لأول مرة في تاريخ مصر.. قرار غير مسبوق بسبب الديون المصرية    لحظة وصول الرئيس رشاد العليمي إلى محافظة مارب.. شاهد الفيديو    قائمة برشلونة لمواجهة فالنسيا    المواصفات والمقاييس ترفض مستلزمات ووسائل تعليمية مخصصة للاطفال تروج للمثلية ومنتجات والعاب آخرى    رئيس كاك بنك يشارك في اجتماعات الحكومة والبنك المركزي والبنوك اليمنية بصندوق النقد والبنك الدوليين    الإطاحة بوافد وثلاثة سعوديين وبحوزتهم 200 مليون ريال.. كيف اكتسبوها؟    - عاجل امر قهري لاحضار تاجر المبيدات المثير للراي العام دغسان غدا لمحكمة الاموال بصنعاء واغلاق شركته ومحالاته في حال لم يحضر    العميد أحمد علي ينعي الضابط الذي ''نذر روحه للدفاع عن الوطن والوحدة ضد الخارجين عن الثوابت الوطنية''    مدير شركة برودجي: أقبع خلف القضبان بسبب ملفات فساد نافذين يخشون كشفها    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    وفاة امرأة وإنقاذ أخرى بعد أن جرفتهن سيول الأمطار في إب    رغم القمع والاعتقالات.. تواصل الاحتجاجات الطلابية المناصرة لفلسطين في الولايات المتحدة    الهجري يترأس اجتماعاً للمجلس الأعلى للتحالف الوطني بعدن لمناقشة عدد من القضايا    منازلة إنجليزية في مواجهة بايرن ميونخ وريال مدريد بنصف نهائي أبطال أوروبا    استهداف سفينة حاويات في البحر الأحمر ترفع علم مالطا بثلاث صواريخ    افتتاح قاعة الشيخ محمد بن زايد.. الامارات تطور قطاع التعليم الأكاديمي بحضرموت    الذهب يستقر مع تضاؤل توقعات خفض الفائدة الأميركية    اليمن تحقق لقب بطل العرب وتحصد 11 جائزة في البطولة العربية 15 للروبوت في الأردن    ''خيوط'' قصة النجاح المغدورة    واشنطن والسعودية قامتا بعمل مكثف بشأن التطبيع بين إسرائيل والمملكة    وفاة ''محمد رمضان'' بعد إصابته بجلطة مرتين    «الرياضة» تستعرض تجربتها في «الاستضافات العالمية» و«الكرة النسائية»    الريال اليمني ينهار مجددًا ويقترب من أدنى مستوى    كانوا في طريقهم إلى عدن.. وفاة وإصابة ثلاثة مواطنين إثر انقلاب ''باص'' من منحدر بمحافظة لحج (الأسماء والصور)    بين حسام حسن وكلوب.. هل اشترى صلاح من باعه؟    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    السعودية تكشف مدى تضررها من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    ريمة سَّكاب اليمن !    الشيخ هاني بن بريك يعدد عشرة أخطاء قاتلة لتنظيم إخوان المسلمين    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    حزب الرابطة أول من دعا إلى جنوب عربي فيدرالي عام 1956 (بيان)    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    الأحلاف القبلية في محافظة شبوة    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدكتور ياسين سعيد نعمان .. في كتابه الجديد (عبور المضيق .. في نقد أولي للتجربة )
نشر في الجنوب ميديا يوم 21 - 04 - 2014

ينشر الثلاث الحلقات الاولى من كتاب الدكتور ياسين نعمان " عبور المضيق .. في نقد أولي للتجربة "
من زمن قديم
نمت على قبر أمي
شجيرات
تطلق أزهاراً،
لها لون محياها..
ولها عبق شعرها
و سحر عينيها
وصفاء روحها
ووضوح كلماتها..
على يديها، وعلى حافة قبرها
تعلمت
أن للكلمة ثمن، هو الموقف
وأن الموقف يعنى التضحية
وأن حاصل جمع:
الثمن في الأولى والمعنى في الثانية هو الحياة!
*****
تمهيد
لم تكن فكرة الكتابة في هذا الموضوع قد اختمرت في ذهني قبل صدور قرار مجلس الأمن رقم (2140) لعام 2014، والذي يضع اليمن تحت طائلة البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. لم تثر الفكرة عندي حماسة الكتابة في ذلك الوقت الذي كانت تحتدم فيه الأحداث في أكثر صورها تعبيراً عن مخاضات عسيرة لولادة متوقعة للجديد.. فقد اعتبرتها مهمة؛ ولكن مؤجلة إلى الوقت الذي تتم فيه الولادة، وتصفو فيه الروح، وتكون المشاعر قد هدأت وتخلصت من تأثير الصدمة التي أحدثتها تلك اللحظات الدرامية التي ابتلعت جزءاً هاماً من الحوار في واحد من أكثر المشاهد ملهاة واستخفافاً بالمعاني الأصيلة لقيمته في حياة اليمنيين.
منذ ما قبل الحوار وأثناءه وأنا أتساءل عما إذا كان باستطاعة اليمن أن يخرج، هذه المرة، منتصراً، وحاملاً بيده مشعل المستقبل يضيء طريقه إلى حياة أفضل. تفرع هذا السؤال إلى عدة أسئلة. رأيت اليمن قد تحرك من حالة الجمود والتفكك، التي عاشها لعقود، نحو المضيق الذي يوصله بالمستقبل، محمولاً على راحلة ثورة التغيير والحوار. على هذه الراحلة، وفي رحلته نحو هذا المستقبل، دخل هذا المضيق، وعلى نجاحها يتوقف خروجه منها. لم يعد أمامه من خيار سوى النجاح أو الموت داخل هذا المضيق. هناك فقط خيار واحد، وهو العبور بنجاح كامل. ليس هناك نصف حل لهذا الخيار الحاسم.
وتفرع عن ذلك سؤال آخر، وهو: هل الوطن مجرد جغرافيا وأنظمة تسلط، ورعية، وحقوق منهوبة، وحريات مغتصبة واستبعاد اجتماعي...؟ أم أن الوطن قيمة أنبل من كل القيم الأخرى؛ قيمة جامعة لكل القيم التي تجسد الإنسان في كامل صورته كمستخلف على هذه الأرض، ومن هذا الاستخلاف يستمد انتماءه وحقوقه وحرياته كمواطن لا كرعوي، كسيد على الجغرافيا لا كمسود، كصانع لحياته لا كمهمش ينتظر الإحسان من مغتصبي حريته وحقوقه؟ البلدان التي بقيت مجرد جغرافيا وأنظمة تسلط ورعية، وفشلت في أن تتحول إلى وطن يُجسد المعنى الإنساني للحياة على هذه الجغرافيا، راوحت في مكانها، وغرقت في التخلف والصراعات والعنف، وتعرضت للانهيارات المستمرة.
تعسرت الولادة. فهل كان القرار الأممي بمثابة الحدث الذي حرك قطع الشطرنج من أماكنها، على أي نحو كان، لتسريع المخاض وإنهاء اللعبة؟
يجب أن نعرف أن "الأوطان" لا تصل إليها الشعوب بقرارات دولية؛ فهي عملية موضوعية نضالية تعتمد في الأساس على إدراك الشعوب لما تعنيه كلمة "الأوطان" في حياتها، وأن النضال من أجلها يستحق التضحيات.
لا أحد يستطيع أن يهبنا "وطن" ما لم تكن الحوافز لدينا للوصول إليه أقوى مما في معادلة الحياة من تحديات، وما لم نكن مستعدين للعمل الجاد من أجل الوصول إليه؛ ذلك الاستعداد الذي تحركه دوافع أن نعيش ونحيا بكرامة، بعيداً عن ضغوط الهجرة وجراح الترحيل. آباؤنا وهبونا بلداً -جغرافيا- نعيش عليه وننتمي إليه. أما تحويله إلى "وطن" فقد بقي مهمة نتوارثها، وحانت فرصة تحقيقها. هذه الفرصة لا يجب أن تهدر فوق ما أهدر من فرص. لا أحد يملك القدرة على منعنا من تحويل بلدنا إلى "وطن"، كبقية خلق الله الذين سبقونا إلى ذلك. وحتى حينما يتعارض مفهوم هذا الوطن مع ما كرسه الاستبداد من مصالح فاسدة، وأنماط اقتصادية طفيلية، وثقافة تبريرية منهكة لحوافز التغيير، وبنى اجتماعية مشوهة؛ وكلها تقاوم هذا التحول؛ فإن هذا الغث كله غالباً ما يفضي إلى خلق القوة المناهضة له في الجانب الآخر من المشهد. إنها القوة التي ستتحمل تحقيق هذه المهمة. من هي هذه القوة في الحالة اليمنية؟! هذا ما سنرد عليه في الجزء الثاني.
في التجربة التاريخية لا تنشأ الحوافز القوية للتغيير إلا في واقع انحط، ولم يعد هناك أمل في إصلاحه. وهذه الحوافز تطلقها مبادرات تأتي من الأوساط الشعبية المؤهلة للقيام بهذه العمليات التاريخية، التي كان يقوم بها الأنبياء في الزمن القديم، عندما كانت مجتمعاتهم تصل إلى تلك الدرجات العالية من الانحطاط.
خيار التحول إلى وطن:
الفرص المهدرة
اليمن بلد ضاقت خياراته، تعثر بحكامه طويلاً، حتى وصل في مسيرته إلى المضيق، الذي لم يعد عنده مفر من البحث عن مخرج منه سوى أن تتصدر قوى الشعب الحية هذه العملية.
ليس لديه خيار آخر غير التحول إلى وطن، أو الكارثة. لن تكون روشتات الخارج على هذا الطريق، في أحسن الأحوال، سوى عامل مساعد لكبح جماح المتنطعين من أبنائه ممن أرهقوه بخياراتهم النزقة، والتي طالما تعارضت مع خيارات بنائه وتطويره على أسس سليمة.
