شيخ بارز في قبضة الأمن بعد صراعات الأراضي في عدن!    آخر مكالمة فيديو بين الشيخين صادق الأحمر وعبد المجيد الزنداني .. شاهد ماذا قال الأول للأخير؟    الوية العمالقة تصدر تحذيرا هاما    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    الأمل يلوح في الأفق: روسيا تؤكد استمرار جهودها لدفع عملية السلام في اليمن    صراعٌ جديدٌ يُهدد عدن: "الانتقالي" يُهاجم حكومة بن مبارك ويُطالب ب "محاسبة المتورطين" في "الفشل الذريع"    "صيف ساخن بلا كهرباء: حريق في محول كريتر يُغرق المنطقة في الظلام!"    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    دوري ابطال آسيا: العين الاماراتي الى نهائي البطولة    الشعيبي: حضرموت تستعد للاحتفال بالذكرى الثامنة لتحرير ساحلها من الإرهاب    تشييع مهيب للشيخ الزنداني شارك فيه الرئيس أردوغان وقيادات في الإصلاح    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    كلية القيادة والأركان بالعاصمة عدن تمنح العقيد أديب العلوي درجة الماجستير في العلوم العسكرية    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    بن دغر يوجه رسالة لقادة حزب الإصلاح بعد وفاة الشيخ عبدالمجيد الزنداني    إعلان موعد نهائي كأس إنجلترا بين مانشستر يونايتد وسيتي    مفسر أحلام يتوقع نتيجة مباراة الهلال السعودي والعين الإماراتي ويوجه نصيحة لمرضى القلب والسكر    مركز الملك سلمان يدشن توزيع المساعدات الإيوائية للمتضررين من السيول في الجوف    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    رئيس مجلس القيادة يجدد الالتزام بخيار السلام وفقا للمرجعيات وخصوصا القرار 2216    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    إنزاجي يتفوق على مورينيو.. وينهي لعنة "سيد البطولات القصيرة"    "ريال مدريد سرق الفوز من برشلونة".. بيكيه يهاجم حكام الكلاسيكو    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    لابورتا بعد بيان ناري: في هذه الحالة سنطلب إعادة الكلاسيكو    انقطاع الشريان الوحيد المؤدي إلى مدينة تعز بسبب السيول وتضرر عدد من السيارات (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مكان وموعد تشييع جثمان الشيخ عبدالمجيد الزنداني    قيادي حوثي يقتحم قاعة الأختبارات بإحدى الكليات بجامعة ذمار ويطرد الطلاب    التضامن يقترب من حسم بطاقة الصعود الثانية بفوز كبير على سمعون    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    ميلشيا الحوثي تشن حملة اعتقالات غير معلنة بصنعاء ومصادر تكشف السبب الصادم!    برئاسة القاضية سوسن الحوثي .. محاكمة صورية بصنعاء لقضية المبيدات السامة المتورط فيها اكثر من 25 متهم    دعاء مستجاب لكل شيء    - عاجل محكمة الاموال العامة برئاسة القاضية سوسن الحوثي تحاكم دغسان وعدد من التجار اليوم الثلاثاء بعد نشر الاوراق الاسبوع الماضي لاستدعاء المحكمة لهم عام2014ا وتجميدها    ديزل النجاة يُعيد عدن إلى الحياة    الزنداني كقائد جمهوري وفارس جماهيري    عودة الزحام لمنفذ الوديعة.. أزمة تتكرر مع كل موسم    رئيس مجلس النواب: الفقيد الزنداني شارك في العديد من المحطات السياسية منذ شبابه    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    ارتفاع الوفيات الناجمة عن السيول في حضرموت والمهرة    تراجع هجمات الحوثيين بالبحر الأحمر.. "كمل امكذب"!!    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الزنداني يكذب على العالم باكتشاف علاج للإيدز ويرفض نشر معلوماته    الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تفعل هذا الأمر    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    المواصفات والمقاييس تختتم برنامج التدريب على كفاءة الطاقة بالتعاون مع هيئة التقييس الخليجي    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عمارة يعقوبيان والسواد الطاغي في مصر بقلم:رائد الحواري
نشر في الجنوب ميديا يوم 05 - 02 - 2014


عمارة يعقوبيان والسواد الطاغي في مصر
من خلال هذه الرواية أعطانا علاء الأسواني حقيقة وحجم الفساد المستشري في المجتمع المصري، فهو يصوره لنا واقع أسوء ما يكون، إن كان على الصعيد الاجتماعي أم الاقتصادي، فهو واقع يدفع بكافة شخوص الرواية إلى الانزلاق في المحرمات الدينية أو الاجتماعية، بغاء، فاحشة، سرقة، رشوة، خداع، كذب، تطرف، وهذا الأمر جعل من حجم السواد في الرواية يصل إلى الذروة، حيث لا يجد القارئ أي خيط ابيض في أحداثها أو في شخوصها، كافة الشخصيات تعمل على زيادة حدة النيران المشتعلة في المجتمع المصري، من البواب وحتى رئيس الحزب أو اللواء أو مدير المخابرات، والأم والأخت وحتى الشيخ العالم، كلها شخصيات غارقة في السلبية، فلم نجد أي شخصية في الرواية تحمل الخير أو تقف في الوسط المنطقة الرمادية كل ما في الرواية يمثل سواد دامس، فالكاتب لم يعطنا أي هامش ولو بسيط من البياض أو الفضاء، حتى عندما حاول أن يقدم مشهد زواج بثينة وزكي الدسوقي، كان في الحقيقة يقدم صورة مشوهة عن هذا الزواج، ففارق السن بينهما يزيد عن أربعين سنة، مما يجعل هذا الزواج غير طبيعي، واقرب إلى الزواج العرفي، خاصة أنه جاء بعد حادثة دخول رجال الأمن عليهما وهما في المكتب في وضعية العاشقين.
سنحاول أن تقف على ما جاء في رواية علاء الأسواني "عمارة يعقوبيان" فهي تمثل في موضوعها حالة فريدة على صعيد الرواية المصرية والعربية، وذلك يعود لحجم السواد القاتم ونوعيته، والذي يغطي أحداث وشخصيات الرواية.
