إلا الزنداني!!    جنرال أوروبي: هجمات الحوثيين ستستمر حتى بعد الحرب على غزة    صافح الهواء.. شاهد: تصرف غريب من بايدن خلال تجمع انتخابي في فلوريدا    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    تصريحات مفاجئة لحركة حماس: مستعدون لإلقاء السلاح والانخراط ضمن منظمة التحرير بشرط واحد!    البحسني يشهد تدريبات لقوات النخبة الحضرمية والأمن    عقلية "رشاد العليمي" نفس عقلية الماركسي "عبدالفتاح إسماعيل"    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    الشيخ الزنداني رفيق الثوار وإمام الدعاة (بورتريه)    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    فيديو صادم: قتال شوارع وسط مدينة رداع على خلفية قضية ثأر وسط انفلات أمني كبير    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    لابورتا يعلن رسميا بقاء تشافي حتى نهاية عقده    فينيسيوس يتوج بجائزة الافضل    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    "جودو الإمارات" يحقق 4 ميداليات في بطولة آسيا    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    المجلس الانتقالي بشبوة يرفض قرار الخونجي حيدان بتعيين مسئول أمني    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    الإطاحة بشاب أطلق النار على مسؤول أمني في تعز وقاوم السلطات    اشهر الجامعات الأوربية تستعين بخبرات بروفسيور يمني متخصص في مجال الأمن المعلوماتي    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    رجال القبائل ينفذوا وقفات احتجاجية لمنع الحوثيين افتتاح مصنع للمبيدات المسرطنة في صنعاء    حقيقة وفاة ''عبده الجندي'' بصنعاء    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    مع الوثائق عملا بحق الرد    لحظة يازمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء التاسع عشر بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 02 - 02 - 2014


19
بسم الله الرحمن الرحيم
أبي/ الشيخ فرحان العصفوري ....... حفظه الله .
السلام عليك ، وأُقَبِّلُ يديْك.... وبعد :-
فقد استضافني رجال يرفعون إليك ظُلامتهم ، ويسعوْن لديك لإنصافهم منك. إنهم غرماؤك ، وأنتَ لهم خصيم ، وقد باديتَهم بخطف سبيَّتك التي ترزح في بيتك .
أبي/ أَعِدْ سلمى إلى بيتها ، أَعُدْ إليك سالماً ، وإنهم لَيُنْظِرُونك ثلاثة أيام ، فإن لم تفعل فإنهم مُكرَهون على أن تكون مبادلة سلمى في المرة القادمة بإحدى أخواتي ، (اللاتي هُنَّ بناتك) ، وإنهم لقادرون ، ولكنهم آثروا أن أكون أنا أولاً . وإنهم والله نشامى ، قد أحسنوا معاملتي ، فأحلُّوني محلاً أهلاً ، وأنزلوني منزلاً سهلاً ، ولا أدري ماذا يكون منهم غداً ! .
أبي/ أَطْلِقْ سلمى ، وارفعْ مقتك وغضبك عن قرية بيت جبرين وسائر قرى الخليل، ولا ترسلْ في طلبي ، ولا تَدَعْ رجال الدَّرَك يقتفون أثري ، فإني في حوصلة طير جارح ، عَصِيٍّ على صياديه .
أبي/ قِ نفسَك ، وَقِنَا من نار وقودها الناس والأحجار والأشجار، أُعِدَّتْ للقرية الظالمِ أهلُها ، الجائرِ سلطانُها ..... لأمي التحية ولكم مني السلام ،،،،،
ولدك /عزام
* * * * *
استشاط الشيخ العصفوري غضباً وحنقاً بعد أن قرأ رسالة ابنه عزام ، ولاكت أصابع يده الورق في عنف ظاهر ، وضغط على نواجذه ضغطة شديدة كادت تفري بعض أضراسه ، ثم زفر زفرة حارقة قد فاح منها رائحة الشياط التي لا تخلو من غيظ يعتمر به صدره ، وأخذ يتمتم بصوت خافت لا تكاد تدركه مسامع الجالسين من
حواليه ، بينما تعلَّقت عيناه في اللاشيء ، فتراه يهزُّ رأسه مرة ، ويلوي شفتيه مرة أخرى ، ويده ما زالت قابضة على الرسالة وكأنه يخشى أن تَفِر من بين أنامله . واعتدل الرجل في جلسته ، وطاف ببصره على الوجوه يستقرئها ، فلم يقرأ عليها سوى عبارات الدَّهَش وشيء من علامات الاستنكار.