ببقائه مجرد بلد تتنازعه الأهواء وتعصف به الأنواء، خسر كل المحطات التاريخية التي كان من الممكن أن تكون نقطة انطلاق جادة لمسيرة بنائه. ولم تكن تلك الخسارات هينة بحساب ضياع الفرصة واستهلاك الزمن. ضياع الفرصة يعقبه دائما استهلاك عبثي للزمن. ولنحسب هذه المحطات كفرص وما أعقبها من زمن ضائع.
منذ 2007، وحتى 2011، استعاد الشعب المبادرة، وكان الشباب والنساء في الصدارة. فالحراك السلمي في الجنوب، والذي بدأ يتشكل منذ ما بعد حرب 1994 في صورة احتجاجات ومصادمات مع النظام، على إثر الإجراءات التصفوية والقمعية التي مارسها ضد سكان الجنوب، كان رائداً في إطلاق المبادرة الثورية السلمية التي احتشدت فيها الجماهير على ذلك النحو، الذي لم يكن فقط معبراً عن مجرد احتقان اجتماعي، ولكنه شكل حالة سياسية ثورية كان لها تأثيرها البالغ، بعد ذلك، في إخراج الحياة السياسية من جمودها، وتحريك العوامل الثورية لتشتعل البلاد كلها بعد ذلك بثورة التغيير السلمية. أضحى "الوطن" على مرمى حجر. وبدا أن الفرصة التي تقدمها الحياة لليمن، بواسطة هذه المبادرة الثورية، في حاجة إلى حمايتها من الانزلاق مجدداً إلى أيدي المتنطعين، أيّاً كان منشؤهم أو انتماؤهم. فكل ما يمكن أن يستدل به على الخوف من الانزلاق بها مجدداً إلى أيديهم، هو أنهم كانوا دائما لا يقفون في الاتجاه المعاكس لمثل هذه الهبات، وإنما يسيرون بمحاذاة الفرصة ليتمكنوا من احتوائها، ويعيدوا بناءها لصالح مشروعهم المقاوم للتغيير. ومع كل فرصة مهدرة كانت قائمة هؤلاء تتسع، وتقل معها إمكانية إنتاج فرص أخرى.
في الزمن الأخير، لم يعد المشهد يتسع إلا لهؤلاء. ضاقوا بمن حولهم، ثم ضاقوا ببعضهم، ولم تعد "التورتة" قابلة للقسمة على هذا العدد المتزايد منهم، ومعهم الطابور الطويل من المحاسيب ممن ظلوا ينتظرون دورهم على المائدة. وكانت بداية النهاية لمرحلة، وبداية البداية لمرحلة جديدة، ومعها فرصة لا يجب أن تتعثر.
بهذا المعنى، كان لا بد أن تتعايش بدايتان، وبصورة جدلية: بداية النهاية لمرحلة، وبداية البداية لمرحلة أخرى؛ أي أن هذه البداية تتحقق في رحم نهاية مرحلة سابقة، مع كل ما يرتبه ذلك من تصادمات مسموح بها. فالتعايش هنا يجب ألا يعكس جموداً، وإنما حراكاً ديناميكياً ينتج البديل الذي يتوقف نجاحه على قدرته في توسيع مساحة هذا الحراك على الصعيدين السياسي والاجتماعي، دون الإخلال بشروط التسوية التي قامت على الالتزام بالتغيير السلمي عبر الحوار والتعايش والمشاركة الوطنية. كما أن هذه التصادمات لن يجري تكريسها، بصورة تحكمية، في نفس السياقات التي حكمت التحالفات السياسية للمرحلة السابقة؛ فهي ستأخذ مداها في الجانب الاجتماعي والثقافي والوطني وبناء الدولة والاقتصاد، وغيرها من شؤون الحياة المختلفة؛ أي أنها ستنشئ مساحة لتقاطعات أوسع، بل وستتجاوز رقعة التحالفات السياسية وعناصرها التي استقرت زمناً عند حالة بعينها، وهذا ما أثبته الحوار.
قال الحوار كلمته في أهم لحظة تاريخية من اللحظات الفارقة في حياة الشعوب المتطلعة إلى المستقبل، وأكد على أننا جميعا نريد أن نعبر المضيق إلى الضفة الأخرى، حيث ينتظرنا "وطن" مؤجل.
والسؤال: كيف سنمر؟ ومتى؟ وعلى أي "راحلة"؟ وما هي أدواتنا المكملة للحوار للمرور إلى المرحلة القادمة؟
لا يجب أن تكون هذه "الراحلة"، بكل تأكيد، هي قرار مجلس الأمن رقم (2140) لعام 2014. يجب أن نعفيه من هذه المهمة، حتى يأخذ قيمته من واقع ما يقرره اليمنيون من مسؤولية على عاتقهم تجاه بناء مستقبلهم. هذا على افتراض أن نخبه قد استوعبت الدرس، وأدركت أن القرار يلوح بإدانة تاريخية للفشل الذي منوا به في إدارة بلدهم. القرار لا يعفي أحداً من المسؤولية، على الرغم من أن قراءته على النحو الذي يعتبر فيه محفزا لأن يأخذ اليمنيون مسؤولية بناء بلدهم بجدية، لا تزال ممكنة.
منذ أن صدر قرار مجلس الأمن رقم (2140) بشأن معرقلي العملية السياسية في اليمن، واليمنيون عاكفون على تفسير هذا القرار، الذي بدا وكأنه جاء مفاجأة وبدون مقدمات، أو كأنَّ هناك من لقمه رصاصة الرحمة لتطلق على ما تبقى لدى أبنائه من رغبة في إنقاذ بلدهم، أو لتصيد ما فضل من سيادة لبلد لم تكن مشكلته في يوم من الأيام مع "السيادة" وإنما مع "سادة" النفوذ الذين عصروه ورهنوه وعجنوه وأكلوا زرعه قبل أوانه، في أكثر صور الاستعارة تعبيراً عن العجلة في تدمير الأشياء.
القرار لم يقُل بوضوح من هم المعرقلون؛ ولكنه أخضع الجميع للرقابة. هذا الإجراء بحد ذاته يحمل دلالة ذات مغزى كبير بشأن تقييم المجتمع الدولي للمنظومة السياسية اليمنية بأكملها. لم يشفع "نجاح" الحوار للمنظومة السياسية لدى المجتمع الدولي؛ فهو لا يزال يراها غير مؤهلة لتنفيذ المخرجات التي توافقت عليها. وهو بهذا لا يتجنى عليها، وفي ثقافتها ما يشي ببقاء الفجوة والجفوة بين القول والفعل قائمة على غير ما يعلمنا ديننا الحنيف، لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون، كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون".
كالعادة، سرعان ما يصطف اليمنيون إزاء حدث ما من داخل المواقع نفسها التي سبق أن رتبها الفرز السياسي كمنتج سابق لأسباب وأحداث أخرى، ولا يبذلون الجهد الكافي لدراسته على النحو الذي يمكن أن يوضع في إطاره الصحيح.
هذا القرار، الذي شكل حدثا استثنائيا، لم يكن معزولا عن تطورات الأحداث التي عاشها اليمن خلال السنوات الماضية. ومنذ أن بدأت مظاهر فشل الدولة تطوي تاريخاً من النضال السياسي والتضحيات ومحاولات التنمية والبناء، راحت تتلف كل آمال الشعب في الاستقرار والتقدم والعيش الكريم، وأخذت تلفت انتباه المجتمع الدولي وتثير انتباهه وتضعه أمام مسؤولية إنقاذ مبكرة، عبر عنها بوسائله التقليدية، حينما كان أنين المجتمع خافتاً، ولم يولد بعد التفاعلات الاجتماعية والحالة السياسية التي عبرت عنها الثورة الشعبية السلمية 20072011، فيما بعد. هذا التحول الذي حدث على الصعيد الشعبي كان لا بد أن يصاحبه تغيير مناسب في أشكال ووسائل التعبير الدولية تجاه ذلك الوضع المستجد بشكل عام.
الموقف الأممي تطور مع اشتداد الزخم الشعبي وظهور حالة ثورية من داخل ذلك الوسط الذي لم يكن أحد غيره قادراً على توليدها؛ وهو لم تكن له علاقة بالفرز السياسي الرأسي الذي شهدته البلاد قبل ظهور هذه الحالة الثورية، حتى يبدو وكأنه استجابة لحاجة سياسية يمثلها طرف بعينه كما يحدث مع بلدان أخرى.
كان اليمن سيشهد، في كل الأحوال، قراراً كهذا منذ أن بدأت مؤشرات فشل "الدولة" تأخذ مظاهرها على الأرض، في صور شتى من الضعف العام للنظام: حروب، عنف، صراعات مسلحة، إرهاب، اتساع رقعة الفقر، فساد متجذر في بنية سياسية هشة، تزايد البطالة بين الشباب، توقف برامج التنمية، بروز قضايا وطنية كبرى اتسعت معها الفجوات الاجتماعية...
ومنذ ذلك الوقت المبكر أخذ المجتمع الدولي ينظر إلى اليمن على أنه بلد أخذ يشكل خطراً على نفسه وعلى أمن الإقليم والمجتمع الدولي.
أياً كان الأمر، فإن هذا التقييم يُعد، عند كثير من المهتمين بشؤون اليمن، سبباً رئيسياً من بين الأسباب التي دفعت المجتمع الدولي لاتخاذ هذا القرار. وهنا يصبح للقرار وجه آخر يتعلق بالأمن العالمي، الذي لا يستطيع أحد أن يجادل فيه بالحيثيات نفسها، عندما يتعلق الأمر بمساعدة اليمن على مواجهة مصاعبه بصورة مجردة عن علاقة هذه المساعدة بالأمن الدولي.
ومن الطبيعي أن ينظر المجتمع الدولي إلى مساعدة اليمن، وإلى دعمه على هذا الصعيد، من زاوية صلتهما الوثيقة بهذا الموضوع. وهذا ما يجعل المسألة تبدو مترابطة العناصر ومتداخلة الأهداف: دولة ذات مؤسسات هشة، تتجه نحو الفشل وتهدد والأمن والاستقرار الدوليين. هذا السبب. أما النتيجة فستكون هي ما يتوجب على المؤسسة الدولية المكلفة بحماية المصالح الأممية عمله إزاء وضع كهذا. سيكون من البديهي أن تعمل على منع انهيار هذه الدولة، ومقاومة عوامل فشلها، لتتجنب ما يمكن أن يترتب على هذا الفشل من مخاطر على الصعيد الدولي، وهو ما عبر عنه القرار بوضوح. أما ما سيتم على الأرض فذلك ما يمكن أن نعتبره مثار جدل سنستعرض بعض جوانبه فيما بعد.