المكان
تدور أحداث الرواية في مكان جميل عمرانيا، بنيه على طريقة الأبنية الأوروبية في بداية القرن العشرين، حيث كانت السمية الجمالية تأخذ أهمية متوازية مع الأهمية المنفعية للبناء، هذا البناء الراقي شكلا، يعيش فيه نماذج متفاوتة طبقيا واجتماعيا وسياسيا، لكنها بمجملها تشترك في تشويه هذا المكان الجميل، فتحوله إلى مستنقع مترع بالرائحة القذرة من خلال أفعالها الشاذة والقبيحة.
تم التعدي على جمالية وغاية البناء من مجموعة من السكان الفقراء الذين استولوا على سطح البناية، حيث جعلوا منه مكان للسكن، بعد أن كان مجرد مستودع ليس أكثر لسكان العمارة، "... وانتهى الأمر بنشأة مجتمع جديد فوق السطح، مستقل تماما عن بقية العمارة، استأجر بعض القادمين غرفتين متجاورتين وصنعوا منها سكنا صغيرا بمنافعه (دورة مياه وحمام) بينما تعاون البعض الآخر (الأكثر فقرا) ليصنعوا حماما مشتركا لكل ثلاث أو أربع غرف وصار مجتمع السطح لا يختلف عن أي مجتمع شعبي آخر في مصر، فالأطفال يركضون في أنحاء السطح حفاة وأشباه عراة والنسوة يقضين النهار في إعداد الطبخ ويعقدن جلسات النميمة في الشمس ويتشاجرن كثيرا ويتبادلن أثناء المشاجرات أشنع الشتائم والاتهامات الماسة بالشرف" ص24، الكاتب أراد أن يقول أن عدم قيام الدولة المصرية بتأمين أماكن سكن للمصريين ساهم في تشويه لاماكن الجميلة والراقية. وهنا كأن الكاتب ينحاز إلى سكان الشقق في العمارة، ويقف ضد الفقراء الذين دفعت بهم الظروف خاصة بعد ثورة 1952 إلى العيش في تلك الأماكن الضيقة والمكتظة، فهو عمليا ضد ما قام به عبد الناصر، لان نتائج ثورته كان هذا التشويه.
من خلال هذا السطح ينطلق العديد من شخصيات الرواية إلى فعل كل ما هو محرم وقبيح، طبعا هناك شخصيات أخرى من داخل الشقق تعمل بالمحرمات، كان إقدام سكان السطح على الفعل أكثر وبدوافع الحصول على مستلزمات العيش، أما سكان الشقق فكانت أعمالهم القبيحة، ناتجة عن الترف أو العادة ليس أكثر، من هنا كان الفقراء يقدمون على الفعل القبيح نتيجة الظروف القاسية، أما سكان الشقق فنتيجة التسلية أو العادة.
الفساد
يعد فساد الدولة المولد والباعث لكافة المساوئ والانحرافات سلوك أو تفكير في المجتمع، فهو المحفز والمهيج لكل ما هو قبيح وشاذ في المجتمع، فقد قدم لنا علاء الأسواني عدة مستويات وشرائح لهذا الفساد، " بص يا طه.. أنا صحيح أصغر منك بسنة لكن اشتغلت والشغل علماني. البلد دى مش بلدنا يا طه. دى بلد اللي معه فلوس. لو كان معك عشرين ألف جنيه ودفعتهم رشوة حد كان سألك عن شغلة أبوك..؟" ص84 و85، هذا ابسط مستوى للفساد، دفع رشوة، للحصول على الحق، وليس لأخذ حق الآخرين، عدم قبول طه في كلية الشرطة، رغم تفوقه في الثانوية العامة وأيضا إثبات شخصيه القوية والواثقة أثناء المقابلة مع اللواء. كل ذلك لم يشفع له في القبول.
من الممكن أن يقال : هذا (لا عد جريمة)، فهو أمر طبيعي ومتداول في العديد من المؤسسات وعند الأفراد، لكن أحداث الرواية تجعل من رفض قبول طه جريمة تتفاعل وتتطور باضطراد، حيث يدفع هذا الرفض إلى تكوين شخصية كافرة بالدولة وبالمجتمع، ومن ثم سيقوم طه بردة فعل والبحث عن مخرج لما حصل له، وسيكون الرد عنيفا ومتطرفا.
الشخصية الانتهازية والوصولية والمتنفذ (كمال الفولي)، يقدمها لنا علاء الأسواني دليل على استحالة التغير الايجابي في الدولة والمجتمع المصري، "أنضم كمال الفولي إلى كافة تنظيمات السلطة بالترتيب :هيئة التحرير والاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي وبعد ذلك منبر الوسط وحزب مصر وأخيرا الحزب القومي، وخلال كل هذه التحولات كان دائما اشد المتحمسين لمبادئ حزب الحكومة وأعلاهم صوتا، في العهد الناصري ألقى محاضرات وكتب مؤلفات في حتمية التحول الاشتراكي وضرورته التاريخية ولما انقلبت الدولة إلى الرأسمالية صار من اشد أنصار الخصخصة والاقتصاد الحر وشن تحت قبة البرلمان حملة ضارية شهيرة ضد القطاع العام وأفكار الشمولية عموما، ولعله احد السياسيين المصريين القلائل الذين استطاعوا الاحتفاظ بمقعد في البرلمان لأكثر من ثلاثين عاما متصلة، صحيح أن الانتخابات في مصر يجري دائما تزويرها لمصلحة الحزب الحاكم لكن الصحيح أيضا أن الفولي يتمتع بموهبة سياسية حقيقية كانت ستمكنه حتما في مجتمع ديمقراطي من تولي أرفع مناصب الدولة لكن الموهبة الأصلية نفسها، كما يحدث لمواهب كثيرة في مصر، انحرفت وتشوهت واختلطت بالكذب والنفاق والدسائس حتى صار اسم كمال الفولي يستدعي إلى الذهن المصريين معنى الفساد والنفاق وقد ترقى في المناصب الحزبية حتى تولى أمانة التنظيم في الحزب القومي وصار المتحكم الأول في الانتخابات في مصر كلها، فهو يرشح ويستبعد من يشاء من مرشحي الحزب ويشرف بنفسه على تزوير الانتخابات من الإسكندرية إلى أسوان ويتقاضى رشاوى كبيرة من المرشحين ليضمن تزوير الانتخابات لصالحهم وفي نفس الوقت يغطي فساده بالأعيب كبيرة" ص114 و115 هذا المستوى من الفساد يشكل أعلى المستويات، فلا مجال لاختراقه أو لتجاوزه أو الوقوف بالحياد اتجاهه، فهو واقع، لا بد من التعاطي معه، شئنا أم أبينا، فهو يعد المصرف لكافة النواحي التي تقوم بها الدولة، فكل من يقترب من مؤسساتها، لا بد له من التعامل مع نهج كمال الفولي ويتعاطى معه، فهو كالسرطان ينتشر في مجمل أجزاء الجسم مؤسسات أو أفراد.
