تجاوز قضية الجنوب لن يغرق الإنتقالي لوحده.. بل سيغرق اليمن والإقليم    ما الذي يتذكره الجنوبيون عن تاريخ المجرم الهالك "حميد القشيبي"    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    الزندان أحرق أرشيف "شرطة كريتر" لأن ملفاتها تحوي مخازيه ومجونه    شاهد لحظة اختطاف الحوثيين للناشط "خالد العراسي" بصنعاء بسبب نشره عن فضيحة المبيدات المحظورة    الصين توجه رسالة حادة للحوثيين بشأن هجمات البحر الأحمر    الحوثيون يلزمون صالات الأعراس في عمران بفتح الاهازيج والزوامل بدلا من الأغاني    مشادة محمد صلاح وكلوب تبرز انفراط عقد ليفربول هذا الموسم    وفاة شابين يمنيين بحادث مروري مروع في البحرين    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    بينما يذرف الدموع الكاذبة على نساء وأطفال غزة.. شاهد مجزرة عبدالملك الحوثي بحق نساء تعز    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يعزز مركزه بفوز على بلباو    تشيلسي ينجو من الهزيمة بتعادل ثمين امام استون فيلا    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    عملية تحرير "بانافع": شجاعة رجال الأمن تُعيد الأمل لأهالي شبوة.    ضربة قوية للحوثيين بتعز: سقوط قيادي بارز علي يد الجيش الوطني    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    مؤتمر برلمانيون لأجل القدس يطالب بدعم جهود محاكمة الاحتلال على جرائم الإبادة بغزة    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    إصابة شخصين برصاص مليشيا الحوثي في محافظة إب    قيادية بارزة تحريض الفتيات على التبرج في الضالع..اليك الحقيقة    الشيخ الأحمر: أكرمه الأمير سلطان فجازى المملكة بتخريب التعليم السعودي    قبل شراء سلام زائف.. يجب حصول محافظات النفط على 50% من قيمة الإنتاج    الحكومة تدين اختطاف مليشيا الحوثي للصحفي العراسي على خلفية تناولاته لفضيحة المبيدات القاتلة    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    فريق طبي سعودي يصل عدن لإقامة مخيم تطوعي في مستشفى الامير محمد بن سلمان    اختطاف خطيب مسجد في إب بسبب دعوته لإقامة صلاة الغائب على الشيخ الزنداني    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    ارتفاع إصابات الكوليرا في اليمن إلى 18 ألف حالة    أسفر عن مقتل وإصابة 6 يمنيين.. اليمن يدين قصف حقل للغاز في كردستان العراق    استشاري سعودي يحذر من تناول أطعمة تزيد من احتمال حدوث جلطة القلب ويكشف البديل    اليوم السبت : سيئون مع شبام والوحدة مع البرق في الدور الثاني للبطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    لماذا يخوض الجميع في الكتابة عن الافلام والمسلسلات؟    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    بعد القبض على الجناة.. الرواية الحوثية بشأن مقتل طفل في أحد فنادق إب    تعرف على آخر تحديث لأسعار صرف العملات في اليمن    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    قوات دفاع شبوة تحبط عملية تهريب كمية من الاسلحة    ريال مدريد يقترب من التتويج بلقب الليغا    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستبداد- مظاهره ومواجهته
نشر في الجنوب ميديا يوم 17 - 02 - 2014


بقلم: صادق جواد سليمان
كاتب وباحث ودبلوماسي سابق من عُمان
كتاب للشيخ أحمد بن حمد الخليلي
في كتابه الصادر حديثا باسم «الاستبداد – مظاهره ومواجهته»، في الصفحات الأخيرة منه، تحت عنوان: «رجال الإصلاح ينادون هذه الأمة بما يحرر تفكيرها من هذه القيود والأغلال»، يستشهد سماحة مفتي عام سلطنة عُمان، الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، بمقاطع من كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، معتبرا لمؤلفه عبد الرحمن الكواكبي[1] السبق بين أبرز دعاة الإصلاح ورادة التفكير السليم في تاريخنا الحديث.
«الاستبداد داء تبتلى به بعض الشعوب في بعض مراحل التاريخ، وهو أسوأ أنواع السياسة، وأكثرها فتكا بالإنسان ...إنه يؤدي إلى التراجع في كافة مرافق الحياة، وإلى تعطيل الطاقات وهدرها، وإلى سيادة النفاق والرياء بين مختلف فئات الشعب، حكاما ومحكومين». (أسعد السحمراني، تقدمة كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»).
———–
«الاستبداد يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده، ويغالب المجد فيفسده بالتمجد. إنه يحول المجتمع إلى جثة هامدة يستطيع النيل منها من أراد من الأعداء المتربصين». (عبدالرحمن الكواكبي، كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»).