الذين أوصلوا بلدانهم إلى هذا الوضع، غالبا ما يرتفع صراخهم بالرفض، حرصاً على السيادة كما يزعمون. فهم لن يجدوا ما يدرؤون به الخطر القادم نحوهم سوى الحديث عن السيادة المنتهكة. والحقيقة أن السيادة لا تكون في مأمن في مثل هذه الأحوال، تماماً مثلما لم تكن أثناء حكمهم مصانة. علينا أن ننظر للمسألة من الزاوية التي كان عندها احتكار القرار السياسي من قبل هؤلاء الحكام الفاشلين سبباً رئيسياً في تخريب المقومات الرئيسية لهذه السيادة والتفريط، من ثم، بها باضطهاد شعوبهم، والاستعانة بالخارج في كل الأحوال لقمع إرادة هذه الشعوب. ولا يجهل أحد أن الثمن الذي يدفعه مثل هؤلاء الحكام، مقابل استمرارهم في الحكم، لم يكن غير هذه السيادة. لقد كانت السيادة ثمناً لاحتكار القرار السياسي، واغتصاب السلطة، واضطهاد الشعوب، وما يترتب على ذلك من تبعات تدور مع هذه الحلقة المفرغة، لينتهي الأمر إلى سحب القرار السياسي من أيديهم. فبأي وجه بعد هذا يتحدث هؤلاء السادة عن السيادة؟!
في هذا السياق يبرز سؤال ذو مغزى، وهو: هل من الممكن أن يصبح هذا القرار موضع استقطاب، أو احتواء سياسي مراوغ، يوسع الشرخ الاجتماعي والوطني، على النحو الذي يجعله أداة بيد طرف، أو أطراف بعينها، لمواجهة طرف، أو أطراف أخرى، في عملية إعادة إنتاج الصراع التي انتهت إلى ذلك التوافق الوطني عبر العملية السياسية؟ بمعنى: هل من الممكن أن تنشأ ظروف تجعل القرار محط صراع بين أطراف المعادلة السياسية بهدف تحويله إلى أداة بيد طرف أو تحالف أطراف لقمع الأطراف الأخرى؟
أسأل هذا السؤال وأنا ما زلت متمسكا بأن العملية السياسية كان هدفها في الأساس هو التغيير الذي استهدفته ثورة التغيير السلمية، وذلك بغض النظر عن الآفاق الاجتماعية والمضامين الفلسفية التي حملتها الأطراف الثورية كعناصر مرجحة لنضالها عند التحامها معا في المجرى العام للحركة الثورية.
كان هذا هو الهدف؛ لكن الحياة، ربما، لم تكن منصفة مرة أخرى، عندما يتعلق الأمر بالحامل السياسي الذي تولى إنجاز المهمة! والحامل السياسي ليس فرداً، أو مجموعة أفراد؛ ولكنه مجموعة القوى التي تولت أمر إنتاجه في لحظة تاريخية كانت حبلى بتناقضات مذهلة، ولم تكن سهلة، ولا ممكنة الاجتياز، إلا بتوافقات مضنية. كان هذا العنصر الموضوعي؛ أما الذاتي فكان قد تمثل في الوضع الخاص لهذه القوى، سواء في صيغة بُناها التنظيمية والسياسية والفكرية، وقدراتها النضالية، وكذا مخزونها من التجارب الكفاحية على هذا الطريق، أو في علاقتها بعضها ببعض، ومدى استعداد هذه العلاقة لتوفير شروط إنجاح هذا التوافق.
ومع ذلك، وحتى بعد أن تكبد الحوار خسارة معنوية في مجمل مساراته الناجحة، وذلك بالتدخل، الذي مرر، بأدوات سلطوية، لصالح بعض الأطراف السياسية، في أهم حلقة من حلقاته، والخاص بالقضية الجنوبية وشكل الدولة؛ فإنني أعتقد أنه لا يزال هناك عنصر موضوعي أفرزته هذه التغيرات، سيرفد هذه العملية بقدر كبير من الثبات، عندما يتعلق الأمر بتوظيف العوامل الداعمة لنجاحها، وسيهيئ في نهاية المطاف الشروط لتصحيح الخلل. وأقول "تصحيح الخلل" كضرورة لفتح الباب أمام هذه العوامل الإيجابية الداعمة لنجاح هذه العملية التاريخية؛ ما لم فإن الذي سيملأ مساحة الفعل هي العوامل السلبية التي تتربص بها من كل جانب.
البيئة السياسية الجديدة
يتمثل هذا العنصر الموضوعي في البيئة السياسية الجديدة، التي شهدت تفكيك مراكز القوى، وإنتاج آليات متنافرة لعملها (أي هذه القوى) جعلتها تتربص ببعضها إلى درجة فقدت معها تأثيرها القديم على الأحداث. وأخذ هذا العنصر الجديد يشكل رقابة شديدة الحساسية على أي ميول أو نزعات من شأنها أن تقود هذه العملية إلى مجرى مختلف، أو أن توظف هذا القرار خارج أهدافه؛ إلا إذا قرر المجتمع الدولي بنفسه السير في هذا المجرى، لأي سبب من الأسباب، أو قرر أن يغض الطرف عمن يدفع إلى السير فيه.
ولا بد من التأكيد هنا على أن القوى التي ستفكر بالسير في هذا المنحى، ولو حتى برضى المجتمع الدولي، أو أطراف فيه، ستكون من الناحية العملية قد قررت أن تفتح طريق العودة بالبلاد إلى مربع الصراع.
إعادة إنتاج الصراع اليوم ستكون عملية أكثر تعقيداً، وستأخذ، من وجهة نظري، مساراً مغايراً، وستمتد إلى داخل شروخ التجربة القصيرة في السلطة، التي حكمت حسابات الأطراف السياسية المختلفة، بما فيها تلك التي تحالفت لتغيير نظام "صالح". ولذلك يجب أن يكون الرهان الأول على إنجاح عملية التغيير، وليس على إزاحة طرف، أو أطراف، من العملية السياسية، توطئة لاحتكار القرار السياسي والسلطة. ويكون الرهان الثاني على حل القضايا الكبرى العالقة، حلا ينتج شروط السير إلى الأمام، وليس على المراوغة والتحليق حولها.
إن أهم شيء في هذه العملية كلها هو ألا يؤدي القرار الأممي (2140) إلى إنتاج آليات عمل تقود إلى تركيز النفوذ بيد أي طرف، تحت أي عنوان من العناوين، وتحت أي سبب من الأسباب. المطلوب هو دعم وتشجيع القرار السياسي المستند إلى شراكة وطنية فاعلة ومسؤولة، والموصول بالإرادة الشعبية، من خلال تنمية قدرات المشاركة لدى القوى السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني والشباب والمرأة وكافة فعاليات المجتمع.
حالة التخبط التي ظهرت عليها القوى السياسية ومكونات المجتمع ونخبه المختلفة، تجاه المسار السياسي، بعد صدور هذا القرار الهام، من الضروري أن تتوقف، ومعها لا بد من مغادرة ما يمكن أن يطلق عليه "الموديل" اليمني المعروف في التعاطي مع الأحداث الجادة، من خلال الاحتواء المراوغ للحدث. هذا الاحتواء المراوغ لا يقوم بأكثر من إعادة بناء هذه الأحداث كحالة ذهنية مجردة عن حراك الواقع، لدى الأطراف المختلفة، والتي تقوم بعدئذ بتسويقها في الوعي الاجتماعي من منظورها السياسي والأيديولوجي وبدوافعها الخاصة.
والمعروف أن هذه الحالة الذهنية المجردة لا تغير من تأثير الحدث، فهو يأخذ مساره في الواقع المادي وينتج تأثيراته ومعادلاته، وغالبا ما يكون أكثر قدرة على المراوغة هو الآخر بتشكيل دفاعاته وأدواته، ولا يقيم لحالة الاحتواء وتجلياتها الذهنية تلك أي قيمة. هي حالة من تشكل الوعي الزائف، ثم لا يلبث المجتمع أن يشهد أكواما من المشكلات والمتغيرات التي تواصل حصاره في كماشة التخلف؛ وكل ما تفعله هذه القوى والنخب هو أنها تنسب هذه النتيجة دائما للآخر المجهول، متخطية خيبتها في التعاطي مع الأحداث كما أفرزتها معطيات الواقع.
حكم الاستبداد، في مساره التاريخي، وفي علاقته بالتشكل المشوه والمتصادم للمصالح الاجتماعية لمختلف القوى والطبقات والمكونات الاجتماعية، ليس حالة ذهنية. والثورة، بما أنتجته من معطيات وشروط للتغيير، وما رافقها من اختراقات، ليست حالة ذهنية. والعملية السياسية، بما أفضت إليه من عقد اجتماعي توافقي لبناء دولة اتحادية ديمقراطية حديثة ونظام سياسي واجتماعي مختلف عن سابقه، ليست حالة ذهنية؛ وإن كانت هذه الحالة الذهنية قد برز بعض تجلياتها في آخر مراحل مؤتمر الحوار، وذلك بالاستعانة بشيء من مخزون قيم النظام السياسي السابق من قبل البعض، وذلك عملا بالقاعدة الفقهية للمرجئة "لا تضر مع الإيمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة"... وأخيراً قرار مجلس الأمن، بما توخاه من أهداف ومقاصد وما تنتصب أمام لجنة العقوبات من مهام، ليس حالة ذهنية.
الحالة الذهنية الوحيدة التي تمارسها هذه الأطراف، بعد كل هذا الذي جرى، ومن مواقعها المختلفة، هي الحلم بالعودة إلى السلطة؛ للانتقام عند البعض، ومحاولات حشد المزيد من العوامل لإقصاء الآخرين، واحتكار السلطة والتفرد بالقرار، عند البعض الآخر.