الحالة التي يقدمها الكاتب كمال الفولي تجعلنا نصاب باليأس والقنوط من أي عملية تغير في الاتجاه الايجابي، هذا الواقع يجعلنا كقراء نتعاطف وننحاز إلى شخصية الشاب طه، ونبرر له عملية الإقدام على فعل التطرف والتكفير الذي دفع إليه دفعا، من الدولة أولا ثم من خلال التقديم الهادئ الذي قام به الشيخ شاكر ليشدد عليه حالة اليأس والحصار التي يعاني منها، فهو هنا كان ضحية الفساد المتفشي في الدولة، ثم استغلال هذه الحالة من قبل جماعة متطرفة تدفع بالضحية إلى أتون الجحيم.
يعطينا الكاتب طريقة الاستغلال الفاسد للسلطة من قبل الفولي الذي لم يعد يتدخل في شؤون السياسة وحسب بل أصبح يستغل وضعه ليحصل على أموال بطريقة التهديد " أقول من الآخر؟! .. التوكيل دا يا حاج أرباحه تتعدى ال300 مليون كل ستة.. طبعا ربنا يعلم أني أتمنى لك الخير .. بس اللقمة كده كبيرة عليك
يعني ايه؟!
يعني ما ينفعش تاكلها لوحدك يا حاج.. إحنا عاوزين الربع
ربع ايه؟!
ربع الأرباح" ص207، هنا يتوغل الفولي أكثر في نخر المجتمع المصري، فهو يتعامل مع مجتمع بدوي يتحكم فيه رئيس القبيلة، وليس في دولة لها قوانينها وسلوكها الحضاري، الفولي يعيد المجتمع المصري إلى ما قبل تشكيل أول دولة مصرية، أي قبل الفراعنة، يستغل هو ومن هم على شاكلته مناصبهم ومواقعهم في السلطة لغايات شخصية، ويتجبرون ويستغلون المواطنين.
هذا الواقع يمثل ذروة فساد الدولة والقائمين عليها، فهي ليست دولة وإنما عصابة من اللصوص تعمل للاستحواذ على أموال الآخرين.
شخصية أخرى يقدمها لنا علاء الأسواني (ملاك) التي تتعاطى مع الفساد كسلوك يومي، وتعمل بكافة السبل والأشكال لتحقيق المآرب الشخصية، فهي تمثل فولي مصغر "لأنه باختصار يعمل في كل ما يدر مالا: بدءا من تجارة العملة والخمور المهربة حتى سمسرة العقارات والأراضي والشقق المفروشة إلى تزويج الشيوخ العرب بفلاحات صغيرات يجلبن عن طريق وسطاء من قرى معينة في الجيزة والفيوم.. إلى تسفير العمال إلى الخليج مقابل شهرين من الراتب" ص146، كافة أعمال ملاك تخرب وتهدم القيم والمفاهيم الأخلاقية للمجتمع، فهو يمثل احد المستنقعات التي شكلها المجتمع الفاسد، فالمال هو الغاية، والوسيلة إليه مباحة، أيا كانت، ما دامت تجلب المال هي مسموح بها، فكأن كلام بثينة لطه عن المال، يعمل به ملاك على أكمل وجه.
استكمالا لتفشي الفساد لا بد للدولة من استخدام عناصر جاهلة متخلفة، لا تستطيع التميز بين الصحيح والخطأ لكي يستمر الوضع القائم على حاله، فعناصر السلطة التنفيذية يشكلون أداة ميكانيكية صماء، لا تعرف المشاعر الإنسانية البتة، "...لو كان في عدل في البلد كان لازم واحد زيك يتعلم على حساب الدولة.. التعليم والعلاج والعمل حقوق طبيعية لأي مواطن في العالم كله لكن النظام في مصر متعمد يترك الفقراء أمثالك جهلة عشان يعرف يسرقهم.. لاحظ أن الحكومة تختار عساكر الأمن المركزي من أفقر المجندين وأجهلهم" ص259، هذا الكلام رغم انه جاء على لسان حاتم الشاذ جنسيا، إلا انه يمثل حقيقة أداة التنفيذ في الدولة المصرية، فهنا الجهل والفقر يشكلان التربة الخصبة لبقاء النظام مستمرا في الحياة، فبدون الجهل والفقر، يفقد النظام أهم الموارد التي تغذيه، ومثل هذه العناصر لن يعذبها ضميرها مهما فعلت، فهي مجرد آلة ليس أكثر، وسيكون استخدامها من قبل الفاسدين بطريقة بشعة جدا، " أنا الآن ميت .. قتلوني في المعتقل .. عندما يعتدون على عرضك وهم يضحكون .. عندما يطلقون عليك اسم امرأة ويجبرونك على أن تجيب باسمك الجديد فتضطر إلى الإجابة من قسوة التعذيب" ص268، بهذا العمل تكون الدولة قد أحكمت الطوق على الآخرين وعلى نفسها، فالمجتمع والدولة يشكلان حالة من الانسجام والتوحد والتماهي، ولا مجال للفصل أو تحيد احدهما عن الآخر، يتغذيان وينموان معا، فيكون الهدم والخراب في المجتمع كالبكتيريا تتكاثر بالانقسام الذاتي، ولا حاجة لأي عامل خارجي مساعد على التكاثر.