————————————————–
في كتابه الصادر حديثا باسم «الاستبداد – مظاهره ومواجهته»، في الصفحات الأخيرة منه، تحت عنوان: «رجال الإصلاح ينادون هذه الأمة بما يحرر تفكيرها من هذه القيود والأغلال»، يستشهد سماحة مفتي عام سلطنة عُمان، الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، بمقاطع من كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، معتبرا لمؤلفه عبد الرحمن الكواكبي[1] السبق بين أبرز دعاة الإصلاح ورادة التفكير السليم في تاريخنا الحديث «ممن هدتهم الفطرة السليمة إلى دعوة أمتهم أن تتحرر من الأفكار العقيمة التي نُكبت بها، فأعمتها عن الحق وصدتها عن الرشد». هنا يرى الشيخ الخليلي، كما رأى الكواكبي قبله بقرن وربع قرن، أن الخطيئة التي فرخت تلك الأفكار العقيمة، ولطالما كبلت الأمة الإسلامية بقيود وأغلال عاقتها عن إنتاج نموذج قويم للحوكمة من بعد انقضاء الخلافة الراشدة، إنما هي خطيئة الاستبداد.
كتاب الشيخ الخليلي صميم وهادف: صميم من حيث أنه يقدم توصيفا صميما للاستبداد، كظاهرة ذميمة تبتلى بها المجتمعات عندما لا تحتاط ضد نشوء الاستبداد بادئ الأمر، وتباعا تتعاجز عن مواجهته من بعد أن يترسخ في فنائها، فإذا رامت اقتلاعه من بعد ترسخه، كلفها ذلك كلفة باهضة. وهو كتاب هادف من حيث أنه يهدف إلى ابتعاث مسارات رشيدة في الحراك العربي المعاصر: مسارات توصل إلى مستقبل عربي خال من الاستبداد ومظاهره وطبائعه. وإذا كان المؤلف في خاتمة الكتاب يقول أن لا هدف له من وضع الكتاب إلا «إرضاء الله تعالى والحرص على أن تصل الحقيقة إلى الأمة بوجهها الوضاء»، فإن ذلك لا يتعارض، بل إنه يتلاقى تماما، مع كون مطلب الإصلاح السياسي في مجتمعاتنا العربية دافعا ضمنيا لاعتنائه بهذا الموضوع واجتهاده في عرضه. آية ذلك أن المؤلف ينتصر وضوحا لأحداث الربيع العربي، معتبرا إياها حركات جماهيرية مشروعةَ القصد لأجل رفع الظلم وتحقيق العدالة، وإن ترافق مع مثل هذه الحركات، في المعتاد، قدر من الخبط بادئ الأمر، وقدر من العثار تباعا، لأمد قد يطول أو يقصر، على مسارها نحو النضوج والإنجاز.
وهو في هذا السياق يصف ما شهدته الساحة العربية مؤخرا وصفا مسهبا يخبر عن رؤيته لحراك الربيع العربي من حيث أنه، في جوهره، حراك ناشد للإصلاح، ومجتهد في إزالة العطب المستدام في الحوكمة العربية، وذلك بتخليصها من الاستبداد وإعادة قوامها على رشاد مبادئ العدل والمساواة وكرامة الإنسان والشورى الصادقة، وجميع تلك مبادئ مؤصلة في القرآن الكريم.
بعبارات صميمة نافذة يصف المؤلف أحداث الربيع العربي بأحداث «هيأها القدر وساقها المقدور، حتى بلغت مداها، فتزعزعت عروش، وانهدت صروح، وتساقطت أنظمة، وتمرغت في الرغام أنوف طالما شمخت بكبريائها، وتعالت في شممها، وتحطمت رؤوس ما كانت تحسب أن صروف الدهر ستدور عليها، أو أن عوادي الزمان ستمتد يدُها إليها، وقامت من تحت الأنقاض شعوب كم ديست بمناسم الجور، وكبست بوطأة الظلم، فانطلقت كأنما حُلت من عقالها مستهدفة ظالميها تطلب الإثئار ممن سقاها كؤوس الذل وجرعها غصص الهوان. وما من شك في كون العدل المنشود والحق المبتغى مطلبا فطريا للنفس البشرية، فإن الله خلقها حرة، وكرمها بما جللها به من سوابغ الإحسان ... وما أعظم كلمة الفاروق التي حفظها الدهر ورواها، وسجلها الزمن ووعاها: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».
في السياق ذاته، ينتقد الشيخ الخليلي فتاوى صدرت تدين «الذين يريدون أن يتحرروا من ربقة الظلم ويتخلصوا من بطش الظالمين، وتحرّم حتى مجرد الاحتجاج السلمي للمطالبة برفع الظلم». هو يرى تلك الفتاوى نتاجا طبيعيا لظاهرة الاستبداد «التي فُرضت على الأمة فتوارثتها قرنا بعد قرن منذ انطوى الحكم الراشدي، ونشأ في الأمة حكم جاهلي يستمد شرعيته من النظام الكسروي القيصري وإن كان ينتسب زورا إلى الإسلام ... وهذا أيضا ما فرضه الفقه السياسي الذي صيغ بعقول نشأت في هذا المحيط الذي يسوده الظلم والاستبداد تحت شعار الإسلام». هنا أيضا نرى من وراء تأليف الكتاب دعوة صميمة لنبذ الاستبداد مطلقا، ولتوجهٍ تصحيحي إصلاحيٍ رصين يعيد نظام الحوكمة الإسلامية على أساس شورى صادقة، على امتداد الوطن العربي الكبير.