هل ستستطيع هذه الحالة الذهنية أن تغير مجرى هذا العملية التاريخية، بأن تحتوي في إطارها كل العمليات الموضوعية التي ترتبط بها أو تشتق منها؟
لا بد من ملاحظة أنه، كانعكاس لهذه الحالة الذهنية، جرى، منذ نهاية مؤتمر الحوار، الاستعانة بقيم وأدوات النظام القديم لفرض ترتيبات تكوين الدولة الجديدة واحتكارها، بالتعيينات التي رتبت وضعاً إقصائيا مختلا لكثير من القوى، وهو الآمر الذي فتح باباً لصراعات جديدة، كالتي نراها على أكثر من صعيد وعلى أكثر من وجه. فانطبق على هذا الوضع قول البردوني:
دخلتْ صنعاء بابا ثالثا
ليتها تدري إلى أين افتتح!
هل سيستطيع قرار مجلس الأمن أن يغلق هذا الباب الثالث إذا لم يعالج أسبابه الحقيقية؟
تكديس السلاح على مدى عقود من الزمن بيد هذه القوى يثير أكثر من سؤال حول قبولها بمعادلة توافقية لبناء دولة مدنية تتقرر فيها مكانتها بانتخابات عادلة ونزيهة؛ انتخابات يسبقها بناء مؤسسات دولة ضامنة تستلم هذا السلاح، وتعيد صياغة السلوك الاجتماعي للنفوذ القديم في إطار قانوني يحمي المجتمع، بمن فيه أصحاب هذا النفوذ، ويحمي الدولة ومؤسساتها، ويصون الحياة السياسية من أي اختراقات خارجية.
إن المشهد الذي شكل حالة توسط مربكة بين الثورة السلمية والانزلاق إلى الحرب الأهلية لن يغيب عن البال؛ فهذا المشهد هو نفسه الذي يتكرر، وبصورة أوضح على الأرض، كمشكلة أمام عملية التغيير التي يراد لها أن تتم بواسطة العملية السياسية. إن القوى التي تنام على ترسانة هذا السلاح، هي نفس القوى التي ظلت تثير الحروب العبثية على نطاق واسع، وتورط الدولة فيها بهدف إضعافها و"تفيُّد" سلاحها، في نهاية المطاف، ليتحول إلى مصدر قوة لها. فكم هي الحروب التي أُشعلت، وزُجَّ بالدولة في أتونها للحصول على السلاح والمال والقوة! واستطاعت هذه القوى أن تزرع وكلاءها في جسم النظام للقيام بالمهمة في الوقت المناسب لتغدو الدولة مجرد مخزن لتسليحها في الوقت الذي يقرره وكلاؤها.
قصة السلاح في اليمن فيها الكثير مما يمكن أن يعتبر صورة لتفريط النخبة الحاكمة بقوة ومكانة وهيبة الدولة لصالح هذه القوى، التي تشابكت معها عند مفاصل عديدة، حتى أن السلاح، الذي حصلت عليه من الدولة، كان بالمستوى نفسه الذي لدى الجيش، في أحيان كثيرة، وخاصة الأسلحة التي تشكل العنصر الأساسي في الحروب الداخلية. كانت السلطة الحاكمة ترى في مؤسسات الدولة القوية خطراً عليها، بل ظلت تراها أكثر خطورة من هذه القوى، التي غالباً ما استطاعت السلطة أن توظف صراعاتها وحروبها لتهرب من استحقاقات بناء الدولة، وإنجاز مهمات الإصلاح السياسي والبناء الاقتصادي والاجتماعي.
ذيول هذه القضية، وما رتبته من حقائق على الأرض، ستظل عائقاً أساسياً أمام نجاح هذا البلد في مغادرة الحلقة المفرغة للتخلف في صورته المركبة. ولا يبدو أن هناك من يضع هذه المسألة الهامة في إطارها الصحيح حتى الآن. هذه المسألة لم تعد تقبل أي مناورات أو مساومات من ذلك النوع الذي ينتهي بتسوية خاصة بين هذه القوى، وتكون التسوية على حساب الدولة. فالسلاح واحتكاره من قبل الدولة قضية جوهرية، لا يمكن أن تترك لتقديرات مغايرة لحقيقة أنه بوضعه المنفلت ظل يشكل مصدراً لكل المصاعب التي واجهت اليمن في كل محاولاته للتحول إلى وطن، بما في ذلك محولات تعطيل العملية السياسية والحوار مؤخراً. كان السلاح المنفلت هو القاسم المشترك لكل تلك الصعوبات ومحاولات التعطيل، وكانت حيازته، بتلك الصورة، تعكس خللا جوهرياً في مفهوم الدولة، حيث أخذت تتناسل من هذا المفهوم أنساق من السلوك الاجتماعي المعبر عن الفوضى، وعدم الانضباط، والتطاول على القانون، والجرأة على إفساد كل محاولة لبناء دولة النظام والقانون.
كثير من هذه الأمراض انتقلت إلى مجرى عملية التغيير التي تجسدت في الحوار الوطني الشامل؛ الاغتيالات والحروب وإثارة الفوضى والانسحابات وتعليق المشاركات في الحوار، والاستخفاف بالنظام الداخلي لمؤتمر الحوار، ومراوغات وضغوط القوى التي أجادت الانقسام في لحظات الضرورة -كما تفعل الرخويات ذات الخلية الواحدة- لتوزيع الأدوار بين من يرفضون لتحسين شروط من يوافقون، والحملات الإعلامية المضللة لإضعاف قيمة الحوار في الوعي الشعبي، وكذا التحريض واستعراض القوة والتحالفات التكتيكية، والضخ الإعلامي المضلل للحقائق، والإشاعات وحملات تشويه الآخر، واختلاق الأكاذيب للتكفير والتحريض على القتل... كلها تداعيات، مباشرة وغير مباشرة، لما استقر في أعماق هذه القوى من اعتقاد بأنها وحدها من يجب أن يقرر مسار هذا البلد وإلى أين يتجه.
هذه الظواهر وتداعياتها شكلت بيئة محبطة للروح التوافقية، جعلت العملية السياسية مضغوطة بكماشة تلك القوى التي تسعى إلى احتكار القرار، وتقدم نفسها على أنها الوحيدة القادرة على مواجهة هذه الفوضى الضاربة أطنابها في الأرض، وحاجتها إلى عين حمراء من طراز لا يتوفر إلا عندها. هي التي تثير هذه الفوضى، وتقدم نفسها في الوقت ذاته على أنها هي الحل. لم تكن تستهدف غير تفويت الفرصة على مؤتمر الحوار لتحقيق أهدافه التاريخية. ومن الطبيعي ألا يتوقف دورها هذا في المحطة التي انتهى عندها مؤتمر الحوار، وهذا ما شهدناه في أكثر من واقعة وأكثر من حدث؛ فقد باتت تتناوب خلق الذرائع فيما بينها لمواصلة إغراق البلاد في الفوضى والعنف والحروب، لاستعادة أوراق اللعبة إلى بين يديها، ويسلم الجميع بألا حل إلا بتوافق هذه القوى بالعودة إلى الطاولة لاقتسام الكعكة. فهل من الممكن أن يقبل الشعب، وقواه المدنية الحية، العودة بالبلد إلى أحضان هذا الضلال القديم؟ .
الحلقة الثانية :
اليمن داخل المضيق
يثار، قبل هذا، سؤال حول الموقع الذي توقف فيه اليمن منذ بداية العملية السياسية، وما إذا كان الحوار قد استطاع أن يشكل رافعة إنقاذ لعبور المضيق.
في الحقيقة، إن موقع اليمن في الوقت الحاضر هو داخل المضيق، وهو وضع يعد أكثر تعقيداً وخطورة مما كان عليه وهو خارجه قبل أن يبدأ بالعبور. لم يعد لديه من خيار سوى أن يعبر المضيق إلى الضفة الأخرى منه، أما البقاء فيه فلن يكون غير قرار انتحاري، أخذت مظاهره تتبلور في صور شتى من العودة إلى تمجيد حالة الترهل العامة التي تنتجها الحروب الداخلية والتي تشكل البيئة المناسبة لهذه الحالة. والمفارقة أن العنف لا ينتج، في نهاية المطاف، غير الرخاوة والترهل. وحالة العنف والحروب، على ما تظهره من شدة وجبروت للمجتمعات التي تغرق فيها، إلا أن هذا لا يعدو أن يكون غير مظهر مزيف للحقيقة. فلم تكن مظاهر هذا العنف، ومنها تلك الحروب، في يوم من الأيام، سوى وسيلة لهروب هذه المجتمعات ونخبها، وأنظمتها الفاشلة، من مواجهة التحديات الضخمة لعملية الانتقال بالبلاد إلى الحالة التي تستقر عندها "كوطن"، ومعه تحقيق النهوض الاقتصادي والعلمي الشامل، باعتبار ذلك اختباراً حقيقياً لإرادة الشعوب وقدرتها على البقاء في عالم يدهس في طريقه المتخاذلين والفاشلين.
لا تحتاج الأنظمة المستبدة إلى دليل على فشلها أكثر من تلك الحقيقة التي تقول إنها أعاقت تحويل بلدانها إلى "أوطان"، وحافظت على البنى الاجتماعية والثقافية ما قبل الدولة، واستعانت بها في تعطيل مشروع الدولة، وتخريب كل التراكمات التي تنشأ مع التطور الكمي البطيء الذي يحدث في هذه المجتمعات كضرورة للبقاء ولاستمرار الحياة. الأنظمة المستبدة لا توفر الظروف المناسبة لخلق بيئة تساعد على التراكم طويل المدى؛ لأن الحاكم هنا لا يحسب إلا حساب فترة بقائه في الحكم، وهي لذلك تعطل أهم شروط التطور لمجتمعاتها. فبغياب التراكم الكمي لا تنشأ أي إمكانية لتحولات نوعية معرفية، علمية، تكنولوجية، فنون – من أي صورة كانت. وهكذا فإنه بالقدر الذي تستخف فيه هذه الأنظمة بعملية التطور وشروطها، فإنها تستخف ببناء الدولة. ولهذا نجد أن مصير الأنظمة المستبدة لا يختلف عن مصير دولها التي يتم الاستخفاف بها في تساوق مع طبيعة السلطة التي لا تدير الدولة وإنما تحل محلها. فعندما تنتهي الدولة إلى الفشل والانهيار، تكون الأنظمة التي أوصلتها إلى هذا الوضع -مع أدواتها التسلطية- أول من يتعرض للنتائج المأساوية لهذا الفشل.