صورة الأم
من خلال هذه المشاهد تكون دائرة الفساد مكتملة وفاعلة وناضجة، وتستطيع أن تتكاثر بكافة الطريقة والوسائل، وبأشكال عديدة ومتنوعة، وليست بحاجة إلى أي عناصر أو عوامل مساعدة، ولن يتوقف الفساد عند هذه الحالات العامة وحسب، بل سيطال الآخرين، الذين من المفترض أن يكونوا سندا لنا ويحموننا من الشرور والأخطار.
علاء الأسواني يتوغل أكثر في غياهب السواد الذي يقدمه في روايته، فيعطينا صورة الأم التي من المفترض أن تكون الأكثر رحمة وحنانا على أولادها، يقدمها بطريقة بشعة، تجعل القارئ يشمئز ويمتعض من هذه الصور "كما تأكد لها خلال هذا العام أن أمها تغيرت تماما فعندما تركت بثينة العمل بسبب تحرشات الرجال استقبلت الأم الخبر بصمت اقرب إلى الامتعاض وعندما تكرر الأمر قالت لبثينة مرة وهي تنهض لتغادر الحجرة :"إخوتك في حاجة إلى كل قرش من عملك والبنت الشاطرة تحافظ على نفسها وشغلها" وأصابت هذه الجملة بثينة بالحزن والحيرة وتساءلت في نفسها "كيف أحافظ على نفسي أمام صاحب شغل يفتح سرواله؟!" ص62، دفع الأم ابنتها إلى منطقة خطرة ومحظورة فقط للحصول على المال، يعد امرأ غريبا وشاذا، فليست الأم من تقدم على هكذا أمر، واتجاه ابنتها، فهذا الأمر يمكن أن يصدر عن زوجة الأب الفاسدة، أما عن أم، فيعد امرأ شبه مستحيل، لكن هذا ما حدث، وهنا تكون البت قد قدمت كقربان لإله وثني أسمة المال.
يتقدم عنصر مساعد بعيد عن المساس المباشر بمكانة الأم، لكنه حقيقة جاء ليكمل عملية دفع البنت إلى فعل الرذيلة يتحدث بوضوح عن حيثيات وما يجب أن تقوم به البنت "أكدت لها فيفي أن مسايرة صاحب العمل في حدود تعتبر شطارة وان الدنيا شيء وما تراه في الأفلام المصرية شيء آخر وأكدت أنها تعرف بنات كثيرات عملن سنوات في محل شنن وكن يستجبن لما يطلبه الأستاذ طلال صاحب المحل "في حدود" وقد صرن الآن زوجات سعيدات عندهن أولاد وبيوت وأزواج محترمون يحبونهن جدا... ولماذا نذهب بعيدا؟ هكذا سألت فيفي وضربت مثلا بنفسها فهي تعمل في المحل من عامين ومرتبها مائة جنيه لكنها تكسب ثلاثة أضعاف هذا المبلغ من شطارتها بخلاف الهدايا ومع ذلك لا زالت محافظة على نفسها وبنت بنوت والذي يتكلم عن سمعتها تضع إصبعها في عينه" ص63، التكامل بين دور الأم وجارتها يعطي مدلول على عدم احترام خصوصية البنت، فهي في حقيقة الأمر لم تعد بنت لامها لكن بنت أخرى، ليس بينهما أي علاقة روحية، كل ما يجمع الأم ببنتها مسألة جلب المال، وبأي طريقة وبأي وسيلة، من هنا ستكون هذه (الأم) ليست أكثر من رائحة كريهة أو صورة بشعة تجعل كل من يقترب منها يصاب بالاشمئزاز والقرف "صارت تكسب وترتدي ثيابا جميلة ورضيت أمها واطمأنت للنقود التي تأخذها منها وتدسها في صدرها ثم تدعو لها بحرارة، وأمام الدعاء تستبد ببثينة رغبة خبيثة غامضة تجعلها تلمح للام بوضوح عن علاقتها بطلال وتتجاهل الأم الرسالة فتمعن بثينة في التلميح حتى يصير تجاهل الأمر مكشوفا وهشا للغاية عندئذ تحس بثينة براحة وكأنها تنزع عن أمها قناع البراءة المزيف وتؤكد اشتراكها معها في الجريمة" ص67، أول تكسير لصورة الأم كان من خلال العلاقة بين بثينة وأمها، فهنا كانت الأم هي الدافع المباشر لإقدام ابنتها على فعل البغاء حتى لو كان غير كامل فهو يبقى بغاء ما دامت البنت تحصل على النقود مقابل بيع جسدها وجعل الآخرين يستمتعون بهذا الجسد مقابل المال.