يأتي الكتاب في قسمين: الأول يُعنى بمظاهر الاستبداد، والثاني يستعرض نماذج مشرقة قي مواجهته عبر التاريخ الإسلامي.
مظاهر الاستبداد
في القسم الأول توصيف للاستبداد ينطلق من تأمل عابر في أحوال أمم خلت قديما، كالمصريين تحت حكم فراعنتهم، والرومان تحت حكم أباطرتهم، والفرس تحت حكم أكاسرتهم. في جميع تلك الحالات يلاحظ المؤلف وجود تواطؤ بين المؤسسة السلطوية والمؤسسة الدينية لأجل تثبيت دعائم الاستبداد وتمكين استدامة قبضة المستبد. فتحتَ الفراعنة اعتبر الحاكم مزدوجا من إله وبشر، جراء التضليل بعقول الناس من قبل كهنة يدعمون الحاكم ويدعمهم الحاكم وفق صفقة مبيتة. وتحت الأباطرة الرومان كان التحالف بين المؤسسة البابوية والمؤسسة الأمبراطورية قائما على اعتبار البابوية القيصرَ وسلالته من نسل الآلهة، واعتبار الأمبراطورية البابا ممثلا للسلطة الإلهية على الأرض. كذلك كان اعتبار الأكاسرة لدى المجوس، إذ هم عدوا ملوكهم من عنصر مقدس موصول بالذات الإلهية نسبا، لذا هم أيضا، بتضليل من كهنتهم، أذعنوا لملوكهم بالطاعة العمياء والتمجيد.
في جميع تلك الحالات، الكهنة، بتواطؤ مع الحاكم بدافع انتفاع من عطاءاته المتدفقة عليهم، ومن حيث تعضيده سلطتهم الكهنوتية على الناس، وفي المقابل، الحاكم من حيث تأييد الكهنة شرعية سلطة الحكم له ولسلالته بادعاء النسب الإلهي لهم، سوغا للعوام، بتآزر وثيق، السلطة والقدسية لكليهما، لكي لا يطعن أحد في حق الحكام ممارسة الاستبداد، كما أن لا يطعن أحد في أهلية الكهنوت لتأييد الاستبداد والعمل على استدامة قبضته.
بزوغ الإسلام
نقضا لما كانت عليه أحوال الأمم قبله، نسف الإسلام منذ بزوغه ظاهرة الاستبداد بإقرار مبدأ المساواة بين الناس، ثم بسن المشاركة قرآنيا بآلية الشورى في صنع القرار المتصل بإدارة ما هو شأن مشترك بين الناس عامة. رغم ذلك، على ما يرى المؤلف، من بعد الخلافة الراشدة سرعان ما وقع المسار الإسلامي في شراك الاستبداد الذي وقعت في مثله أمم من قبل. إنه يرى أنه منذ بداية العهد الأموي، لم تعرف الأمة الإسلامية غير الاستبداد منهاجا للحوكمة، بعد إذ انحدر الحكم سريعا من سمو خلافة راشدة منضبطة بمبادئ الإسلام وقيمه الرفيعة، إلى حضيض سلطة استبدادية شرسة منفلتة، الأمر الذي سرى أثره استتباعا، ولايزال يسري، في الحوكمة العربية حتى هذا الحاضر الراهن. في هذا الصدد يقف المؤلف طويلا عند أثر السياسة الأموية في الفقة السياسي التبريري: أي عند فتاوى كانت تصدر لتزيين الباطل وإقراره، من قبيل أن الغالب بالقوة هو الأولى بالشرعية، وأن على الأمة أن تطأطئ له رأسها وتكون طوع أمره، بصرف النظر عن أنه لا توجد في الإسلام طاعة مطلقة لغير الله. ومن قبيل ذلك أيضا الإباحة للحكام أن يعيشوا وسط هالة من الهيبة والأبهة والحماية والبذخ والتبذير والإسراف بحجة أن لهم عند الله وضعا خاصا بسبب تسلطهم في الأرض، فلا حساب عليهم ولا عقاب.
في وصف ما كان عليه الاستبداد إبان العهد الأموي يستشهد الشيخ الخليلي بما كتبه الداعية العلامة أبو الأعلى المودودي[2] عن تلك الفترة في كتابه (موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه)، ومن ذلك يستخلص مجمل أثر الاستبداد في حياة الناس خلال فترة الحكم الأموي بقوله أنه كان عهدا خضع فيه الناس لحكم مطلق «في يد شخص واحد، تساعده بطانة من جنسه، تتزلف إليه بكل شيء من غير مبالاة بسخط الله، وتسفك لأجله الدماء، وتنهب لإرضائه الأموال، وتنتهك كل حرمة من الحرمات، وتنشر بين الناس فكرة الطاعة المطلقة له، من دون أن يكون لهم أن يطالبوا بحق، أو أن يدفعوا عن كرامة، أو أن يحموا حرمة، أو أن يتمتعوا بحرية في أي شيء».