وجم الحاضرون ، فلم تُرَ إلا عيونٌ تختلس النظر إلى مَن حولها ، ثم ترتدُّ مسرعة إلى وجه الشيخ العصفوري الذي كان مُطرِقاً يلوك أفكاره ، إنه في مأزق لا يُحسد عليه ، وإنه في موقف لا ينفع معه العناد والمكابرة ، فابنه في الأسر يستعطفه ويُحَذِّره من تفاقم الأمر الذي قد ينجم عنه شر مستطير ، وقد يصل به إلى موصل سوء إن هو بقي على عناده الذي اشتهر به .
وهو في نفس الوقت ما يزال يعيش تحت مظلة أَنَفَتِه وعِزِّه وجبروته ، فهل ترتضي له نفسه أن يمزق هذه المظلة ؟ . وهل يرتضي لنفسه أن يخلع رداء مجده وسلطانه ؟. وهل يقبل الهزيمة فينحني لمن جعلهم عبيداً تنحني له هاماتهم زمناً طويلاً ؟. وهل يرفع راية التسليم ويعلن عن انهزامه لمن أذلَّهم عمراً مديداً ؟ .
" آه يا زمن ! كيف يكون تصريفي لهذا الأمر ؛ والمناصب مُغْرِية ؟ . وهل سياج السلطان قد اهترأ فلم يَعُد يحمي صاحبه من عثرات الأيام ؟. أوَ ترضى ياعصفوري لنفسك أن تكون تابعاً ؟. أوَ تقبل ياشيخ المشايخ أن تعيش عيشاً مهملاً ، وتموت موتاً حقيراً ؟! . أَلَا تذكر حكمة المتنبي وهو القائل :
" إذا غَامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومٍ فَلا تَقْنَعْ بما دون الَّنجومِ "
" فَطَعْمُ المَوْتِ في أَمْرٍ حَقِيرٍ كَطَعْمِ المَوْتِ في أَمْرٍ عَظِيمِ "
نعم ! إني أرفض منزلةً أقل مما أنا فيه من سلطان يحكم في عِزٍّ ومَنَعَة ، لا يطاول مجدي بنيان . فالمجد الذي بنيته لا ولن أسمح لمعاول الزمان أن تهدمه ، وسأظل أطيل هذا البناء ولن أذعن لأحد ، ولن أتخلى عن شيء من هذا النعيم وهذا الثراء وهذا الجاه . أما عزام فإني سأفتديه ، نعم سأفتديه ، وسأسخِّر دهائي في حَلٍّ
يعيده إليَّ دون أن ينتقص أحد من هيبتي، وأما تهديد المارقين بعودتهم ثانية ، فإني كفيل بهم ، وسأشدِّد الحراسة وأُكْثِر من العيون المتفتحة اليقظة والأيدي الضاغطة على سلاحها. ولكن كيف لي أن أتصل بهم وأنا لا أعرف لهم عنواناً ، ولا أعرف منهم أحداً ؟. فمن يا تُرى جاء بالرسالة إلى ديواني، ووضعها في مجلسي ؟. ليتني أعرف ساعي البريد هذا لأرسل معه ردي !. أيُعْقَل أن يكون واحداً ممن يخدم في قصري ، أم أنه أحد رجالي المقرَّبين ؟. فمَن يخبرني مَن هو حتى أكافئه على هذا الخبر الذي أذهبَ الرَّوْع عن قلبي ، وأدخل السكينة في نفسي ، فجعلني اطمئن على حياة عزام " .
وتنهَّد الشيخ العصفوري ، وفتح عينيه ليرى الجلساء من حوله ينظرون إليه ، فيرى منهم الدَّهَش والاستنكار، وجال ببصره على وجوههم ، ثم انبرى قائلاً :
- لعلكم تتساءلون عما أسكتني وغيَّبني عنكم وأنا بينكم .
ورفع لهم يداً تُلَوِّح بورقة عتيقة ، ولم يعطهم العصفوري فرصة للكلام حيث استأنف حديثه :
- لقد وصلتني رسالة من عزام .
فانبرت الألسنة تبارك له وتُهَنَّئه بسلامته ، وسأل منصور أباه :
- وأين هو.... ؟.
- في أيدي الخاطفين .
- ومن الخاطفون ؟ وأين هم ؟.
- لا أدري ! .
- ماذا يقول في رسالته ؟.
- يهديكم تحياته وسلاماته .
- وماذا أيضاً ؟.
- يرغِّبني تارة ، ويحذِّرني تارة أخرى .