يعطينا علاء الأسواني صورة أخرى للام وكيف أنها تبيع جسدها بحجة تأمين المال اللازم لولدها لكنها في حقيقة الأمر تقدم نفسها لرجل مقابل المال، رغم أنها قدمت جسدها بصورة شرعية الزواج فلا ينتقدها المجتمع ولا القانون أو الشرع "عاشت سنوات صعبة حتى كادت تكفر وضعفت أكثر من مرة وكادت تسقط في الحرام من فرط اليأس والاحتياج، ولما طلبها الحاج عزام على سنة الله ورسوله حسبتها بدقة، سوف تعطي الحاج جسدها مقابل مصاريف ابنها، المهر الذي دفعه عزام لم يمس، أودعته باسم تامر في البنك ليتضاعف ثلاثة مرات بعد عشرة أعوام، انقضى زمن العواطف والعملية الآن محسوبة، شيء مقابل شيء بالاتفاق والتراضي، تنام مع هذا العجوز ساعتين كل يوم وتترك ابنها في الإسكندرية وتقبض الثمن، صحيح أنها تتمزق شوقا لتامر وفي الليل كثيرا ما تتحسس موقعه بجوارها على الفراش وتبكي بحرقة" ص178، هذه الأم تركت ولدها في مدينة الإسكندرية وجاءت إلى القاهرة فقط لكي تنام مع عجوز مقابل المال، هنا كان الأم هي من أقدم على فعل الجنس وليس غيرها، وأيضا هنا كان الفعل مباح ويمكن أن يكون محمودا من المجتمع أو الشرع، لكن الأمر غير ذلك، وستكشف لنا سعاد ذلك عندما تحمل من الحاج عزام، فينكشف زيف هذا الزواج ووهنه، فهو ليس سوى شكل جديد للبغاء المشرعن من المجتمع، "لن تكون المرأة الفقيرة التي اشتراها المليونير عزام ليستمتع بها ساعتين بعد الظهر بل زوجة حقيقة... وفي النهاية قبلت أن تمنح جسدها لعجوز في سن أبيها، أن تتحمل ثقله وكآبته ووجهه المليء بالتجاعيد وشعره المصبوغ ورجولته الذابلة، أن تتظاهر بأنها ارتوت وجسدها يؤلمها من الرغبة، أن يأتيها وينصرف من عندها خلسة وكأنها عشيقته ... انتابها إحساس غريب وجديد بان جسدها الذي طالما استعمله عزام ولوثه وأذله قد تحرر فجأة وصار ملكها وحدها" ص248 و249 إذن البغاء واحد لكن له أشكال ومظاهر عديدة، منها ما هو مقبول اجتماعيا ودينيا، ومنها ما هو مذموم، لكنه يبقى بغاء.
هناك صور عديدة للمرأة التي قدمها الكاتب في الرواية، مثلها على أنها فقط جسد يباع ويشترى ليس أكثر، فكافة شخصيات الرواية أما باعت جسدها واشترت به حاجتها، وإما أنها اشترت هذا الجسد للمتعة واللذة ودفعت مقابله المال حتى لو كان كثرا، لكن تقديم الأم كبائعة أو مسوقة للجسد إن كان جسدها أم جسد ابنتها يعد خروج عن المألوف واستفزاز للقارئ الذي لم يألف هكذا طرح، وهنا يكون علاء الأسواني قد تجاوز كافة المحرمات في طرح موضوع بغاء الأم.
هناك صورة أخرى طرحها الكاتب في الرواية، تسهم في تشويه مكانة الأم عند المتلقي، ولا ندري السبب الحقيقي وراء إصرار الكاتب على إعطاء أكثر من صورة قاتمة للام، فهو كان متطرفا أكثر في موقفه منها، حيث انه جعلها حقيقة تمارس خيانة الأب، ومن ثم كان انغماسها في البحث عن اللذة والتماهي مع العشيق، جعل من ابنها شاذا جنسيا، فها هو حاتم يقول عن أمه ما لا يحتمل "أما أمه جانيت فسوف يواجهها هي الأخرى بحقيقتها:" لقد كنت مجرد ساقية في بار صغير في الحي اللاتيني، كنت فقيرة وغير متعلمة وكان زواجك من أبي نقلة اجتماعية كبيرة لم تكوني تحلمين بها لكنك ظللت بعد ذلك لمدة ثلاثين عاما تحتقرين أبي وتبتزينه لأنه مصري وأنت فرنسية، لعبت دور الأوروبية المتحضرة وسط الهمج وظللت تتأففين من مصر والمصريين وتعاملين الجميع بجفاء وتعال .. وقد كان إهمالك لي جزءا من كراهيتك لمصر، وأضنك قد خنت أبي أكثر من مرة، بل أنا واثق من ذلك، على الأقل مع المسيو بينار سكرتير السفارة الذي كنت تتحدثين إليه في التلفون بالساعات تستلقين على الفراش وتحتضنين السماعة وتهمسين ويربد وجهك بالشهوة وترسلينني بعيدا العب مع الخدم.. أنت في الواقع ساقطة يكفي المرء أن يفتح كفه في بارات باريس ليلتقط عشرة من أمثالك" ص257، الكاتب هنا جعل من المشهد السابق ذروة نظرته السلبية للام، فهو يتحدث عنها وكأنها ليست أم، فرغم أن المتحدث هو حاتم الشاذ جنسيا، إلا أن إقدامه على فعل الفاحشة ناتج عن إهمالها له، ولو أنها تفرغت قليلا لابنها وما تركته "يعبث به الخدم"، لما أمسى شاذا، لكن فسقها وانغماسها في الشهوة مع بني جنسها، جعل منها بغي وأيضا حول ابنها الوديع إلى حيوان شهواني، فهي اقترفت ثلاثة جرائم، أولا كانت تمارس البغاء، وثانيا خانت زوجها، وثالثا سقط ابنها في الفاحشة.
الدين شكلا وليس جوهرا عند الأفراد العاديين
الدين هو رديف الأخلاق، وهما شيء واحد، فالدين يدعو إلى الأخلاق، ولا يهمنا أين يذهب الشخص إلى المسجد أو الكنيسة بقدر اهتمامنا بصدقه وأمانته، لكن شخوص الرواية كانت تتعاطى مع الدين في الشكل، وتتجاهل المضمون، من هنا كانوا يستخدمونه بطريقة تسهم في تشويه طبيعته الأخلاقية، وتجعل المتعاطي مع الدين لا يقلون بشاعة عن الآخرين، الذين يعملون المحرمات، كل هذا، جعل الدين ينظر إليه بطريقة سلبية، حيث انه كان يعطي الشخصيات السلبية عناصر القوة من خلال التبرير والتحليل الشرعي لما يقدمون عليه، وأيضا يمنحهم راحة الضمير، فما دام الكلام المجرد في الدين يعطي الشخصيات صفة المهتم والحريص شكلا على الدين، كان الدين مساهم بطريقة أو بأخرى في الفساد، فهو لم يعد فكرة يعتنقها الإنسان وحسب، يل عنصر فاعل ومؤثر في الواقع.