«بناء على هذا، كان ذلكم الفرد المتسلط هو المالك المطلق لثروة الأمة، يسخرها في شهواته، ويبذرها في ملذاته، من غير أن يحسب حسابا للجماهير المحرومة التي تتضور جوعا، وتعاني من حرمان أقل حقوقها وأدنى ما يعيش عليه المرء من شظف العيش ونكد الحياة».
يستشهد المؤلف أيضا بالداعية العلامة أبو الحسن الندوي[3] لتوصيف الحالة التي عانتها الأمة في تلك الحقبة، مقتطفا مقطعا موسعا من كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين):
«لقد أتى على العالم العربي عهد في التاريخ كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد – هو شخص الخليفة أو الملك – أو حول حفنة من الرجال – هم الوزراء وأبناء الملك – وكانت البلاد تعتبر ملكا شخصيا لذلك الفرد السعيد والأمة كلها فوجا من المماليك والعبيد، يتحكم في أموالهم وأملاكهم ونفوسهم وأعراضهم، ولم تكن الأمة التي كانت يحكم عليها إلا ظلا لشخصه ولم تكن حياتها إلا امتداد لحياته».
«لقد كانت الحياة تدور حول هذا الفرد بتاريخها وعلومها وآدابها وشعرها وإنتاجها، فإذا استعرض أحد تاريخ هذا العهد أو أدب تلك الفترة من الزمان وجد هذه الشخصية تسيطر على الأمة أو المجتمع كما تسيطر شجرة باسقة على الحشائش والشجيرات التي تنبت في ظلها وهي تمنعها من الشمس والهواء، كذلك تضمحل هذه الأمة في شخص هذا الفرد وتذوب فيه وتصبح أمة هزيلة لا شخصية لها ولا إرادة، ولا حرية لها ولا كرامة».
«وكان هذا الفرد هو الذي تدور لأجله عجلة الحياة، فلأجله يتعب الفلاح، ويشتغل التاجر، ويجتهد الصانع، ويؤلف المؤلف، وينظم الشاعر، ولأجله تلد الأمهات، وفي سبيله يموت الرجال، وتقاتل الجيوش، بل ولأجله تلفظ الأرض خزائنها، ويقذف البحر نفائسه، وتستخرج كنوز الأرض خيراتها».
«وكانت الأمة – وهي صاحبة الإنتاج وصاحبة الفضل في هذه الرفاهية كلها – تعيش عيش الصعاليك، أو الأرقاء المماليك، وقد تسعد بفتات مائدة الملك، وبما يفضل من حاشيته، فتشكر، وقد تحرم ذلك أيضا فتصبر، وقد تموت فيها الإنسانية فلا تنكر شيئا، بل تتسابق في التزلف وانتهاز الفرص. إن هذا العهد غير قابل للبقاء والاستمرار في أي مكان وفي أي زمان، ولاسبيل إليه إلا إذا كانت الأمة مغلوبة على أمرها، أو مصابة في عقلها، أو فاقدة الوعي والشعور، أو ميتة النفس والروح».
بعد هذا التصوير يورد المؤلف تحذير الداعية الندوي «لأولئك الذين يعيشون على الأحلام التي سيطرت على عقول حكام تلك الحقبة وحواشيهم من مغبة المصير الأسود الذي ستنتهي بهم إليه هذه الأحلام الكاذبة»، مقتطفا من الندوي قوله: «فالذين يعيشون تلك الأحلام إنما يعيشون في بيت أوهن من بيت العنكبوت، بيت مهدد بالأخطار لا يدرون متى يكبس، ومتى تعمل فيه معاول الهدم، وإن سلموا من كل هذا فلا يدرون متى يخر عليهم السقف من فوقهم فإنه بيت قائم على غير أساس متين وعلى غير دعائم قوية... فلا يخدعن أقوام أنفسهم ولا يربطوا أنفسهم بعجلة قد تكسرت وتحطمت ... إن الملوكية مصباح – إن جاز هذا التعبير – قد نفد زيته واحترقت فتيلته، فهو إلى انطفاء عاجل ولو لم تهب عاصفة».
أيضا من الندوي يقتطف المؤلف قوله في الأثرة، أن لا مجال لها ولا محل في الإسلام، كما لامحل لها في مجتمع واع بلغ الرشد، كونها إجحافا فاضحا بالآخرين فيما الجميع فيه سواسية في الحق والاستحقاق، وإذن، ففرديةً كانت الأثرة أو عائلية، منظمةً كانت أو عشوائية، حزبيةً كانت أو طبقية، مما تمارس في مختلف المجتمعات عبر العالم، فهي بجميع أنواعها ستنتهي، وإن الإنسانية ستثور عليها وتنتقم منها أشد الانتقام. «فخير للمسلمين وخير للعرب وخير لقادتهم وولاة أمورهم أن يخلصوا أنفسهم منها ويقطعوا صلتهم بها قبل أن تغرق فيغرقوا معها».