إن المجتمع الذي يغرق في إنتاج وإعادة إنتاج العنف والحروب يعيش حالة من الرخاوة الداخلية. وتعبر عن هذه الرخاوة نخبه التي تفشل في خلق منظومة سياسية تتصدى لعملية التحول السياسي لهذه المجتمعات، على قاعدة مؤسسية مدنية شاملة. نراها تعمل، عوضاً عن ذلك، على إغراق المجتمع في العنف، وإنتاج العصبيات، على حساب الفعاليات المدنية، لتغطية هذا الفشل، وعجزها عن تحمل استحقاقات التحول السياسي. فإذا رأيت بلداً يغرق في الحروب فاعرف أن وراء ذلك نظاماً سياسياً واجتماعياً فاشلاً بسلطته وبنخبه، يغطي فشله بتنمية نزعات الحروب الداخلية، وطبيعة هذه الحروب تفضي، في كل الأحيان، إلى نشوء معادلات اجتماعية وسياسية ذات أبعاد عصبوية، تتناقض موضوعيا مع شروط الدولة المدنية؛ أي دولة المواطنة.
وعندما تقود عمليةَ التغيير سلطةٌ تتكون في جزء كبير منها من هذه العصبيات، أو تحت تأثير ثقافتها، فلا بد أن البقاء في المضيق سيطول، وسيحتاج إلى إرادة خارقة، وإلى وقت تحشد فيه قوى التغيير المدنية كامل طاقاتها وقوتها لمغادرته. إذاً، البقاء في المضيق، في ظل هذه الحالة، وبسبب طبيعة هذه القوى، سيؤدي إلى المزيد من تآكل البلاد، بكل فعالياتها السياسية والاقتصادية والبشرية والأمنية. لم يسجل التاريخ أي نهوض لأي بلد من البلدان في ظل هيمنة ونفوذ هذه العصبيات؛ فهي تتشبث بنفوذها ومصالحها التقليدية، وتجر معها بلدانها إلى القاع.
أما العودة إلى الخلف للخروج من المضيق، فمن المفروض أن القرار (2140) قد أغلق باب هذه العودة؛ ولكن هل سيقتصر أثره على إغلاق باب العودة إلى الوراء؟ أم أنه سيساعد على توليد قوة الدفع للخروج من المضيق إلى الإمام، حيث تنفتح أمام اليمن آفاق النهوض والتطور محمولا بقواه المدنية؟ الحقيقة أنه لا معنى للقرار الأممي إذا اقتصر أثره على إبقاء اليمن في المضيق بمنع العودة إلى الوراء؛ لأنه في هذه الحالة لن يعمل أكثر من تأبيد بقائه في وضع التآكل.
كان اليمن قد غادر، بفعل الثورة، موقعه القديم الذي تجمد فيه، وأخذ يتآكل بمعدلات أخذت تتزايد طردياً مع مرور الزمن، وتحرك، على عجل، نحو المضيق، الذي كان لا بد أن يعبر من خلاله إلى الطرف الآخر نحو أن يصبح وطناً. غير أنه توقف في المضيق، بعد أن تفاعلت العوامل المعيقة لعبوره محاصرة إياه داخل المضيق. وفيه لم يعد أمامه من خيار سوى الخروج منه، أو الموت فيه. من هذه الحقيقة يتجلى دور هذا القرار ومدى قوته في مساعدة اليمن على توفير الراحلة القادرة على حمله قدماً في مساره نحو النور. لا أقول أن يتحول هو، أي القرار، إلى راحلة؛ لأنه بكل تأكيد لن يستطيع أن يكون كذلك، بل ولا يجب أن يكون كذلك.
القرار بين الأمس واليوم:
أسئلة لا تنتهي
عندما تكون هناك إمكانية للسير إلى الأمام، يصبح الإصرار على البقاء في المكان نفسه ضرباً من التلهي بقيم الحياة. هكذا يبدو العبث.. هو اللون الفاقع لهذا التلهي المخادع، الذي يسرق السنين ويولم للنهايات المثيرة، في المكان نفسه، على صوت المزامير، وقرعات الطبول، وأقواس النصر، وقهقهة المخدوعين، وأراجيف المتربصين. وضعت الثورة اليمن على مسار جديد، يفتح أمامه خطاً طويلا للحركة إلى الأمام. هذا الخط ليس مستقيماً، ولا معبداً، بكل تأكيد؛ لكن فيه قدر من الوضوح يكفي لبدء مشوار السير الطويل. أضاء الحوار مساحة لا بأس بها من خط السير إلى الأمام، والسؤال: لماذا تعثر السير في ضوء ذلك؟ هل كان اليمنيون ينتظرون صفارة الانطلاق من مكان آخر؟ وهل اعتبر قرار مجلس الأمن هو صفارة الانطلاق؟
تثار أسئلة عديدة حول أسباب اتخاذ القرار الأممي اليوم، وقد أنجز اليمنيون الحوار، وأصبحت المرحلة الانتقالية على وشك الانتهاء، وليس بالأمس، عندما كانت المتاريس تملأ شوارع المدن، وكانت البلاد حبلى بحرب طاحنة، ومخاضها يعتصر جوف البلاد من أقصاه إلى أقصاه، وكل شيء فيه ينذر بالكارثة.
وقبل كل ذلك، كانت هناك ثورة سلمية تصارع محاولات إخراجها من المشهد العام بالتركيز، بدلا عنها، على الأسلحة المشرعة في المواجهة، وعلى المعارك العسكرية المندلعة هنا وهناك. ثورة كانت تقاوم محاولات ابتلاعها من قبل ذلك الطفح الهائل، الذي تدفق عليها بمضامين غير ثورية، ليصبغ عليها لوناً مختلفاً وأهدافاً جرى اشتقاقها من كهوف لم تشعل ثورات، وعلى مدى تاريخها كانت كل خبراتها تكمن في ابتلاع الثورات. ثورة استهلكتها زعامات "مقرطسة" في تطلعات تختزل المسافات إلى الشهرة، وتسبق النضال الحقيقي إلى القيادة، وغارقة في ظلمات من الخوف والحذر من الآخر، الذي لا تراه إلا خصما يجب أن يطيع أو يستبعد... أو يموت.
ثم، لماذا اليوم وليس بالأمس، عندما كانت العملية الانتقالية في حاجة إلى حماية ورعاية حقيقيتين لتتمكن من إنجاز مهامها، وكانت إشكالية عدم نقل السلطة تثير أكثر من سؤال حول المستقبل السياسي للبلاد وما يكتنفه من غموض بسبب ما كان يهدد المرحلة الانتقالية من مخاطر؟ كثيراً ما توقف اليمنيون أمام موضوع عدم نقل السلطة، وصلته بتأجيج الاضطرابات، وأعمال العنف، وحروب كسر العظم بعناوينها المختلفة، التي تثير الفزع مما تخلقه في النفوس من نزعات يصعب ترويضها على قبول الحقيقة المتمثلة في حاجة البلاد إلى التعايش والسلام والشراكة في بنائه.
تساءلوا عن موقف المجتمع الدولي، ورعاة المبادرة، من أعمال العنف التي اتسعت على نطاق واسع، وتفجيرات أنبوب النفط، وتدمير أبراج الكهرباء، ونزع الألياف الضوئية، وتفجير المعسكرات، والاغتيالات، والاختلالات الاقتصادية والمعيشية، التي عانى منها الشعب على ذلك النحو الذي أخذ يهدد العملية السياسية والحوار، ويدخل البلاد في دوامة المواجهة والانزلاق نحو الحرب الأهلية مجدداً.
تحدثوا عن الدعم المطلق للرئيس التوافقي هادي، وكان هذا موقفاً لا غبار عليه؛ ولكن عندما قلنا للمجتمع الدولي إن الرئيس هادي هو المرجعية الوحيدة التي نثق بقدرتها ونزاهتها في أن تخبركم عمن يقوم بهذه الأعمال التخريبية، التي تعرقل العملية الانتقالية، لم يصغِ أحد إلى ذلك؛ لماذا؟! وأخذت أعمال التخريب تتسع. لربما فهم المخربون هذا الصمت أن هناك إشارة من مكان ما بوضع هذا التخريب في إطار ما يعرف ب "الفوضى الخلاقة". ولا ندري ما هو "الخلق" في تفجيرات أنبوب النفط وأبراج الكهرباء، وفي الاغتيالات، وغيرها من الأعمال، التي شهدتها البلاد في تلك الفترة.
لم يجد اليمنيون تفسيراً واضحاً لتأجيل القرار إلى الآن، غير واحد من ثلاثة تفسيرات:
1- إما أن المجتمع الدولي كان يرى أن اليمنيين قادرون على تنفيذ اتفاقهم السياسي الذي رسم ملامح المرحلة الانتقالية وأهدافها، ومن ثمَّ خوض معركة نجاح هذه المرحلة، بكل ما فيها من تعقيدات، بدعم أقل من المجتمع الدولي، وبالتالي لم يكن مجلس الأمن في عجلة من أمره لاتخاذ مثل هذا القرار الذي من شأنه في حالة اتخاذه بدون مبررات قوية أن يلقي بظلال من الشك على دول الإقليم التي ستنظر للقرار بتوجس كبير، خاصة إذا لم يكن مدعوما بأسباب قوية؛ أو:
2- أن المجتمع الدولي قد تصرف بقدر من التروي تجاه العملية السياسية اليمنية، والحوار على وجه الخصوص، ورأى أن يترك لها حرية السير إلى النهاية التي يقررها اليمنيون، مع ذلك القدر من الرعاية الأممية، التي شملتها قرارات مجلس الأمن، وخاصة القرار رقم (2051)؛ أو:
3- أن المجتمع الدولي كان يرقب الحراك السياسي وقد قرر ألا تؤدي العملية السياسية، واتفاقات التسوية، إلى انتصار طرف على آخر، لاسيما وأنه لم يكن يثق كثيراً في المعارضة، الممثلة في اللقاء المشترك، أحد طرفي اتفاق التسوية السياسية، بأن تنفرد بالحكم، مثلما لم يعد يرى أن المؤتمر الشعبي، الطرف الثاني، مؤهل لمواصلة الحكم وقيادة البلاد، ومن هذا المنطلق أخذ على عاتقه أن يرعى التسوية، مع ما يصاحبها من تخريب وعنف وفوضى، وألا يتدخل في تلك المرحلة بعصا غليظة حتى لا يؤثر على ميزان التسوية.