غشيتْ وجوه القوم سحابة ضيق وبدا النزق يتطاير عن ألسنتهم ، وقال عَمَّار:
- حيرْتَنا والله يا ابن العم ، فهذه أحاجي لسنا على فهمها بقادرين .
وعاد منصور يسأل أباه :
- فيم يرغِّب ومم يحذِّر ؟.
اغتصب العصفوري ابتسامة واهية قد ارتسمت على شفتيه ، بينما لا زالتا تختلجان من شدة الانفعال :
- يستعطفني بتسريح سَبِيَّتِي " سلمى " ، ويُحَذِّرني من خاطفيه الذين يتوعدون بشر أكبر إن لم أفعل .
- الأُولى وقد فهمناها: مبادلة سلمى بعزام ، ولكننا لم نفهم الثانية ، ففيمَ يتوعدون ؟.
أحسَّ العصفوري غُصَّة في حلقه أوقفتْ لسانه فتعطَّل كلامه ، ومنعه الحياء والكبرياء من تبيان الأمر، ولكنه استجمع قوته وقال :
- دعك يا منصور من تهديدهم ووعيدهم ، فماذا تروْن أيها القوم ؟ .
قال باجس :
- أبي ، لا قيمة لرأينا إن لم تخبرنا بكل ما جاء في الرسالة ، ولا بأس من قراءتها على مسامعنا .
حدثت همهمة بين رجال العشيرة وقد أَمَّنوا على ما قاله باجس ، إنهم يريدون معرفة كل ما جاءت به الرسالة ، ولكنَّ الشيخ العصفوري يحجم عن ذلك معتذراً ، ويطوي الورقة ويضعها في جيب سترته :
- لن أقرأ عليكم الرسالة ، ولن أزيد على ما قلته لكم ، ولكني أريدكم أيقاظاً ليل نهار، تحسُّباً لأمر طارئ .
ويعلو صوت مسعود قائلاً :
- قلها يا أبتاه : إنهم يتوعَّدوننا بخطف أسير آخر ، وقد يكون أنثى .
نظر الشيخ العصفوري إلى ابنه مسعود ، ثم عاد يجول ببصره على وجوه القوم ، ثم أعاده ثانية إلى وجه مسعود وقال في نفسه : - " لله دَرُّك يا مسعود ! ".
لم يُعَقِّب الشيخ العصفوري ، وآثر الصمت لولا أن سأله أحد الحاضرين :
- أَلَا يكفي المال حَلاً ، أم أنَّ لهم رأياً آخر؟.
وهنا ينتصب العصفوري في جلسته ويقول بصوت واضح مسموع :
- ليس المال مطلبهم ، ولكني أعلن أمامكم ليشيع في كل مكان ، إن كان الخاطفون يريدون مالاً فإني أعطيهم وزن عزام ذهباً بكفالة مَنْ ينتدبونه من مشايخ العرب .
قال قائل منهم :
- إنَّ للذهب بريقاً يفكُّ أسْر المأسورين ، وإنه أجدى لهم وأنفع من " سلماهم " هذه .
قال آخر:
- عسى أن تمرَّ هذه المحنة بما يريح قلبك .
- هيَّا يا ساقي ، أَدِر القهوة على الحاضرين .
ثم يلتفت إلى منصور مخاطباً من خلاله جميع رجاله :
- منصور ! كن ورجالك في يقظة تامة ، فقد يعود الخاطفون ، ويدخلون علينا من باب العين النائمة .
* * * * *
هبط طائر النوم ورفرف بجناحيه في أجواء الديوان ، فأخذ الحضور يتثاءبون ، وتتثاقل الجفون مستسلمة لنعاس زاحف ، والليل يمضي بهم مسرعاً خطاه ، وهم عن الوقت لاهُون ، فيغادرون واحداً تلو الآخر ، والعصفوري رابض متيقظ الذهن لا تغمض له عين . خلا الديوان من جميع جلسائه ولم يبق غيره في جوف الليل يسهر، يُقَلِّب الأمور على وجوهها وإن اختلفت فيها قراراته ، وما إن يَقَرُّ على رأي يرتضيه عقله حتى يُسمعه قلبه رأياً مخالفاً ، فتراه حائراً بين قلبه وعقله ، لا يدري أيهما أحق أنْ يُتَّبع !.
نهض الشيخ العصفوري متثاقلاً ، وسعى سعياً بطيئاً إلى مخدعه ، وبينما هو في
طريقه قَرَّرَ أن يبيت هذه الليلة في مخدع زوجه الثانية ، فتَحَوَّل عن حجرة زوجه مريم " أم عزام " التي كانت تنتظره وترصد خطواته حتى وصل ، فاستوقفته بقولها :
- إلى أين يا أبا نوَّاف ؟.