يلاحظ الشيخ الخليلي هنا أن العلامة أبا الحسن الندوي نفى عن ذلك العهد، عهد ما بعد الخلافة الراشدة، أن يكون عهدا إسلاميا، وسواه بالعهد الذي كان قبل إشراق نور الإسلام، ووصمه بأنه عهد جاهلي، وقال أنه لا ينبغي أن يُقر ويبقى في هذه الأمة يوما واحدا فضلا عن أن يبقى أعواما أو قرونا. يلاحظ كذلك، موافقا، أن الندوي يعمم هذا الحكم على العهد الأموي والعباسي بسواء: الأموي الذي دام 90 عاما، لا تُستثنى منه سوى ثلاث سنوات حكم عمر ابن عبد العزيز «الذي أقام موازين القسط وأعاد إلى الأمة حقوقها المسلوبة»، والعهد العباسي الذي دام 508 عاما وانتهى بسقوط بغداد أمام هجمة المغول عام 1258. كما أنه يورد للندوي مستحسنا قوله أن الاستبداد «إن سبق في عهد من عهود التاريخ وبقي مدة طويلة، فقد كان ذلك على غفلة من الأمة أو على الرغم منها، وبسبب ضعف الإسلام وقوة الجاهلية، ولكنه خليق بأن ينهار ويتداعى كلما أشرقت شمس الإسلام واستيقظ الوعي، وهبت الأمة تحاسب نفسها وأفرادها».
في مكان آخر، يورد المؤلف قول الندوي، لأن ذلك العهد الاستبدادي ساد في حياة المسلمين طويلا، «فإنه ترك رواسب في حياة الأمة ونفوسها وفي أدبها وشعرها وأخلاقها واجتماعها، وخلف آثارا باقية في المكتبة العربية، ومن هذه الآثار الناطقة كتاب (ألف ليلة وليلة) الذي يصور ذلك العهد تصويرا بارعا، يوم كان الخليفة في بغداد، أو الملك في دمشق أو القاهرة، هو كل شيء، وبطل رواية الحياة، ومركز الدائرة: إن هذا العهد الذي يمثله كتاب (ألف ليلة وليلة) بأساطيره وقصصه، وكتاب (الأغاني) بتاريخه وأدبه، لم يكن عهدا إسلاميا، ولا عهدا طبيعيا معقولا، فلا يرضاه الإسلام ولا يقره العقل، بل إنما جاء الإسلام بهدمه والقضاء عليه، فقد كان هذا هو العهد الذي بعث فيه محمد صلعم فسماه الجاهلية ونعى عليه وأنكر على ملوكه – ككسرى وقيصر – وعلى أثرتهم وترفهم أشد الإنكار. إن هذا العهد غير قابل للبقاء والاستمرار في أي مكان أو أي زمان، ولا سبيل إليه إلا إذا كانت الأمة مغلوبة على أمرها، أو مصابة في عقلها، أو فاقدة الوعي والشعور، أو ميتة النفس والروح... إنه وضع شاذ لا ينبغي أن يبقى يوما، فضلا عن أن يستمر أعواما».
حول المفارقة بين عهد الخلافة الراشدة والعهد الذي تلاها من حكم الأمويين ثم العباسيين يورد المؤلف للأستاذ سيد قطب[4] قوله: «لقد اتسعت رقعة الإسلام فيما بعد الخلافة الراشدة، لكن روحه انحسرت بلا جدال، ولولا قوة كامنة في طبيعة هذا الدين، وفيض عارم في طاقته الروحية، لكانت أيام أمية كفيلة بتغيير مجراه الأصيل، ولكن روحه ظلت تقاوم وتغالب، وما تزال فيها الطاقة الكامنة للتغلب والانتصار».
«غير أن أمية أتاحت حدود بيت مال المسلمين، فصار نهبا ومباحا للملوك والحاشية والمتعلقين، وتخلخلت قواعد العدل الإسلامي الصارم، فأصبح للطبقة الحاكمة امتيازات، ولأذيالها منافع، ولحاشيتها رسوم، وانقلبت الخلافة ملكا، وملكا عضوضا، كما قال عنه رسول الله (صلعم) في وثبة من وثبات الاستشفاف الروحي العميق».
على أن الفساد، على ما يرى المؤلف، لم ينحصر في المال، بل شاب السياسة أيضا، فبعد أن كان أمر الولاية مبنيا على الشورى والانتخاب الحر، تحول إلى النقيض من ذلك... تحول إلى حيازة بإرث، أو أخذ بعنوة، أو إرغام بقهر، أواستبداد بسيطرة. في هذا السياق يحسم المؤلف نظره في التاريخ الإسلامي موافقا الشيخ الندوي في قوله: «لو أردنا أن نضع أصبعنا على الحد الفاصل بين الكمال والزوال، لوضعناه على الخط التاريخي الذي يفصل بين الخلافة الراشدة والملوكية العربية أو ملوكية المسلمين».