سأرد على ذلك من خلال ما عشته من وقائع، وبالاستناد إلى وجهة نظر لا ترى المجتمع الدولي شراً يجوس خلال ديارنا يتصيد الأخطاء ليؤدب اليمنيين ويتقصد الانتقاص من سيادتهم، ولا تراه خيراً كله، وخصوصاً عندما تستعيد الحرب الباردة القديمة بعضا من أسبابها المسترخية تحت أكوام من المصالح الحيوية للدول الكبيرة التي رتبتها سنوات الاستقطاب الطويلة، وكذلك حينما تصطدم قشرة الاستقرار الهشة الطافية فوق ركام من مخلفات الصراع بموضوع الأحادية أو التعددية القطبية؛ وإنما تنظر إليه من الزاوية التي تبرز فيها الحاجة إلى السلام والاستقرار والتعايش والعمل المشترك للأمم في تعمير الأرض وحمايتها من أي مخاطر، كأهم وظائفه؛ هذه الحاجة التي شكلها التوافق العالمي بعد حروب كونية تعرض فيها العالم للدمار، مما دفع بتنظيم هذا الجهد على نحو مؤسسي يرعى ويحمي المصالح الدولية، بما فيها مصالح الشعوب، وقيم العيش المشترك.
كان المجتمع الدولي شريكاً فعالاً في احتواء الأوضاع الخطيرة التي مر بها اليمن. ولسنا بحاجة هنا لاستعراض تجربة تلك الشراكة بتفاصيلها؛ فقد رسم القراران (2014) و(2051) الملامح الأساسية لهذه الشراكة. وفي محتويات هذين القرارين تأسست الخطوط العريضة لمعطيات هذا القرار الأخير رقم (2140) وحيثياته. لهذا يمكن القول بأن المجتمع الدولي لم يكن، وعلى مدى استمرار هذه الأوضاع، في مواجهة مع اليمن ليفسر القرار وكأنه يستهدف سلامته وسيادته، فالذي كان في مواجهة مع اليمن واستقراره هي تلك القوى والعصبيات الداخلية التي عطلت تقدمه وبناءه واستقراره، وما زالت، مع ما جرته معها من الغثاء الذي أنتجته المرحلة الانتقالية، تعطل مسارات عملية التغيير، وهي نفسها القوى والغثاء، التي يفترض أن يكون القرار قد استهدفها.
يمكن القول، ربما من باب الإنصاف، بأن المجتمع الدولي عندما تعامل مع قضية اليمن عمل كمجموعة متجانسة، لم تكدرها تناقضات المصالح الحيوية التي برزت تجاه أكثر من حالة من حالات الربيع العربي، وهو ما جعل الاحتمالات الثلاثة تبدو متداخلة العناصر، ولا يمكن فرزها، عندما يتعلق الأمر بتحديد السبب الأساسي لتأجيل القرار حتى نهاية الحوار. فالسبب هو خليط من هذه وتلك، وهو محصلة تفاعل كل هذه الاحتمالات الثلاثة التي شرحناها أعلاه.
وهكذا، ومع عدم إغفال الأهمية القصوى للعاملين الآخرين، وخاصة العامل الثالث والأخير، أي ذلك المتعلق بميزان التسوية، ففي رأيي أن المجتمع الدولي نظر إلى المسألة من الزاوية التي رأى من خلالها أن الحوار يجب أن يظل تعبيراً عن إرادة يمنية، وأن اتخاذ أي قرار بهذا المستوى قبل انتهاء الحوار من شأنه أن يضع مخرجات الحوار في خانة الإملاء الخارجي، مما من شأنه أن يهدد سلامة الخيارات السياسية في نظر الناس ويضعها على المحك. وبعد أن تحققت إرادة اليمنيين بالاتفاق والتوافق على وثيقة الحوار، فيما عدا ذلك الجزء الذي جسد حالة من الانقلاب على هذا التوافق وشوه جانبا من هذه العملية التاريخية وكسرها في أهم مفاصلها (القضية الجنوبية)، جاء دور المجتمع الدولي لدعم هذا التوافق فيما ينتظره من تعقيدات وصعوبات التنفيذ.
على هذا النحو بدا الأمر، أو على أقل تقدير، هكذا يمكن أن يفسر؛ لأنه لا يمكن تفسير تأجيل القرار بأي شيء آخر غير هذه الاحتمالات؛ فالأوضاع التي استدعت اتخاذه لم تتغير كثيراً، بل إن شروط اتخاذه تقلصت، بعد انتهاء الحوار، حتى أن الجميع كان يتوقع أن ينشغل المجتمع الدولي بقضايا أكثر أهمية من اليمن، وأنه كان ينتظر انتهاء الحوار ليعلن انتهاء المهمة في اليمن. ينسى البعض ممن ينتقدون القرار أن الكثير منهم كان يضع يده على قلبه خوفاً من أن يتخلى المجتمع الدولي عن اهتمامه باليمن، وكان هذا سؤالاً مثاراً من قبل الجميع، وهو: ما الذي سيكون عليه الوضع لو أن المجتمع الدولي تخلى عن اليمن فجأة، كما حدث في الصومال، وتركها تحت رحمة المليشيات المسلحة للقوى المختلفة التي تنتظر بفارغ الصبر اللحظة التي يغادر فيها المجتمع الدولي اليمن وهو بلا دولة تحميه من مشروع العنف الذي يلفه طولا وعرضاً؟
يدرك الجميع أن الاتفاق على الورق لا يشكل مشكلة كبيرة في معظم الأوقات، وخاصة في اليمن، الذي جرب ذلك كثيراً (وثيقة العهد والاتفاق نموذجاً)، وإنما تنشأ المشكلات الفعلية عندما يبدأ تطبيق هذه الاتفاقات على الأرض، بما يحدثه التطبيق من تأثير على المصالح ومراكز النفوذ.
فالمقدمات التي برزت مع قرب نهاية الحوار جسدت في الواقع نماذج لصور المقاومة العملية التي كان يُتوقع أن تواجه التطبيق. غير أن أخطر ما في العملية هو أن الاستخفاف، الذي عومل به النظام الداخلي لمؤتمر الحوار، وخاصة في المراحل الأخيرة منه، وإحلال القرارات الإدارية بدلا عنه، قد فتح الباب أمام مزيد من صعوبات التنفيذ. وفي مثل هذه الظروف يجد المعرقلون فرصتهم الذهبية، حيث يجدون في مثل هذا الخلل فرصة لسحب العملية إلى مسار مختلف عن مسارها، لاسيما عندما لا يكون هذا الخلل مجرد خلل تنظيمي، وإنما تقف وراءه إرادة من ذلك النوع الذي ينزع إلى تمرير مشاريع بعينها.
وكان لا بد للمجتمع الدولي أن يحسب حساب استعراض مظاهر التعطيل التي برزت في نهاية مؤتمر الحوار، من قبل بعض الأطراف، وما أشيع من فوضى واحتمالات فض الحوار، وما تم من اغتيالات، وإعلان العديد من التحديات الرافضة لمخرجات المؤتمر، والتهيئة للبدء بفوضى عامة. ومن هذا المنطلق كان عليه أن يضطلع بدوره الذي كان قد مهد له في قرارات سابقة لحماية العملية السياسية من الانهيار.
غير أن ما يجب أن نلفت انتباهه إليه، كمهمة غاية في التأثير على سير العملية السياسية مستقبلاً، هو تصحيح ذلك التشوه الذي ألحق بالحوار، والمتمثل في فرض خيارات إدارية بأدوات سلطوية بعيداً عن معادلات الحوار، وهو لن يستطيع تجاوزها أو تجاهلها عندما سيتعين عليه أن يفصل في بعض مواضيع العرقلة.
إن أخطر ما يواجه الحوارات السياسية هي النزعة الإرادوية التي تقف وراءها سلطة، أو نفوذ من أي نوع، والتي تنقضُّ، في لحظة ما، ولأسباب يقدرها أصحابها، على مجرى الحوار، لتشكل نهاياته على النحو الذي يضع الحوار كله في خانة المساءلة التاريخية.
لا يهم إن كان الهدف من التدخل نبيلاً أو غير نبيل؛ المهم هو أن الحوار الذي يضعف أمام هذه النزعة الإرادوية، في أي مرحلة من مراحل الحوار، وعند مناقشة أي قضية من القضايا، من السهل تهشيم قيمته، ما بالنا والتدخل الإرادوي جاء في أهم لحظة، وعند أهم قضية مفصلية من قضايا الحوار، ولأسباب تتصل برغبات وضغوط بعض المتحاورين لتمرير مشاريعهم؟! ترى هل أدرك المجتمع الدولي المعنى الذي حمله التدخل الإرادوي، الذي تم بدفع من بعض الأطراف، وعلى إثره جاء قراره ليمنع التمادي في مواصلة السير في هذا الطريق الضار؟ أم أنه هو الذي أعطى الإشارة بذلك، وجاء القرار ليدعم هذا المسار؟ سنترك الإجابة على هذا التساؤل لتجيب عليه الأيام في تساوق مع تطبيق القرار على الأرض.