- إلى النوم .
- أرى أنك قد نسيتَ أنَّ منامك عندي هذه الليلة .
- ولكني أرى غير ذلك .
- أريد أن أتحدث إليك في أمر يهمنا .
- ولأجل هذا قررتُ أن أبتعد عنكِ هذه الليلة .
- أتخشى مني على نفسك ؟.
- أتحاشى صداماً قد يقع ، وأنا موجع القلب متصدع الرأس .
- وأنا مُفَجَّعَة القلب ، باكية العين ، قد تصدَّع قوامي ، وإنه ليؤول إلى الانهيار، ولا يُقيمه إلَّاك أيها الزوج العزيز، فهلاَّ قبلتَ دعوتي ؟.
رفع رأسه إلى وجهها ، ونفث الدخان من فيه ، ثم ألقى عقب سيجارته تحت نعله وداس عليها بحركة عصبية ، ثم رفع وجهه إلى السماء ، وقال مستغيثاً :
- يا رب عونك !.
مال إلى جهة الباب ، وما إن ولجتْ قدماه في داخل الحجرة حتى أخذت أم عزام توسِع له الطريق ، وتفرش له الأرض ابتساماً وترحيباً ، فاستوى على حافة الفراش ، وجلستْ هي قبالته وقالت :
- أراك مهموماً .
- لقد تركتُ الديوان وأنا في إعياء شديد .
- ماذا تحس ؟.
- أحس إعياء شديداً يطوِّح بجسمي ويميل بي إلى التقيؤ.
- إذن ، دعنا نُسرِّ عن نفسينا بالحديث .
- لا رغبة لي يا مريم في الحديث الآن ، فقد تحدثتُ كثيراً ، وسمعتُ كثيراً
حتى كادت رأسي تتفجر.
- وفيم كان حديثك هذا الذي أعياك ؟.
- في شئون العشيرة .
- وماذا قال لك ابنك ؟.
- أيهم تقصدين ؟.
- صاحب الرسالة .
بُهِتَ العصفوري ، وتسمرت عيناه في وجهها ، وقال وهو يعلم أن لا مجال للإنكار :
- كيف عرفتِ ؟.
- هذه أرض مقدسة ، لا يختبئ فيها سر حتى ينكشف ، وما دام الأمر يخص ولدي فلماذا لا تتكلم ؟.
- دعيني الآن ، فلا رغبة لي في الحديث عن أي شيء .
- أهكذا تنفر مني ومن حديثي يا أبا نوَّاف ؟.
- ليس كذلك ، ولكني ما زلت تائهاً ، لم أصل إلى قرار .
- إذن ، اسلك الطريق السهلة التي تؤدي بك وبغيرك إلى النجاة والحياة الوادعة .
- ماذا تقترحين ؟.
- اِختزلْ زمنَ الأوجاع .
- كيف ؟.
- أَخْبِرْنِي بما جاء في الرسالة ، أقلْ لكَ كيف ؟.
- من أخبركِ بوصول رسالة من عزام ، أم أنت تُخَرِّصِين ؟.
- دعك من نفي ما ثبتَ لدي ، فقد تلقيتُ التهاني فور إعلانك عنها على الملأ، وها أنتَ تُنكر عليَّ الفرحة بسلامة ابني ، وحيدي .
ارتسمتْ بسمة واهية على شفتي الشيخ العصفوري ، فتشجَّعتْ بها زوجه على
مواصلة الحديث :
- بالله عليك أن تفصح ، وأعاهدك أَلا أَفضح سرك .
- ماذا تريدين ؟.
- ماذا قال عزام في رسالته ؟.
أَخرج العصفوري من جيبه ورقة وأخذ ينظر فيها ويقول :
- إنه بخير وإنَّ خاطفيه من أهل هذه القرى ، ويريدون مبادلته بسلمى ، ولا يبتغون من ورائه ذهباً ولا فضة ، وقد حدَّدوا المهلة بثلاثة أيام .
- وماذا أيضاً....؟.
- يتوعدون بالْكَرَّة علينا مرة أخرى وسبي إحدى بناتي .
- لتركع وتحقق لهم مطاليبهم . أليس كذلك ؟.
- لن أركع .
- ولكنهم ليسوا لصوصاً كما ظننتم من قبل .
- لم يكن لدينا غير ما ظننا .
- وبم أشار عليك عزام ؟.