يعلق المؤلف على هذا التحول الخطير الذي طرأ على المسار الإسلامي بقوله: «إن أعظم بلاء على الأمة ومصيبةٍ في الدين تحولُ نظام الحكم، الذي كان يسود الأمة من أقصاها إلى أقصاها، من منهج رباني – يقوم على العدل، والشورى، ومحاسبة النفس، والخوف والرجاء من الله، وينبني على عقد بين الأمة والخليفة يكون الخليفة بموجبه أجيرا للأمة تحق لها مراقبته ومحاسبته على القليل والكثير، كما يحق لها مع انحرافه عن الجادة أن ترده إليها بالنصح والتقويم، فإن أبى كان لها عزله، ولو بالقوة – إلى منهج شيطاني يقوم على الجور والاستبداد، وإعطاء النفس شهواتها في البطش بالأمة، وسلبها جميع حقوقها المادية والمعنوية، وإطلاق يد المتسلط بالعبث بأموالها وسفك دمائها، ومعاملتها كقطيع من السوائم، لا تجتلب لنفسها نفعا ولا تدفع ضرا».
«وقد كان هذا – بلا ريب – حدا فاصلا بين عهدين في حياة الأمة، عهد القوة والعزة والكرامة، وعهد الضعف والذلة والمهانة، كما أوضح ذلك المفكر الكبير السيد أبو الحسن الندوي في ملحوظته: «قال أحد الأدباء: «أمران لا يحدد لهما وقت بدقة، النوم في حياة الفرد، والانحطاط في حياة الأمة، فلا يُشعر بهما إلا إذا غلبا واستوليا». إنه لحق في قضية أكثر الأمم، لكن بدا التدلي والانحطاط في الأمة الإسلامية أوضح منه في حياة الأمم الأخرى، ولو أردنا ان نضع أصبعنا على الحد الفاصل بين الكمال والزوال، لوضعنا على ذلك الخط التاريخي الذي يفصل بين الخلافة الراشدة والملوكية العربية أو ملوكية المسلمين».
مواجهة الاستبداد
فإذا انتقلنا إلى القسم الثاني من الكتاب – قسم مواجهة الاستبداد – نجد استطرادا لإدانة العهد الأموي لاعتبار المؤلف هذا العهد منطلق الانحراف في مجال الحوكمة الإسلامية، ونجده، تدليلا على ذلك، يستشهد بعدد من الثورات التي حدثت في مختلف مواطن العرب ضد الحكم الأموي، طلبا للتصحيح والإصلاح، لأجل إعادة الحوكمة الإسلامية إلى قاعدتها الأصيلة، قاعدة الشورى التي أصلها القرآن المجيد منهاجا للحوكمة في مجتمع المؤمنين.
بهذا الصدد يستشهد المؤلف بثورة الحسين ابن علي، سبط الرسول صلعم «وقد انتهت به محاولته إلى الاستشهاد في وقعة كربلاء الشهيرة مع لفيف من المسلمين. وسار على نهجه من بعده حفيده زيد بن علي في عهد هشام ابن عبد الملك وانتهى به الأمر إلى مصير جده. كما هب أهل المدينة المنورة، بمن كان منهم من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، إلى تحدي كبرياء الأمويين ودفع بطشهم وجورهم بالسيف، عندما قاموا في وجه الطاغية يزيد ابن معاوية، وقائده العنيد مسرف بن عقبة، فكانت وقعة الحرة المشورة. وكانت ثورة ابن الزبير بمن التف حوله من الصحابة والتابعين، فتمكن حقبة من الدهر من تحرير بعض البلاد التي كانت واقعة تحت الحكم الأموي، ومن بينها الحرم الشريف، إلى أن انتهى حكمه بالاجهاز عليه في عهد عبد الملك بن مروان، بقيادة عامله الطاغية الحجاج بن يوسف، ولم يبال الطغاة في هتك حرمة الحرم الشريف، وقصف بيت الله بالمناجيق، لتحقيق مناهم من بسط سلطتهم والانتقام ممن خصمهم. وقام عليهم جماعة من المسلمين بقيادة عبد الرجمن بن الأشعث، وكان فيهم سعيد بن جبير من أئمة التابعين وخيارهم، وعرفت الثورة بثورة التوابين، إلى أن تمكن الطغاة من إخمادها وإبادة رجالها، بالأسلوب الذي عرفوا به من البطش الشديد والمبالغة في الانتقام».