قدم لنا علاء الأسواني عدة مشاهد للتعاطي الخاطئ مع الدين، أولا من الإنسان العادي، الذي لا يأخذ من الدين إلا حاجته المتواضعة منه، فها هو الحاج عزام يتعاطى الحشيش بكل راحة ضمير ودون تأنيب، فقد وجد المبرر العقلي والشرعي لهذا الحشيش "فهو لم يشرب الخمر قط (أما الحشيش الذي يدخنه فقد أكد فقهاء كثيرون أنه مكروه فقط وليس نجسا أو محرما كما أنه لا يذهب بالعقل ولا يدفع الإنسان إلى ارتكاب فاحشة أو جريمة كما تفعل الخمور، بل على العكس فان الحشيش يجعل المرء أهدأ أعصابا وأكثر اتزانا وأحد ذهنا" ص73، صورة مشوهة للذين يدعون التدين، يقدمون على فعل الحرم ويدعون انه ليس حرام بل (مكروه) فأهوائهم تجعل الأسود ابيض، والحرام حلال، تدخين الحشيش من قبل رجل مسن وحاج يمثل جرائم مركبة ومتعددة، أولا: العمر له احترامه ولكن تم زجه في عمل رديء، ثانيا: المكانة التي من المفترض أن تكون للحاج ارفع من أن تقدم على الحشيش، ثالثا: التحليل الساذج لتأثير الحشيش على الإنسان يعد تفكير ساذج بحق من يقدم عليه، رابعا: إقحام الدين في هكذا أمر، يعد جريمة بحق الدين والمتدينين.
هناك تعامل آخر مع الدين من قبل حاتم الشاذ جنسيا، فهو يفتي بالدين وكأنه عالم فقيه فيه، وعبدو الذي أقدم على فعل الفاحشة في حاتم مقابل المال، يجعل المشهد اقرب إلى حالة العبث والجنون، فهما يقترفان أبشع الأعمال الإنسانية ويدعيان أنهما بريئان تماما من أي فعل خارج العرف أو الدين " مالك ..؟!
خايف يا حاتم بك..
خايف من ايه ..؟!
من ربنا سبحانه وتعالى ..؟!
بتقول ايه
ربنا سبحانه وتعالى ... أنا خايف يعاقبنا على اللي بنعمله..
ايه الكلام ده يا عبدو؟؟
يا بك أنا طول عمري أعرف ربنا وكانوا في بلدنا يقولوا على الشيخ عبد ربه .. دائما أصلي الفرض بفرضه في الجامع وأصوم رمضان والسنن كلها..لغاية ما عرفتك وتغيرت
عاوز تصلي يا عبدو؟! .. صلي..
وكيف أصلي وأنا كل ليلة أشرب خمرة وأنام معك.. أنا حاسس إن ربنا غضبان مني وحيعاقبني
يعني هو ربنا يعاقبنا عشان بنحب بعض
ظل عبدو مستلقيا صامتا .. وأكمل حاتم تدخين السيجارة وصب لنفسه كأسا من الويسكي تجرعها دفعة واحدة ثم عاد وجلس بجوار عبدو وقال بهدوء:
اسمع يا حبيبي .. ربنا كبر وعنده رحمة حقيقية غير كلام المشايخ الجهلة في بلدكم.. فيه ناس كثير بتصلي وتصوم لكن بتسرق وتأذي دول ربنا يعاقبهم .. إنما إحنا أنا متأكد إن ربنا حيغفر لنا لأننا مش بنأذ أحد .. إحنا بس بنحب بعض .. يا عبدو وحياتك ما تقلبها نكد .. الليلة عيد ميلادك والمفروض نفرح" ص185 و186و187، مسخرة ما بعدها مسخرة، الإقدام على الفاحشة بكل إصرار ومن ثم إقناع الذات بان فعلها لا يعد جريمة إن كانت دينية أو اجتماعية، ثم إقحام أسم الله بعد الفعل، إننا أمام تشويه لكل ما هو ديني، فكأن الدين هنا كان مجرد ترف من الحوار والمسامرة ليس أكثر، يمنح المتحاورين دافعا فكريا للانغماس أكثر في مستنقع الرذيلة، فلا حاتم المتلذذ بما يفعل به، ولا عبدو الذي يقبض المال لقاء الفعل، أهل لمثل هذا الحوار، فكلاهما رغم اختلاف الدوافع يشكلان حالة شاذة غريبة عن المجتمع.
الكاتب لم يعطي الجوانب السلبية عند معتنقي الدين الإسلامي وحسب، بل تناول أيضا معتنقي الديانة المسيحية أيضا، فكأنه يريدنا أن لا نؤمن بأحد مهما كان دينه إذا لم يكن مستقيما وعفيفا في سلوكه، مدام سناء الأرملة تمارس الرذيلة مع زكي الدسوقي، وبعد أن تشبع غريزتها ويرتوي جسدها من فعل الحرام، تأخذ في البكاء لمعرفتها بأنها أقدمت على خطيئة دينية واجتماعية، لكنها في حقيقة الأمر تستمتع بتعذيب الذات وكأنها تعاني من حالة من المازوشية، فمع اللذة لا بد من وجود ألم، حتى لو لم يكن جسديا فهو روحاني، " ... كانت تستجيب لنزوات جسدها من وقت لآخر وقد تعرف إليها زكي الدسوقي في نادي السيارات ورافقها لفترة بقدر استمتاعها بالعلاقة ظل ضميرها الديني يؤرقها وكثيرا ما يجعلها تنخرط في بكاء مؤلم وهي مستلقية في أحضان زكي بعد انقضاء اللذة وراحت تهذي من إحساسها بالذنب بالإكثار من عمل الخير عن طريق الكنيسة ومن هنا .. ما أن مات "برعي" الفراش القديم لمكتب زكي حتى ألحت عليه في توظيف أبسخرون (الذي كان اسمه موضوعا على قائمة المساعدة في الكنيسة) ص37، الشخصيات التي قدمها علاء الأسواني في مجملها على شاكلة حاتم وعبدو وسناء وفيفي وزكي والحاج عزام وطلال وبثينة وأبسخرون وملاك وسعاد، كافة الشخصيات كانت في حقيقة الأمر تمارس الدعارة والبغاء والفاحشة، ومنها من كان يشرب الخمر ويدخن الحشيش وآخر يأخذ مقدار من الأفيون، ومنها من كان يكذب ويسرق، لن نجد في الرواية ضحية نتعاطف معها بشكل حقيقي سوى شخصية طه، الذي فعلا كان ضحية مركبة ومتشعبة، يتحمل مسؤوليته نظام الدولة الفاسد، والمجتمع الجاهل الفقير، وأيضا رجال الدين الذين جعلوا منه وقود لحربهم مع النظام والمجتمع، وما دون هذه الشخصية يبقى الكل دون استثناء مجرمين بحق أنفسهم أولا وبحق المجتمع ثانيا.