- أنْ أطلق سراح سلمى ، ليعود هو إلينا .
- وماذا أنت فاعل يا شيخ البلاد ؟.
- سأنتظر، ولكنْ دعي هذا الأمر سراً ولا تبوحي .
- إلى متى ؟! حتى تنتهي المهلة ، ويتعرض عزام للخطر، ويتعرض بيتك لفضيحة أكبر! .
- عزام رجل ، ولا خشية على الرجال .
- وهل تتركه معلقاً بمخالب نسر لا يهبط إلا على رءوس الجبال .
- هِبِي أنه سجين ، أفلا تنتظرين ؟.
- ولماذا الانتظار، وبيدك مفتاح سجنه ؟.
- يا أم عزام ! أنا مُتْعَب ، دعيني أنمْ .
- أنت متعب الفكر ، مشتت الخواطر، لهذا تريد أن تفرَّ إلى النوم ، وتركن
إليه وتلوذ به .
لم يرد العصفوري ، بل حملق في زوجه وهي تقول : - إني أمٌّ ، وقلبي يحدثني بما يقضُّ مضجعي هلعاً على مصير ولدي ، فإني
استعطفك أن تعيده إلينا سالماً قبل أن نُصاب فيه بمكروه ، استمِعْ إلى ندائه
وأعدْ سلمى يا أبا نوَّاف ، ولا تعاند .
- سأرى الرأي المناسب .
- متى ؟.
- في الوقت المناسب .
- وأنا سأرسل في طلب أبي ، لعله يجد حلاً يحفظ لي ولدي ، ويعيده إليَّ .
- إياكِ أن تفعلي شيئاً يخالف هواي .
- تذكر أنك فقدتَ ولدك نوَّاف ، وها أنت تُلْقِي ولدك عزام إلى الموت ، وتُعرِّض
حرائر بيتك إلى الاختطاف والسَّبْي ، ولا تدري ماذا يكون أيضاً !.
وخفض العصفوري رأسه ، وأسبل عينيه بينما أخذت أم عزام تولول وتبكي نادبة حظها العاثر، ضارعة إلى الله أن يحفظ لها ولدها ويعيده إليها ، وتستثير كلماتها الدمع في عيني زوجها ، فيدير العصفوري رأسه يخفيها عن زوجه ، وتمتد يده خلسة لتمسح ما يغبشها ، وأم عزام ما زالت نائحة باكية ، فتتسلل كلماتها من خِلال نشيجها إلى مسامعه :
- أَفِقْ يا أبا نوَّاف لئلا تخسر كل شيء ، حينها ستجد نفسك مُلْقَى على وجهك
في صحراء الإهانة والمذلة ، تغمرك اللعنة ويطاردك الإنكسار.
ويرفع العصفوري يده ويلطمها على وجهها بينما لسانه يعلو بالصراخ :
- كُفِّي عن هذا الحديث يا امرأة ، ولا تنسَيْ أني زوجك .
وتحسستْ وجهها وانسابت دموعها على وجنتيها ، وقالت مستجدية :
- تدبَّر أمرك قبل فوات الأوان ، فإني أرى الطوفان يسعى إليك حثيثاً ،
ولاعاصم لك حينئذ من غضبة الأمواج الهادرة .
انحسر الشيخ العصفوري ، وبدا عليه الأسى والأسف ، فخفض لها صوته ، وقال متلطفاً لها مترفقاُ بها :
- قلتُ لك أمسكي عليك لسانك ، وسأفعل ما يحفظ لنا عزام ويعيده إليك سالماً.
أشرق وجهها ، وارتسمت الابتسامة على شفتيها ، وقالت وهي تمسح دموعها :
- ماذا قلت يا أبا نوَّاف ؟ أعدْ على سمعي مقالتك .
- لا تنسَي أني أب كما أنت أُمّ ، وستكونين راضية مرضية ، ولكنْ....
- ولكن ماذا....؟.
- سيكون ذلك بالطريقة التي تحفظ لي كرامتي وهيبتي حتى لا يطمع فيَّ الطامعون .
وانحنت أم عزام على يديه تقبلهما وتدعو له ، فدفعها عنه دفعاً رفيقاً، واستدرك قائلاً :
- إياكِ أن تذيعي ما بُحت به لك حتى لا تفسدي عليَّ خطتي الملأى بالمناورات.