يعلق المؤلف على كل هذا بقوله: «وما من ريب أن هذه الحركات جميعها كانت تهدف إلى مقاومة ظلم (الأمويين) ودفع بطشهم وإخماد فسادهم، ولكنها (لم تنجح) نظرا إلى أن معظم هذه الثورات أجهز عليها قبل أن تصل غاياتها، من إقامة العدل وبسط المعروف وإزهاق الباطل، ما عدا حركة ابن الزبير التي تمكنت من الحكم برهة من الزمن».
ثم يورد المؤلف الثورة التي قادها الإمام عبدالله بن يحيى الكندي وقائده أبو حمزة المختار ابن عوف الشاري، يوردها بقدر من التفصيل، وذلك، على ما يرى فيها من اعتبارات هامة منها: «أنها نجحت ولو لفترة قصيرة من الزمن، وفي أماكن محدودة من الأرض، فتيسر لها أن تجسد النموذج الحي للحكم الإسلامي النظيف، وأنها تنتمي إلى مدرسة تمكنت في عهود لاحقة أن تحقق هذه الغاية المنشودة في بقاع من بلاد الإسلام فكانت صورة للحكم العادل على نهج الخلافة الراشدة». كما وأن المؤلف اعتبر ثورة طالب الحق وثورة أبي حمزة، في اليمن وعمان «غصنين نبتا في دوحة واحدة وتشاركا طبيعة واحدة ومنزعا واحدا في مواجهة الاستبداد».
يزخر الكتاب بمراجع عديدة استأنس بهاالمؤلف في إعداد بحثه، منها تحديدا كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» لعبد الرحمن الكواكبي الذي يصفه المؤلف بالمفكر المصلح، ويورد من كتابه الرائد في توصيف الاستبداد مقاطع مسهبة، من ذلك قول الكواكبي: «ولقد صاغ وعاظ المسلمين ومحدثوهم مما قرأوا في التوراة من قبيل: اخضعوا للسلطان، ولا سلطة إلا من الله، والحاكم لا يتقلد السيف جزافا وإنما للانتقام من أهل الشر... ومن الأدبيات اليهودية أيضا تلك التي صاغ وعاظ المسلمين قولهم: السلطان ظل الله في الأرض، والظالم سيف الله ينتقم به، ثم ينتقم منه، والملوك ملهمون ...»، ويعقب الشيخ الخليلي، على ذلك بقوله: «هذا وكل ما ورد في هذا المعنى إن صح فهو مقيد بالعدالة أو محتمل للتأويل بما يعقل، وبما ينطبق على حكم الآية الكريمة التي فيها فصل الخطاب، وهي: «ألا لعنة الله على الظالمين"، والآية الكريمة الأخرى: «فلا عدوان إلا على الظالمين»».
تقييم الكتاب
الكتاب، كما أسلفت، صميم وهادف، وبنظري أهم ما فيه أنه يعرض صورة كاشفة للفارق الجذري والشاسع الذي ظهر بين المواصفات العالية للحوكمة في الإسلام كما هي مورست إبان الخلافة الراشدة، وبين الرداءة المفرطة التي مورست بها الحوكمة ابتداء بالعهد الأموي ثم في سياق تاريخي مماثل مستطرد يراه المؤلف – متوافقا مع بعض من استشهد بآرائهم من علماء الإسلام – أنه لا يزال مستمر الأثر في إعاقة ارتقاء ممارسة الحوكمة الإسلامية، تحديدا في المجتمعات العربية، إلى المواصفات التي اتصفت بها ممارسة الحوكمة في العهد الراشدي.
مبادرة إبراز الاستبداد هكذا جليا كعائق مركزي للتطور الإيجابي للحوكمة في الخبرة العربية، بالأخص في هذه المرحلة التي تعلوا فيها أصوات الشعوب العربية في كافة أقطار الأمة، مطالبة بإلحاح بترشيد الحوكمة العربية دستورا وقانونا وتطبيقا، وبمكافحة الاستبداد ومظاهره وطبائعه من أثرة وفساد وتعسف في الحكم وإهدار للمال العام، هي لعمري مبادرة جديرة بكل تقدير، سيما أنها تأتي من قامة دينية عالية، مؤهلة بامتياز، وحريصة بإخلاص، على أن لا يساء فهم أمر الحوكمة في الإسلام من خلال ممارسات الحكام المسلمين من بعد العهد الراشدي، بل أن يفهم صحيحا بضوابطه المؤصلة في مبادئ العدل والمساواة وكرامة الإنسان والشورى، وفي ترسيخ القيم الأخلاقية المنمية للحال الإنساني في كل زمان ومكان: المبادئ والقيم التي عملت بها الخلافة الراشدة بهدي المصحف المجيد والسنة النبوية العاطرة.
اكتفي بهذا القدر من العرض، مدركا قصور ما عرضت، سوى من ملاحظات تبقى لدي على الكتاب لعلي أبدي هنا سريعا أهم أربع منها:
أولا: بما أن ظاهرة الاستبداد عامة في خبرات الأمم، وأن من الأمم من عانت من الاستبداد، قديما وحديثا، أعتى المعاناة، إذن لعله كان الأجدر أن لا ينحصر بحث المؤلف ضمن السيرة الإسلامية فحسب، بل أن يأتي موسعا وشاملا لمظاهر الاستبداد البشعة وطبائعه الفاتكة في الخبرة الإنسانية ككل.