القرار.. والجوهري في الحالة اليمنية
إن الاتفاق والاختلاف بشأن موضوع القرار الأممي أمر طبيعي، لاسيما وأن هناك حالات من هذه القرارات في بلدان عديدة أخفقت في تحقيق الأهداف التي أعلنت من أجلها. ويعود السبب، في تقديري، إلى الحالات المغايرة التي اتخذ بسببها القرار، فليست الحالات كلها متشابهة. أما بالنسبة للحالات القريبة من الحالة اليمنية، فغالباً ما يعود الفشل إلى أن القوى السياسية، والنخب الاجتماعية، تعثرت في الوصول إلى رؤى توافقية محددة بشأن الخروج من الأزمات التي عصفت ببلدانها، الأمر الذي ينصرف فيه الفشل إلى مكان آخر، وبالتالي لا يمكن للعطار أن يصلح ما أفسده الدهر وسادته.
المشكلة في تلك التجارب هي أن الفعاليات والنخب السياسية نفسها لا تعرف أحيانا ماذا تريد. كما أن استمرار الصراع فيما بينها، ومحاولة التفرد بالقرار السياسي، واحتكار توظيفه، أدى إلى أن يصبح القرار الأممي جزءاً من بنية الصراع الداخلي، مما قاد إلى فشله في نهاية المطاف. واتخذ الفشل صوراً عديدة، من أبرزها انهيار العمليات السياسية، وتزايد التدخل الخارجي في هذه البلدان، وبشروط أكثر إجحافاً، لم يكن أقلها إيلاماً التدخل الفج في القرار السياسي لهذه البلدان، والتعامل معها ك "سفيه" فقد الأهلية في اتخاذ القرار.
إن ميثاق الأمم المتحدة ينظم هذه المسألة في الفصل السابع، الذي يتضمن عقوبات تصل إلى التدخل العسكري. ولا يمكن، في كل الأحوال، ألا يكون للفشل أسباب أخرى تتعلق بتأثير الحل الأممي على المصالح الحيوية للبلدان صاحبة القرار، وعلى الأخص منها بلدان "الفيتو"؛ فأثناء التنفيذ قد تبرز معطيات جديدة تتعارض مع مصالح بعضها، أو مصالح بلدان أخرى ذات أهمية خاصة لهذه البلدان، تدفعها إلى مراجعة موقفها، مما يبطئ مسار العملية عند حلقات معينة أو يعطلها في حلقات أخرى.
إن الجوهري في الحالة اليمنية لا يكمن حصراً فيما يمكن أن يهدد التوافقات التي توصلت إليها القوى التي تحاورت، وإنما أيضا في مسألتين جوهريتين:
الأولى: عدم مشاركة قوى سياسية جنوبية حية في الحوار، وخاصة فيما يخص قضية الجنوب، وتتحمل هي بمفردها مسؤولية غيابها وبقاء البحث الجاد لقضية الحل ناقصاً إلى حد كبير.
الثانية: عدم توصل القوى المتحاورة إلى اتفاق حول الحل العادل للقضية الجنوبية، حتى يكون ذلك أساساً مشتركاً للتفاوض مع الممانعين، إذا ما تهيأت الفرصة لذلك.
لقد فوّتَ تحالف القوى، التي تمسكت بفكرة تغييب القضية الجنوبية في موضوع شكل الدولة بتقسيم الجنوب على ذلك النحو غير المدروس، هذه الفرصة التاريخية للتوافق، مما عقد المسألة أكثر، وهو ما يضع أمام مجلس الأمن مسؤولية لا تنتهي، بإصدار قراره الأخير؛ ولكن فيما يمكن توفيره من شروط لجعل تنفيذ القرار مهمة إنقاذية وليس تأديبية. أفق المهمة الإنقاذية أوسع وأشمل؛ ذلك أنه لا يتوقف أمام النتائج فقط؛ ولكنه يتناول الأسباب وجملة العوامل المؤثرة في العملية كلها.
كان من الممكن أن يخلص المتحاورون إلى خيارات تبقي الباب مفتوحاً أمام مواصلة الحوار مع الذين لم يشاركوا فيه، وخاصة حول القضية الجنوبية، وذلك لإغلاق كل الفجوات التي يمكن أن تعود منها عوامل الصراع مجدداً إلى ربوع "السعيدة"؛ غير أن هذا للأسف لم يحدث، فقد أديرت نهاية الحوار بنفس سلوك وأدوات "الغلبة"، التي حكمت مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية المنشئة لسلطة التغلب الحاكمة طوال سنوات طويلة.
لم يسمح للحوار أن يستأصل، أو حتى يهذب، سلوك "التغلب" عند البعض، فكسروا التوافق بين أطراف الحوار ليجعلوا المستقبل مكشوفاً من جديد على خيارات الصراع وإعادة إنتاجه. وربما كان ذلك هو الفصل الأول من سيناريو استعادة أوراق اللعبة إلى أيدي القوى التي دائماً ما عرفت نفسها بأهل الحل والعقد، والتي أخذت -كما قلنا- تتناوب خلق التبريرات لمواصلة الفوضى والعنف والحروب.
كان الحوار، في مشهده الأول، لوحة رائعة للتغيير الذي يتطلع إليه اليمنيون. وقف الجميع، بفئاتهم وطبقاتهم وموازين قوتهم ونفوذهم، في قاعة واحدة، وبحقوق متساوية، لتقرير مستقبل اليمن. الذين لم يحتملوا الموقف انسحبوا بهدوء. المشكلة في الوكلاء الذين أخذوا على عاتقهم مهمة تمزيق هذه اللوحة، وعندما لم يستطيعوا عملوا على تشويهها بممارسات دللت على أن العصبيات التي كرستها عهود من مقاومة بناء الدولة، وعقود من محاولات بنائها وهدمها، لن تستوعب عملية التغيير الموضوعية وشروطها بسهولة.
لا أتحدث هنا عن أولئك العدميين، من الجانبين، الذين لم يكن لديهم أي رؤية موضوعية جادة لنجاح الحوار، بما في ذلك حل قضية الجنوب حلاً يليق بهذه القضية العادلة، ويقبل به الجنوبيون، سوى ما تتفتق به أدمغتهم من تهويمات لا ترى الآخر إلا شراً يجب أن يقمع، أو يزاح عن الطريق، بأي وسيلة كانت، وما يسرح به خيالهم من حلول تتراوح بين الإلحاق أو الانفصال، كخيارين متطرفين... إنما أتحدث عن تلك النخب، وهي الأغلبية، التي كان بإمكانها أن تصل معاً بمشاريعها إلى منتصف الطريق من الاتجاهات المتعاكسة لتخلق المشروع الذي يستوعب الجميع.
لكن؛ ما الذي حدث؟ في الجنوب تسيد الاتجاه المتطرف، وفي تجاويفه العديدة تزاحم المراوغون، والأرزقية، وما أكل السبع، وأولئك الذي تجمدوا في كهوف الانتقام، وخرجوا في أكثر من مناسبة يفتشون عن أقصر طريق للانتقام، بحسابات لا علاقة لها مطلقاً بالحل العادل للقضية الجنوبية، ولم يتمكن هذا الاتجاه المتطرف من أن يتبنى أي رؤية قابلة للنقاش، أو للحوار، عدا تلك الرؤى الحدية القاطعة الطاردة لكل ما يختلف معها حتى بالحد الأدنى. وداخل هذا الاتجاه راحت تتحرك موجات من التلاحم والافتراق، لا تهدأ إلا لتضج من جديد، كلما استفزها التطرف القادم من الاتجاه الآخر. أما التطرف المكون من أجنحة القوى التي انخرطت في الحوار، فقد كان إثمه أعظم بما لا يقاس، وهو يتكون من مستويين: المستوى الأول: وهو ذلك الذي ظل ينتج التطرف في الجنوب، بممارسته وسلوكه، الذي دمر المعاني الجميلة للوحدة وخلق، من ثمّ، البيئة المناسبة لإنتاج مشاريع التطرف السياسية. أما المستوى الثاني فهو ذلك الذي منع الحوار من أن يخوض نقاشاً جاداً ومسؤولاً يفضي إلى حل القضية، أو على الأقل تكوين رأي توافقي، بين فرقاء الحوار، يقوم على الاعتراف بالقضية بوضوح، وبدون مراوغة، ويفتح باباً للحوار أكثر تركيزاً ومسؤولية. وكان هذا المحور بمستوييه قد حسم أمره مبكراً عندما قرر أن كل ما يختلف مع رؤيته هو مشروع انفصال. أما مناقشاته بعد ذلك فهي مجرد تفاصيل للمراوغة واستهلاك الوقت.
وللحقيقة فإن مركزي التطرف غذيا بعضهما بالأسباب وبالمبررات، وبمختلف الذرائع، لمواصلة السير في طريق التطرف، وأفسدا بذلك أهم فرصة تاريخية لإغلاق ملف الصراعات الكبرى في اليمن إلى الأبد. والسؤال الذي يبدو محيراً هو: لماذا انساقت الأجنحة المعتدلة وراء الأجنحة المتطرفة في الوصول بالقضية إلى هذا الوضع الذي تراجعت فيه المسؤولية وتصدرت المراوغة وفرض الأمر الواقع؟!
سيكون على العقل اليمني أن يبحث عن الأسباب في طبيعة تكوين وتركيب المؤسسات السياسية، وبناها الفكرية والثقافية والاجتماعية، ومنظومة المصالح المتشابكة التي تعبر عنها. وسيكون على أصحاب القرار الأممي أن يغوصوا إلى الأعماق ليضعوا أيديهم على مصدر التطرف، الذي سيظل ملهماً للتعطيل، ومصدراً لاحتباس المسؤولية داخل ركام الممانعة والغلو، مما يجعل النخب السياسية مجرد عنوان مخادع وطاقية إخفاء للأجنحة المتطرفة والفاعلة في تحريك الأمور على الأرض.