رجال الدين
بما أن النظام السياسي في الدولة فاسد، فلن يكون هناك في الواجهة الأمامية إلا الفاسدين، مهما كان دورهم في الدولة، فلا مكان فيها سوى لمثل هذا الصنف من الأفراد، فرجل الدين الذي من المفترض أن يكون الوقور المؤمن الصادق التقي، نجده لا يقل فسادا وانتهازية ووصولية عن كمال الفولي، فالشيخ السمان يعمل ليس على مستوى القطر وحسب بل على مستوى دولي، "كل يوم ينظم محاضرات وندوات ويكتب مقالات مطولة في الصحف ليشرح فيها الحكم الشرعي لحرب تحرير الكويت وقد استضافته الحكومة مرارا في التلفيزيون ودعته إلى إلقاء خطبة الجمعة في اكبر جوامع القاهرة، وراح الشيخ يقدم للناس كافة الأدلة الشرعية على صحة الموقف الذي اتخذه الحكام العرب باستدعاء القوات الأمريكية من اجل تحرير الكويت من الاحتلال العراقي ... سوف اشترك مع الأخوة العلماء هناك في إصدار بيان شرعي لإفحام مثيري الفتنة وبيان تفاهة حجتهم للناس سوف نذكر في البيان بإذن الله الأدلة الشرعية على جواز الاستعانة بالجيوش المسيحية الغربية لإنقاذ المسلمين من الكافر المجرم صدام حسين"" ص242 و246، استخدام المعرفة الشرعية والمكانة الدينية لتشويه وتلويث فكر الناس يعد جريمة، فما بالنا إذا أقدم على فعلها رجل دين! فهو لا يهتم إلا بالوجاهة والمال الذي يقبضه لقاء التوقيع على كلام موضوع من قبل الأنظمة الفاسدة، أو النطق بكلام موضوع من قبل مجموعة من الأنظمة تعمل لمصالحها الشخصية على حساب الدين والوطن معا.
العمل بالأجر والفتوى المأجورة المخالفة للشرع، لم تقتصر على المسائل الوطنية والقومية، بل انحطت لتصل إلى التدخل بأمور شخصية جدا، فما دام هناك مال موجود فلا ضرر من القيام بأي عمل للحصول عليه، الشيخ السمان يقوم مقابل الحصول على مقدار معين من المال على إقناع سعاد بالقيام بالإجهاض مع علمه اليقين بتحريمه شرعا وقانونا، ومع هذا لا يكفي بإصدار الفتوى وحسب، بل يحضر شخصيا إلى شقة سعاد ليقنعها بالإقدام على فعل جريمة قتل الجنين، "- يا بنتي أنت اتفقت معه من الأول على عدم الإنجاب والحاج عزام رجل كبير وظروفه لا تسمح بذلك ...
خليه .. يطلقني بما يرضي الله
ما هو لو طلقك وأنت حامل يبقى ملزم شرعا بالمولود..
يعمي أنت موافق أسقط نفسي..؟!
- أعوذ بالله .. الإجهاض حرام طبعا لكن بعض الآراء الفقهية الموثوق فيها تؤكد أن التخلص من الحمل خلال أول شهرين لا يعتبر إجهاضا لان الروح تنبعث في الجنين في بداية الشهر الثالث" ص245، النزول إلى مستوى وضيع لشيخ جليل يمثل سقوط كافة المثل والمبادئ في المجتمع، فلم يعد هناك ما هو خير، الكل، رجال النظام، رجال الدين، الأفراد، مؤسسات المجتمع، كلهم مساهمون بطريقة أو بأخرى في اتساع المساحة التي يشغلها الفساد والمفسدين، فهم لا يريدون أن يبقوا ولو خطا أبيض واحد، فالسواد يطغى ويغطي كافة الأماكن، تتسربل به كافة الشخصيات، رجال ونساء، أغنياء وفقراء، فمن أين يأتي الخلاص إذن؟.
الطرح الطبقي
العديد من الكتاب يضعون في أعمالهم التباين الاقتصادي لشخصياتهم الأدبية، فمن الطبيعي أن يحملوا هم الناس ويقدموه بطريقة صحيحة، فسكان الشقق في عمارة يعقوبيان الذين يشكلون طبقة اقتصادية متوسطة يتهكمون على طه المتفوق في دراسته، وناقمون على عبد الناصر، الذي أتاح الفرصة التعليم، لكافة المواطنين، بصرف النظر عن وضعهم الاقتصادي أو الطبقي، "إن مناصب الشرطة والقضاء والمناصب الحساسة عموما ينبغي أن تقتصر على أولاد الناس لان أولاد البوابين والكوانين وأمثالهم لو أخذوا أية سلطة سوف يستعملونها في تعويض مركبات النقص والعقد النفسية التي أصابتهم في نشأتهم الأولى ثم ينهي حديثه بلعن عبد الناصر الذي استحدث مجانية التعليم ويستشهد بحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :.. "لا تعلموا أولاد السفلة" ص29، فالصراع بين الطبقات في المجتمع موجود، ولا مكان لإنكاره، فرغم أن عبء التعليم يقع على كاهل طه وذويه، إلا أن العقلية الطبقية ما زالت تعمل في المجتمع، وهذا ناتج عن التخلف والحسد المتفشي بين الناس، فهناك شريحة منهم لا تستريح عندما تشاهد الفرحة أو البسمة على وجوه الآخرين، وهنا يدفعنا علاء الأسواني نحو مشاهد تكاد لا ترى، مشاهد بسيطة وعادية جدا في المجتمع، فقط كتأكيد على حالة استمرار تفشي السواد والفساد معا، حتى في ابسط الأمر نجد فساد وسود.
