا غالب لكم فرجع المغربي وهو يقول من عاش ينظر هذا الملك وهو يؤخذ بهذه البندقية وقد كان كذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فقال السلطان سليم حيث أن فيكم الشجعان والفرسان وأنتم على الكتاب والسنة كما زعمت فبأي سبب غلبناكم ومن أرضكم أخرجناكم واستعبدنا أولادكم وأفنينا جموعكم وها أنت جئت أسيرا بين يدينا! فقال الامير كرتباي: والله ما أخذتم أرضنا بقوتكم ولا بفروسيتكم وإنما ذلك أمر وصّاه(قضاه) الله تعالى وقدّره في الأزل...". أكتفي هنا بهذا القدر من النقل؛ مبينا أن الخطأ في فهم معنى قضاء الله وقدره والخطأ في فهم معنى سنة النبي صلوات الله تعالى عليه، أوقع المماليك الجراكسة في المهالك، وأودى بدولتهم. والله عز وجل جعل الإنسان مسؤولا عن أفعاله، ولولا هذا لما كان الثواب او العقاب. والأخذ بالأسباب واجب شرعي تدركه العقول وتعتمد عليه، ويبقى التوفيق من الله سبحانه، وهو جل وعلا يوفق المؤمنين صحيحي الإيمان لما فيه خيرهم. اما ان يكون استخدام السيف والرمح وغيرهما من آلة الحرب القديمة من سنة النبي صلوات الله عليه، فليس الأمر كذلك؛ وإنما هي سنة البشر وسنة الحروب. وقد أثر عن النبي الأكرم قوله: " ألا إن القوة الرمي، قالها ثلاثا". والرمي واضح معناه وهو ان ترمي عدوك المعتدي عليك عن بُعد؛ سواء بالنبال أو بالرماح أو بصواريخ (كروز) وغيرها من الصواريخ في هذا العصر، وانت قابع في دارك لا تخشى أحدا.. والمماليك السلاجقة ظنوا أن صناعة واستخدام البنادق سنة النصارى، وإنما هي سنة العقل والتفكير والتقدم نحو الأفضل من وسائل امتلاك القوة، وظنوا أن في مخالفتهم تلك السنة واجباً دينياً؛ ولكن ظنهم أبعدَ النُّجعَة، فخاب. على أن اولئك المماليك فوجئوا بالبنادق في زمنهم كما فوجئ الناس بالقنابل النووية في القرن العشرين، فحرمتها الدول العظمى إلا على أنفسها، وياله من تحريم ! فلو كانت تلك الدول صادقة في الإنسانية، لحرمتها على أنفسها، ثم سعت بعد ذلك إلى تحريمها على الغير. الإيمان باستجابة دعاء المتصوفة والمشائخ أصحاب المذاهب: قال ابن زنبل: " ... وكان معه (أي مع السلطان الغوري عتد خروجه إلى حرب ابن عثمان) الأربعة الأئمة من المذاهب، وخليفة سيدي عبد القادر(الجيلاني)، وخليفة سيدي ابراهيم الدسوقي، وخليفة سيدي أحمد البدوي...". وبعد انتصار السلطان سليم على الحراكسة قال ابن زنبل: " ... وكان مع الغوري خلفاء المشايخ مثل سيدي أحمد وسيدي عبد القادر الجيلاني وسيدي ابراهيم الدسوقي وأمثالهم فلما وقعت الكرّة على الغوري بقيت المشايخ المذكورون بحلب فلما سمعوا بأن السلطان سليم قادم على حلب خافوا من سطوته فأخذوا بالذهاب إلى نحو الشام فلما رآهم على بعد ومعهم الرايات والأعلام قال: ما هؤلاء قال: هؤلاء خلفا المشايخ كانوا جاؤوا مع الغوري فلما كُسر يريدون الذهاب إلى مصر فأمر بإحضارهم فلما مثلوا بين يديه أمر برمي رقابهم أجمعين وكانوا يليمون(ربما عامية تعني أنك إذا لممتهم على بعضهم بعضا بلغوا أكثر من ألف رجل. ولو قال ينوفون لفُهم القصد) على ألف، ختم الله لهم بالشهادة..." . في حلقة سابقة ذكرت شيئا من نوادر الصوفية في ذلك الزمان فليُرجع إليها لمن يرغب. وكان السيد البدوي مُشتَهرا عند الناس بأنه يمكنه جلب الأسرى من أمكنة أسْرهِم. ولذلك يقال: إن الجملة التي يتغنى بها بعض الدراويش وهي:" الله الله يا بدوي جاب اليُسَرى أو اليُسْرى" (يعني الأسرى) تعود إلى اشتهار احمد البدوي بذلك.. أما التنجيم والضرب بالرمل فقد كان السلطان الغوري يعتقده أو يأنس به على الأقل. بل إن الخلفاء من بني العباس وغيرهم من كان يهتم للتنجيم والمنجمين، ونجد ذلك مبثوثا في أثناء كتب التراث. يقول ابن زنبل: " ومن غريب صنع الله تعالى أن الغوري كان عنده رمّالاً جازما فكان كل حين يقول له انظر من يلي الحكم بعدي فيقول: حرف سين. وكان السلطان يعتقد أنه سيباي (أحد الأمراء المخلصين الشجعان)، وكان كلما كتب سيباي للسلطان بما يفعل خايربك نائب حلب من الإثبات للسلطان سليم بأنه معه مُلاخي (4) على أبناء جنسه ويحرضه على المجيء إلى أخذ أرض مصر من السلاجقة والسلطان الغوري لا يقبل من سيباي نصيحة! ...". أقول انا ياسين: من العجيب أن السلطان الغوري لم يفطن إلى أن السلطان سليم اول حرف من اسمه سين! ويبدو أن الذي أنساه ذلك هو كثرة الشك والارتياب بين أركان الدولة، وانتشار التوجس والخوف من الغدر بين بعضهم بعضا. وليس من الغريب أن تتكرر أسباب الهزيمة التي ذكرتها في اول المقال مع كل شعب وفي كل أرض في حال لم يتلافاها الناس وحكامهم. (1) المخطوط على هذا الرابط http://wadod.org/vb/showthread.php?t=4941 وقد قمت أثناء الاقتباس من المخطوط بتعديل بعض الكلمات العامية او التركيبات اللغوية القريبة من العامية. وهناك كتاب محقق بعنوان (آخرة المماليك) يتعلق بما كتبه ابن زنبل خصوصا عن مصر. والمحقق عبد المنعم عامر، والذي اعتمد مخطوطا آخر غير الذي طالعته أنا. والكتاب على الشبكة للتحميل. (2) الوَطاق: المُعسكر (3) بقّ الجراب أو نحوه : شقه (المعجم الرائد). وهي على ما يبدو بمعنى بقرَ. (4) المِلاخ والممالخة تعني التملق. ينظر لسان العرب لابن منظور مادة ملخ. متصفحك لا يدعم الجافاسكربت أو أنها غير مفعلة ، لذا لن تتمكن من استخدام التعليقات وبعض الخيارات الأخرى ما لم تقم بتفعيله. ما هذا ؟ Bookmarks هي طريقة لتخزين وتنظيم وادارة مفضلتك الشخصية من مواقع الانترنت .. هذه بعض اشهر المواقع التي تقدم لك هذه الخدمة ، والتي تمكنك من حفظ مفضلتك الشخصية والوصول اليها في اي وقت ومن اي مكان يتصل بالانترنت للمزيد من المعلومات مفضلة اجتماعية دنيا الوطن