* * * * *
مرت الساعات ثقيلة ، فها هو اليوم الثالث لمهلة الخاطفين ، وما إن فرغ المُصَلُّون من أداء صلاة العصر حتى دنا من الشيخ العصفوري أحد رجاله يخبره بقدوم الشيخ حرب السيناوي . فيهبُّ لاستقباله وقد أقبل على فرسه يصحبه نفر من رجاله ، ويحتفي العصفوري بأضيافه احتفاء يليق به وبضيفه مكانة ومهابة .
ويدور الساقي بفناجين القهوة السادة ، وترتفع ألسنة النيران في مواقدها بينما يقوم كل من رجال العصفوري وخَدَمه بما أوكل إليه من عمل في صمت ونظام كنظام النمل وصمته . فتذبح الذبائح ، ويطهو الطهاة طعامهم ، وتُقدَّم الموائد أمام الشيخ حرب ورجاله ، فيطعمون ويشربون ، والشيخ العصفوري مشغول بالإجابة عن سؤاله : " ما الذي دفع الشيخ حرب إلى زيارتي ؟! ". ولم يطل به الوقت حتى تململ الضيف واعتدل في جلسته ، وقال مخاطباً الشيخ العصفوري بصوت أجش نَبَّه الحاضرين
وجعلهم يصغون إليه :
- قل لي يا شيخ فرحان .
- تفضَّل يا شيخ حرب !.
- ما أخبار ولدك عزام ؟.
- إنه بخير.
- علمتُ أنَّ رسالة منه قد وصلتك .
- هذا صحيح !.
- حقيقة ، إني جئتُ إليك بأمرين .
- عساهما خيراً إنْ شاء الله .
- الأول أني جئتُ مهنئاً بسلامة ولدك عزام ، والثاني أني أتيتُ مفاوضاً عن الخاطفين الذين انتدبوني للوساطة بينكم وبينهم .
اعتدل الشيخ العصفوري في جلسته وحملق في جليسه الضيف بما يدل على الدهشة ، وراح يوزع النظرات على وجوه القوم ، ولم ينبس ببنت شفة ، ولكنَّ الشيخ حرب أخذ يقرأ ما يلوكه عقل العصفوري من أفكار وخواطر، وابتدره قائلاً :
- لا تأخذْك الظنون بعيداً ، فما أنا إلا وساطة خير، وقد انتخاني الخاطفون بعد أن شاع الخبر عن رغبتك بافتداء ولدك عزام بالمال الذي يريدون ، وذلك بكفالة أحد رجالات العرب ممن يختارون ، فاختاروني كفيلاً وضامناً لهم ، فهل تقبل وساطتي وكفالتي لك أيضاً ، أم أنَّ لك فيَّ رأياً آخر ؟ .
ابتسم العصفوري في وجه ضيفه ، وتذكر ما قد نُمِىَ إليه من نية اتصال أهل بيت جبرين بالشيخ حرب يستنصرونه ، وقال وهو يخفي امتعاضه :
- أنت دائماً كفء للأحمال الثقيلة يا شيخ حرب ، فنِعْمَ الكفيلُ أنتَ ، ونِعْمَ الضامن !.
- بارك الله فيك ! .
- وكم يطلبون من المال ؟.
- إنهم لا يقصدون الثراء ، ولا يرغبون في مال .
- إذن ، فيم جئتَ من عندهم ؟.
- أرى ، وأنت خير العقلاء ، وأفضل مَن صدر عنه رأي ومشورة أن تفتدي ابنك عزام بسبيَّتك سلمى ، فإن فعلتَ أكفلْ لك عودة ابنك إليك سالماً غانماً ، ولك عليَّ أن أجمعكم في ديواني للمصالحة وإنهاء حالة العداء بينكم ، واجتثاث شجرة البغضاء التي تجذَّرتْ في صدوركم ، " فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله " ، وهذا رأيي . فما رأيك أنت ؟.
- رأيك حكيم يا شيخ حرب ، وأظنك لا ترضى لي المهانة .
- ولهذا انطلقتُ إليك للتوسط بينكم ، وإنه ليهمني أمرك ويهمني سلطانك ولا أزيد عما قاله لك عزام في رسالته .
- وسأل العصفوري محدثه بشيء من الخبث :
- أَوَ قرأتَ الرسالة يا شيخ حرب ؟.
- كَلَّا ، ولكنَّ عزام أخبرني بما كتبه إليك .
انتفض العصفوري وقال متلهفاً :
- هل رأيته حقاً ؟.
- نعم رأيته ، وتحدثنا طويلاً .
- إذن ، اقصص عليَّ نبأه .
- ألحَّ عليَّ بالوساطة ، وطلب مني أن أنقل إليك رأيه ، وإنه بخير ويطمئنك على نفسه .