سنجد الطرح الطبقي والمكانة الاجتماعية تأخذ حيز كبير في مسار الأحداث، فطه يقع ضحية الدولة والمجتمع فقط لأنه ابن بواب وليس لأي سبب آخر، فهنا يعيد الكاتب بالمجتمع المصري على عصور العبيد والإقطاع، فلا مجال لوجود من هم دون النبلاء في مؤسسات الدولة، " .. أنت والدك مهنته ايه يا طه؟!
موظف يافندم .. (هكذا كتب في استمارة الالتحاق ودفع مائة جنيه رشوة لشيخ الحارة ليوقع عليها)
تفحص اللواء الأوراق من جديد وسأله؟!
....
سكت طه لحظة ثم قال بصوت خافت :
والدي حارس عقار يافندم
ابتسم اللواء الرئيس وبان عليه الحرج ثم انحنى على الأوراق وسجل شيئا بعناية ورفع رأسه بنفس الابتسامة وقال:
شكرا يا يني .. انصرف" ص83، إذن المجتمع المصري يعاني من الانقسام الطبقي بصورة واضحة، فهو يعامل الأفراد على مكانتهم الاقتصادية أو الاجتماعية، وليس على أساس القدرات والكفاءة، وهذا يجعله يغرق أكثر في مستنقع التخلف، والاستمرار في التراجع إلى الخلف.
التباين الطبقي لم يقتصر على القبول في وظائف الدولة ومؤسساتها وحسب بل ظهر بشكل جلي في الجامعة، التي من المفترض أن تكون مكان للعلم وترسيخ المفاهيم الحديثة للمجتمع المدني والعصري، " وكما ينفصل الزيت فورا عن الماء مشكلا طبقة منعزلة فوقه، انعزل الطلاب الأغنياء عن الفقراء وتكونت شلل متعددة ومغلقة من خريجي مدارس اللغات وأصحاب السيارات الخاصة والملابس المستوردة والسجائر الأجنبية، وقد أنجذب لهؤلاء أجمل البنات وأكثرهن أناقة، أما الطلاب الفقراء فاخذوا يتلاصقون كالفئران المذعورة ويتهامسون على استحياء" ص128، لا مكان لأي سلوك حضاري في مجتمع يعاني من الفساد، الجامعة، مكان التعليم ونشر الأفكار التعليمية والثقافية، تعاني هي الأخرى من سلوك فاسد ومتخلف، فماذا سيكون سلوك الخريجين من هكذا مكان؟، أهم مؤسسة تعليمية تمارس التفرقة والعزلة لأفرادها.
الرواية بصورة عامة
هناك صور عبد الناصر جاءت على لسان زكي الدسوقي والذي ينظر له نظرة سلبية متطرفة جدا فيقول عنه "عبد الناصر أسوء حاكم في تاريخ مصر كله .. ضيع البلد وجاب لنا الهزيمة والفقر .. التخريب اللي عمله في الشخصية المصرية نحتاج سنين طويلة لإصلاحه .. عبد الناصر علم المصريين الجبن والانتهازية والنفاق..
ناس كثير أعرفهم بحبوه ..
اللي يحب عبد الناصر إما جاهل أو مستفيد" ص228و229، هذا الكلام جاء على لسان زكي الدسوقي الأكثر تضررا من ثورة 1952، فهو حاقد ومتحامل على الثورة وما قامت به، من انجازات، فمن الطبيعي على أناس فقد جزء كبير من الأرض لصالح الفقراء أن يقف مثل هذا الموقف، وأيضا لا ننسى أن زكي كان من المفترض أن يكون وزير قبل الثورة، وقيامها جعل من الوزارة مجرد حلم ليس أكثر.
وإذا عدنا إلى ما قاله سكان الشقق عن عبد الناصر الذي جعل التعليم مجاني لكافة المصريين، وكيف ينظرون له، نعرف حقيقة الصورة القاتمة التي يشكلها المتضررين من نهجه.
اليهودي أيضا تم ذكرهم في الرواية بطريقة عابرة فتم التطرق إلى حالة البارات قبل الثورة ومن كان يعمل فيها " كانت بعض البارات في الثلاثينيات والأربعينيات تقدم مع الشراب عروضا صغيرة مسلة لعازف يوناني أو ايطالي أو فرقة من راقصات أجنبيات يهوديات" ص49 " طرد اليهود الأول وبقية الأجانب خافوا على أنفسهم ومشوا" ص228، صورة تعطي أن اليهود كانوا يعيشون في مصر كحالة منسجمة في المجتمع المصري.
نستطيع القول بان قارئ هذه الرواية سيصاب باليأس من حجم الفساد الموجود فيها، وما يؤخذ على الكاتب انه قدم لنا صورة للممارسة الشاذة، والتي تجعل المتلقي يمتعض ويصاب بالكآبة لما فيها من قسوة، فليس من السهل تناول هكذا أحداث وبتفاصيل دقيقة، ونقول بكل موضوعية هذا الرواية من الصعب قراءتها وذلك يعود إلى الشخصيات السوداء الغارقة في الفساد، وأيضا أحداثها التي بمجملها تتحدث عن الفاحشة أو البغاء أو السرقة أو الخداع، فهي تساهم بطريقة أو بأخرى في تقبل القارئ لهذه أفعال وأيضا لهذه الشخصيات.
رائد الحواري
دنيا الوطن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.