محمد عبدالمطلب تداول المجتمع المصري و العربي هذين المصطلحين بكثير من الخلط والاضطراب , عن عمد حينا , وبغير عمد حينا آخر , وهذا وذاك راجع إلى سيطرة الذاتية وغياب الموضوعية , فكل متحدث يعرض وجهة نظره الخاصة , ويحدد مفهوم المصطلح تبعا لذلك , ومن ثم يكون تحديد المصطلح وفقا لوجهة نظره وحده , وقد ازداد الخلط في الزمن الأخير بعيدا عن المعقول والمنقول , وهذا ما دعاني إلى تقديم هذا التوضيح الموجز لهذين المصطلحين . ( العَلمانية ) بفتح العين , نسبة إلى ( العَالَم ) , و( العِلمانية ) بكسر العين , نسبة ( للعِلم ) , وهذا التشابه الصياغي ربما كان أحد أسباب هذا الخلط , بينما الصحيح أن هذا التشابه لا صلة له بالتشابه الدلالي , ذلك أن ( العَلمانية ) بالفتح تعني : أن العالَم هو المرجعية الدلالية للمصطلح , فهو البداية والنهاية , وهو ما يقود منطقيا إلى غياب فكرة ( الخلق الإلهي ) , فالعَلمانية تسعى إلى : ( دنيا بلا دين ) , ( عقل غير متدين ), فلا سلطة للدين على الكائن الحي وغير الحي بحال من الأحوال . وحجة أصحاب هذا التفسير التي قدموها لتوثيق عَلمانيتهم : أن الإنسان كائن متغير بطبعه داخليا وخارجيا , ويلاحقه هذا التغير داخليا في حضارته وثقافته وتفكيره وعواطفه , وخارجيا : في سلوكه العام والخاص , وفي مفردات الواقع التي تحيط به , وهو ما يتنافي مع الدين بكل ثباته وجموده , ومحاولة قهر الإنسان لسلطة الدين , تقوده إلى الدمار والفناء . وهذا الفكر العَلماني ليس جديدا على الثقافة العربية , فقد ظهرت قديما جماعة ( الدهريين ) نسبة إلى ( الدهر ) , وفكر هذه الجماعة قائم على أساس أن العالم أوجد نفسه بنفسه , وأنه دائم لم يزل ولن يزول , وقد ذكرهم القرآن الكريم في قوله تعالى : » وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر » ( الجاثية 24 ) ولأن المجتمع العربي لا يمكن أن يتقبل هذا الفكر العَلماني تقبلا حسنا , حاول أصحابه إدخال بعض التعديل عليه , حتى يجد هذا الفكر بعض القبول , إذ قالوا : إن المقصود بالمصطلح : (فصل الدين عن الدولة ) , مغفلين عن عمد مفهومه الصحيح : ( إلغاء الدين من الدولة ) , وهذا التعديل المزيف , ساعد في الخلط بين ( العَلمانية والعِلمانية) . أما المصطلح الآخر , فهو (العِلمانية ) بالكسر , نسبة (للعِلم) , وليس هناك من يرفضه , أو يتحفظ عليه , إلا إذا كان بدائيا لا صلة له بالحضارة والمدنية , إذ إن العِلم صاحب السيادة في كل أنساق الحياة , لكن لا يعني ذلك أنني عندما أريد ( شرب الماء ) أن استدعي بحوث الكيمياء والأحياء قبل الشرب , فهذه البحوث والدراسات محلها معامل البحث العلمي التي تخدم المجتمع , وتقدم له ما يساعده في حياته العلمية والعملية . إذن المقصود بحضور العلم : ( حضور المنهج العلمي ) في الممارسة النظرية والحياتية , على معنى ربط الأسباب بالمسببات , والعلل بالمعلول , واستخلاص النتائج من المقدمات الصحيحة , ولا يكاد يغيب هذا المنهج إلا في الأمور الفطرية التي فطر الله الإنسان عليها , مثل عوارض الحب والكره , وعوارض الكرم والبخل , وهذا الذي نقوله يتوافق مع ما قاله ( العَلمانيون) عن أن الإنسان كائن متغير , لكن هذا التغير يكون في العرض لا الجوهر , أما الفطرة فهي ثابتة بقدرتها على إدراك التشابه والتخالف , والممكن والمحال , والضار والنافع , وكل منصف يدرك أن الدين أعطى للإنسان مساحة واسعة من حرية الرأي والفكر الذي ينظم به حياته . من البدهي أن الدين أي دين يقوم على ثلاثية أساسية : ( العقيدة العبادة المعاملات ) , أما العقيدة والعبادة , فهما علاقة بين العبد والمعبود , ولا دخل لأحد فيهما , وقانونهما حددته الآية الكريمة : » لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ » ( البقرة 256 ) , لكن المؤسف أن بعض المثقفين سعوا إلى تأويل الآية تأويلا فاسدا هو : ( من شاء أن يطعن في الدين ويهينه , فهو حر في ذلك ) , أما ( المعاملات ) فهي مجال الاجتهاد طلبا للمصلحة الجزئية والكلية اعتمادا على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : » أنتم أعلم بشئون دنياكم » , وفي هذا السياق يمارس الإنسان اجتهاده في حرية لا يحدها إلا : ( حرية الآخر ) , لأن الحرية في هذا المجال تكون عدوانا لا يقبله العَلمانيون والعِلمانيون بفتح العين وكسرها. ايلاف