- ماذا كان رأيه ؟.
- أن تخسر شيئاً في جولة خير لك من أن تفقد كل شيء ، وإنه يدعوك أن تطلق سراح سبيَّتك ليعود هو إليك ، وتحفظ عليك كرامة الأحياء . فبِمَ تَرُد ؟.
رفع العصفوري يده وأخذ يُصْلح شاربيه بشيء من الانفعال ، وبدا عليه التردد ، ولكنَّ الشيخ حرب قد حاصره وسدَّ عليه كل المنافذ حين قال :
- لا تقلق يا شيخ فرحان ، وأنا أضمن لك الإيفاء بوعدهم إن أنتَ بادرتَ بترجمة
النوايا الحسنة إلى أفعال حسنة ، وهذا يكفيك ويكفي قومك القتال الذي يجلب
الموت والدمار وانتهاك حرمة الديار ، فاحفظ عليك نفسك وأهل بيتك ، ولا تنسَ أنَّ صَوْن الحرائر مرهون بالكَفِّ عن الجرائر .
أمالَ العصفوري رأسه إلى وراء ، وقال :
- أنا لن أُخَيِّبَ لك رجاء ، فأَنْظِرْني إلى أن أصل إلى رأي قاطع ، وهذا يحتاج مني إلى تفكير عميق قد يستغرق بضعة أيام ، ولكن قل لي يا شيخ حرب : هل الخاطفون من أهل بيت جبرين ؟ .
- إنهم أخلاط من الرجال لا أعرف مواطنهم ، وإنَّ وراءهم عدداً كبيراً وقوة أكبر .
هَبَّ الضيف معلناً عن انصرافه ، وهَبَّ معه رجاله ، وسار الشيخ حرب والشيخ العصفوري وابن عمه الشيخ عمَّار جنباً إلى جنب يتهامسون وأقدامهم تخطو نحو أفراسهم التي جاء بها الخَدَم ، وقد أُعِدَّتْ للسفر، ويتهيأ الأضياف للرحيل ، ويصافح العصفوري ضيفه الذي قال بعد أن استوى على ظهر فرسه :
- لا تطلب مساعدة الدَّرَك يا أبا نوَّاف ، لئلا تَضْعُفَ وساطتي ، ويُزَجُّ بي
إلى المساءلة القانونية .
- لستُ ضعيفاً فأستنصر الحكومة على خصومي ، أو أستعديها على أحد . رافقتكَ السلامة !.
وينطلق ركب الشيخ حرب مبتعداً شيئاً فشيئاً ، والعصفوري يُشَيِّعه بنظراته الثاقبة ،
وبعقله الذي يلوك كل كلمة دارت بينه وبين ضيفه ، ثم يعود وعلى وجهه وقامته وخطواته علائم الانهزام .
* * * * *
انعقد مجلس الشيخ العصفوري في ديوانه الذي ضم رجال العشيرة الذين تنادوا لشيخهم المهموم . كان الوقت ضحى ، والشمس حانية ، تسبح في فضاء فسيح لا يعترضها غيم أسود ولا سحب بيضاء ، وقد اخترقت أشعتها نوافذ البيوت توقظ مَن
كان نؤوم الضحى من فتيان أو فتيات . والعصفوري يتوسط رجاله كواسطة العِقد مهابة ومكانة ووجاهة ، وقد لوى خرطوم نرجيلته ، واعتدل مخاطباً الحضور:
- أيها القوم ! إنكم قد علمتم من أمر الشيخ حرب وما جاء به إلينا بالأمس ، فأشيروا عليَّ إن كنتم لي من الناصحين المخلِصين .
وما إن فُتح باب الحوار لإسداء الرأي والمشورة حتى تفرَّق القوم إلى فريقين ، كل منهما قد تشيَّع لرأيه ، يدافع عنه بما أوتي من قوة الحجة . فهؤلاء فريق الشباب الذين يودُّون لو أطلق شيخهم أيديهم ، وخَلَّى بينهم وبين خصومهم ، لصنعوا من أجسادهم سياجاً واقياً ، ومن أنفسهم جنوداً يدفعون عن عشيرتهم كل خطر عظيم ، وينافحون عنها كل معتد أثيم ، ويذودون حياضها من كل شر جسيم ، فهم لا يأبهون لما تؤول إليه الأمور من نتائج قد تجلب إليهم ما يكرهون ، ولا يبالون بما قد تسوقهم الأحداث إلى نهايات مما لا يحبون، ولا يحفلون بما تأتي به الأيام فتُوقِع فيهم الفواجع والأحزان .