ثانيا: لعلي ألاحظ أن ما حدث في الفترة العباسية لم يكن سلبيا في مجمله، أو عديما في إثراء الخبرة الإسلامية، لذا هي لا تستحق إدانة مطلقة. فمثلا زمن ظهور كتاب (ألف ليلة وليلة) وكتاب (الأغاني) – من حيث أنهما تحديدا محل انتقاد المؤلف والشيخ الندوي – هو ذات الزمن الذي شهد نهضة إسلامية معرفية غير مسبوقة حتى ذاك في سعة محتواها وعرض مداها وغزارة التأليف المعرفي إبانها على مدى أربعة قرون، إن كان في العلوم الطبيعية أو الدينية أو الإنسانية – النهضة التي لا يزال يُقر لها بالفضل لدى عديد من الباحثين كإسهام حضاري مشهود مهد للثورة المعرفية الأوروبية التي درّست جامعاتها من الموسوعات الإسلامية في الطب حتى القرن السابع عشر، واستفادت من المؤلفات الإسلامية في الفلك والبصريات والكيمياء والرياضيات والفلسفة وسواها من العلوم لتطوير معارفها التي أقامت عليها حضارتها الراهنة، المستمرة منذ نصف ألفية من الزمن.
ثالثا: كون الشورى نقيض الاستبداد وبديله في عملية التصحيح والإصلاح، كنت أود أن يقدم البحث تعريفا محكما للشورى من حيث ما ينبغي أن تكون عليه تطبيقاتها في مجال الحوكمة الإسلامية المعاصرة، نظرا لانه لا يزال هناك تأرجحا بين الناس في فهم محتوى الشورى ومدى إلزامية ما تتمخض عنه من قرارات تتصل بالشأن الوطني.
رابعا: كنت أود أيضا أن يقدم البحث رأيا في نظرية «المستبد العادل» التي قال بها الشيخ محمد عبده، مبررا إياها بما رأى من قصور المجتمعات العربية في وقته عن الأخذ بالنظم الديمقراطية، قائلا: «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل». لدى عدد ممن قرأت لهم من مفكري الإسلام، ولديّ بالتأكيد، هذه النظرية مردودة في منطقها ومعطوبة في بنائها من حيث جمعها توفيقيا بين نقيضين: الاستبداد والعدالة. الأخطر من ذلك أنها، على ما يرى بعض الباحثين، قد تكون قد ساهمت، من حيث لم يتقصد صاحبها في وقته، في تبرير الاستبداد كما ظهر ومورس عربيا من بعد التحرر من الحكم العثماني. إلا أنني، مع رفضي لهذه النظرية، كنت أود الاستئناس بوجهة نظر سماحة المفتي فيها، ضمن استئناسي بعموم رؤيته التي عرضها مشكورا ومنيرا في كتابه الهادف الصميم حول أثر خطيئة الاستبداد سابقا، واستمرار أثرها لاحقا، في الحياة السياسية للشعوب حتى عصرنا الراهن.
[1] هو عبدالرحمن بن أحمد بن مسعود الكواكبي، الملقب بالسيد الفراتي في مدينة حلب، من أسرة تعود في نسبها لآل البيت وتمتاز بالاشتغال بالعلم والاشتراك في جهاز الدولة، قضاء وإدارة وإفتاء. ولادته عام 1848 ووفاته عام 1902. توفي تاركا مشروعه الإصلاحي للعرب والمسلمين، من أجل الخروج من واقعهم المتخلف، في كتابين هامين هما: «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، و «أم القرى».
[2] هو أبو الأعلى – أو أبو العلاء – المودودي. ولد بولاية حيدرآباد بالهند عام 1321 هجرية وتوفي بمدينة لاهور عام 1399 هجرية. من أسرة محافظة اشتهرت بالتدين والثقافة. كان عضوا مؤسسا لرابطة العالم الإسلامي، وله عديد من المؤلفات في الدراسات الإسلامية.
[3] هو أبو الحسن علي بن عبد الحي بن فخر الدين الندوي. ينتهي نسبه إلى السبط الحسن ابن علي. هاجرت أسرته إلى الهند في أوائل القرن السابع الهجري. علامة إسلامي ذو شهرة عالمية. له العديد من المؤلفات في الدراسات الإسلامية. ولد في شمال الهند عام 1914 وتوفي هناك عام 1999.
[4] هو سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي. ولادته عام 1906. كاتب وأديب ومنظر إسلامي من مصر. كان عضوا في في مكتب جماعة الإخوان المسلمين. خاض معهم محنتهم عام 1954 إلى عام 1966 حيث حوكم بتهمة التآمر على نظام الحكم وحكم عليه بالإعدام وأعدم
تاج


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.