وأولئك الشيوخ الذين صقلتهم الأيام والسنون ، وخبروا الحياة حلوها ومرها، يجنحون إلى العافية ، ويميلون كل الميل إلى المسالمة ، ويذعنون إلى صوت العقل والرأي السديد الذي يصدر عن حكيم مُجرِّب ، ومَن أصدق قولاً من الله في كتابه العزيز " ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ". صدق الله العظيم .
وإنهم ليؤثرون السِّلْم والسلامة على المشاحنات والثارات التي تزج بهم وبأولادهم إلى أتون المعارك والمهالك ، إنهم ما زالوا يتذكرون الأمس الذي روَّعهم فيه الغرباء ، وأنَّ صور الترويع ما زالت شاخصة أمام عيونهم ، تلك التي عانوا منها مع آبائهم ، وهي التي دفعتهم إلى شد الرحال من مكان إلى مكان حتى وصلوا إلى هذه الديار التي فتحتْ لهم ذراعيها تحتضنهم بالحب والأمن والاطمئنان ، فاستقروا فيها وطاب لهم المقام . وكان أهل هذه القرى أوفياء كرماء ، إلا أنَّ الطمع قد استشرى في النفوس ،
فكشَّرتِ الذئاب عن أنيابها تريد أن تلتهم كل شيء ، فخطفتْ رغيف الخبز ، وروَّعتهم في أنفسهم وفي أموالهم . لهذا كله ناشد كبار العشيرة شيخهم العصفوري أن يحارب الشيطان في نفسه وفي نفوس رجاله ، وذكَّروه بقول الله سبحانه " إنما يريد الشيطان أنْ يُوقِع بينكم العداوة والبغضاء " ، وطالبوه بإفشال خطة الشيطان واجتناب مكائده .
وها هو الشيخ العصفوري يتحدث إلى قومه ، والقوم آذان مصغية وعقول متفتحة ، فهم مقبلون على حسم الأمر باتخاذ قرار له ما بعده من نتائج . ويأخذ شيخهم في بسط رأيه مفتعلاً بعض المواقف التي تُظهِر تصلبه والتمسك برأيه ؛ بعدم الإذعان إلى الخاطفين حتى لا تهتز هيبته أمام قومه ، وهو تارة ينعطف بهم إلى التلميح بالمخاطر التي تكمن في عدم تحديد هوية خصومهم إن كانوا من بيت جبرين أو أخلاطاً من القرى الأخرى ، ثم يُنوِّه بما قد يكون منهم إن هو لم يسايرهم في مطلبهم ، ثم يُعَرِّج على ما جاء به الشيخ حرب من رأي ، وما طرحه من وساطة بين الطرفين وبكفالته .
ولقد نجح الشيخ العصفوري في إقناع سامعيه بطريق التلميح ، واستيقن من وصوله إلى استنطاق قومه بما هو عليه من رأي دون التصريح بتهديد الخاطفين له بسبي إحدى حرائره ، فيسألهم وهو يعلم أنَّ عقولهم قد لانت وطاعت ، وأنَّ نفوسهم قد استراضت ، فأذعنوا كما أذعن هو لصوت الحق والواجب :
- فبم تشيرون عليَّ ؟.
وعلت الهمهمات فيما بينهم ، وطال تشاورهم وقال قائل منهم :
- لطالما نستشيرك فتشير علينا ، والآن نحن نستفتيك فأفتنا أنتَ بسديد رأيك .
- إلا هذه المرة يا عمَّار فأريد أن أسمع منكم .
- ماذا يفيدنا احتجاز سبيَّتك ؟. إنه يوغر صدور أهل القرى المجاورة ، ويزيد من الشحناء والبغضاء ، ويؤجِّج نار الغضب في نفوسهم ، فلا نستهن بهم ولا بقوتهم ، وبخاصة إذا تعلق الأمر بالشرف والكرامة .
وتتعالى أصوات هنا وهناك تؤيد عمَّار وتستحسن رأيه ، ويستنطقهم الشيخ
العصفوري متسائلاً :
- ماذا تظنون أني فاعل بها ؟.
فينطقون بما تهواه نفسه ، إذ تعلو الأصوات ومن بينها صوت عمَّار:
- أطلق سراحها بكفالة الشيخ حرب ليعود عزام سالماً . والصلح خير.
فتنهد العصفوري متمتماً : " طُوبَى لكَ أيها الديك ، فالذي سرقك مني استلَّ مني عِزِّي وقوَّض سلطاني " .
[email protected]
دنيا الوطن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.