عند مشروع العدالة الانتقالية، ومخرجات الحوار المتعلقة بهذا الموضوع الهام، توقفت أجنحة التطرف طويلاً، لتجد نفسها في خندق واحد مع أولئك الذين استُهدفوا بالعدالة الانتقالية من الزاوية التي تعيد إصلاحهم كمواطنين صالحين. أخذت هؤلاء العزة بالإثم، فأخذوا يخلطون الحابل بالنابل، ويخبطون في بطن التاريخ خبط عشواء، بحثاً عن لا شيء، سوى أنهم قصدوا بذلك تعطيل هذا المشروع واستبداله بآخر أطلقوا عليه "المصالحة". وهم لم يقصدوا بالمصالحة سوى تبرئة "المتهمين"، وإعادة إنتاجهم في بيئة جديدة كمصلحين، بدون توفر شروط "المصلح"، وهو ما يعني أن المصالحة ليست تلك المرتبطة بتحقيق العدالة المعبرة عن التسامح، والتربية، وكشف الحقيقة، والوعد بعدم تكرار الجريمة، وإنما تلك التي تغيب فيها العدالة، وإبقاء كل شيء مفتوحاً على خيار العودة لمربع الصراعات والعنف والانتقام.
حاول هؤلاء إخراج الضحية من معادلة العدالة الانتقالية. ولم يكن مصطلح "المصالحة"، في البداية، غير صرخة استغاثة أطلقها الحكام السابقون في وجه المشروع. ومع الرخاوة التي أصابت الكثيرين، بسبب الحسابات التي برزت على أكثر من صعيد، تحول المصطلح عند هؤلاء، وغيرهم، إلى بديل للعدالة الانتقالية.
وعندما تصدى بعض من مكون الشباب، وآخرين من بعض أعضاء المكونات الأخرى، لهذا التوجه، سواء في فريق العدالة الانتقالية، أو في فريق الحكم الرشيد، بطرح موضوع رفع الحصانة، وتطبيق العدالة القضائية، مع الإشارة إلى موضوع العزل السياسي لكل من تورط في ارتكاب جرائم جسيمة، قامت القيامة، ووضع مؤتمر الحوار كله على المحك، وتوقفت أعمال بعض الفرق لأسابيع، ورأينا الاستهتار الذي يتمتع به البعض إزاء المحطات التاريخية التي يتقرر فيها مصير البلد. ولم يكن مصدر هذا الاستهتار طرف بعينه فقط، فقد تداخلت حسابات بعض الأطراف الأخرى لتجد، في مثل هذا الاستهتار، فرصة لتمرير قضايا معينة أو تعطيل أخرى بالمساومة.
في هذه اللحظات، التي تقاطعت فيها هذه المواقف المعبرة عن حالة الخوف من نجاح الحوار عند هذه الأطراف، بدأت تظهر علامات التحالف حول قضايا أخرى أساسية، الأمر الذي أخذ الحوار يفقد حيويته في أهم مفاصله، ولم يعد أعضاء مؤتمر الحوار، أو فرقه، أو لجانه، يعنيهم كثيراً من الذي سيتخذ القرار، أو كيف سيتخذ. صار قرار الأمر الواقع هو القرار الذي يجب أن تنتظم في إطاره الأمور، باعتباره الفيصل الذي لا أحد يعترض عليه. أما الجسم الحي من مؤتمر الحوار فلم يعد أحد يستمع إليه، بل صار يهدد بالعقوبات الأممية في كل لحظة يرفع فيها صوته بالاحتجاج أو الاعتراض على تجاوز القواعد المنظمة للحوار من قبل بعض من رواد التغيير بالأقنعة الممكيجة.
صار موضوع رفع الحصانة، وموضوع العزل السياسي، مثار جدل واسع في المجتمع، واستخدم بقوة لإخراج مشروع ضعيف للعدالة الانتقالية. وحتى هذا المشروع الضعيف، في تقديري، لن يرى النور قريباً، مما يعني أن على الضحايا أن يواصلوا التضحية لغيرهم، سواء من أولئك الجلادين أو ممن قرروا ربط مواقفهم بالقرب منهم؛ ولكن بحسابات ما هو أهم عندما يحين اتخاذ الموقف.
كم هي المرات التي شاركنا فيها السيد جمال بن عمر الاجتماعات ليبعث، بأسلوبه الخاص ومصداقيته في النصح، الأمل في التوصل إلى حلول توافقية..؟ ودعني أقُل كلمة إنصاف بحق هذا الرجل، إنه لم يكن يتعامل كمبعوث أممي فحسب؛ ولكنه كان يلتحم بالمشكلة المعروضة، بموضوعية وبدرجة عالية من المسؤولية، التي لا يمكن معها إلا أن تحترم نصائحه، والتي غالباً ما كانت تقود إلى تفاهمات بين أطراف الحوار، عدا تلك الحالات التي كانت أطراف سياسية قد قررت أن تحتجز الحل بيدها كرهينة إلى حين.
عند هذه النقطة من مسار الحوار، لا بد أن التاريخ سيتوقف طويلا ليستقصي أهم فصل من فصول التراجيديا اليمنية في تحول النخب من التعاطي مع متطلبات الواقع بصورتها المادية والروحية إلى الحالة الذهنية التي يغيب فيها هذا الواقع بكل تجلياته، وتحل محله تهويمات الاستئثار، والعمل على هزيمة الآخر، والتفرد، واحتواء الحل... ليأخذ الحوار، وفقاً لهذه الحالة الذهنية، مساراً خارج حاجة هذا الواقع، ويحاصر، من ثم، فيما تمليه هذه الحالة من حاجة.
الحلقة الثالثة :
المجتمع الدولي ليس شرا
إن المجتمع الدولي ليس شراً، كما قلت سابقاً؛ ولكنه ليس خيراً كله في كثير من الأحيان. ويتوقف الأمر في الأساس على وضع الدولة، سواء التي تطلب هي نفسها دعم المجتمع الدولي، أو تلك التي يرى المجتمع الدولي أنها بحاجة إلى مساعدته. فهناك الدولة التي يحكمها نظام فاشل ويتجه بها نحو الفشل، ويرى الجميع أنها أصبحت تعرض شعبها والأمن والسلم الدوليين للخطر، وهناك الدولة التي تعصف بها أحداث ضخمة ويستعصي على نخبها وقادتها التفاهم لإخراجها إلى بر الأمان وتحتاج إلى مساعدة المجتمع الدولي، وهناك ما يسمى الدول التي تعد ملاذاً للإرهاب وموطناً للتطرف والعنف وهناك... وهناك... إلخ.
وفي تقديري أن بلاد اليمن جمعت شيئاً من هذا، وشيئا من ذاك، وهي تحتاج إلى مساعدة المجتمع الدولي لمواجهة المتربصين بمستقبلها، ممن يوفرون البيئة لتكريس مثل هذه العوامل؛ ولكن ليس إلى الدرجة التي يمكن أن تفقد فيها قرارها السياسي. صحيح أن الخبراء الأربعة لن يأتوا لممارسة مهام عادية وقد كلفتهم لجنة العقوبات بمساعدتها في تحقيق ما أسمته "Its mandate"، والتي تحمل مدلولا أكبر يتجاوز ما يعرف بالمهام [tasks]، حيث ترجمها البعض إلى [ولايتها]، بل هي الترجمة الرسمية التي صدرت مترافقة مع النص الإنجليزي، وربما كان علينا أن نستشف من هذا شيئاً أكبر من المهمة في الظروف العادية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالقرار السياسي اليمني الذي يشتبك، بهذا القدر أو ذاك، مع القرار الأممي في فضاءات لن تتسع للاثنين بكل تأكيد.
وبطبيعة الحال، تتوقف المساحة التي يمكن الإبقاء عليها بين القرارين على قدرة الفعاليات السياسية اليمنية، وحيوية قوى ونخب المجتمع بشكل عام، وفي المقدمة الرئيس هادي وحكومة الوفاق، على التعاطي مع هذا القرار بالروح التي تضفي عليه وظيفة الداعم والمساند لجهدها الذي يجب أن يتكثف نحو تنفيذ مخرجات الحوار على الأرض، وإصلاح ما خرب منها، وخاصة المتعلق بحل القضية الجنوبية حلا عادلا وبما يحقق الانسجام الكامل بين وثيقة الحل وتقسيم الأقاليم؛ والحفاظ على الشراكة الوطنية بمعايير لا تسمح لأي طرف باحتكار السلطة، أو السعي إلى ذلك، من خلال تحقيق أي تراكمات كمية من أي نوع تؤدي بدورها إلى الانقضاض على السلطة، وبالتالي على أي أمل في التغيير.
تعود مسألة الانقضاض على السلطة إلى مفاهيم سريالية، بلا أشكال محددة، للشراكة الوطنية التي طالما شيد اليمنيون قصوراً للتعايش في ظلها؛ غير أنها لم تكن غير قصور من رمل يجري تدميرها وتسويتها بالأرض برفسة قدم حينما يحين موعد التنافس على السلطة. قال المجتمع الدولي أكثر من مرة إن بلداً مثل اليمن يحتاج إلى جهد أبنائه جميعاً للخروج من مأزق التخلف؛ لكنه يصفق كثيراً لمن يحصد مقاعد البرلمان بالانتخابات، ولا يركز كثيراً على سلامة ونزاهة هذه الانتخابات. فالتزوير في هذه البلدان عملية مقبولة، ويمكن أن يغض الطرف عنها، لأن الجميع لا يزال يتعلم!! لا بأس أن يكون ثمن التعلم هنا، من وجهة نظرهم، إقصاء الجزء الأكبر من فعاليات وقوى المجتمع التي بإمكانها أن تكون جزءاً فاعلاً من القوة المطلوب تعبئتها للنهوض بالبلد ليتجاوز التخلف، وأحياناً إقصاء المجتمع كله من خلال اغتصاب إرادته. وهنا تبدأ هذه المفارقة عملها في اتجاه يتعارض مع ما يقوله هذا المجتمع الدولي عن شراكة المجتمع بكل قواه وشرائحه وفئاته في النهوض السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
أدرك كثير من النخب السياسية، بحسها المرهف تجاه السلطة، أن المجتمع الدولي أضحى مغرماً بالوصول إلى السلطة عبر الانتخابات، أياً كان شكلها وأياً كانت سمعتها، ولا يعنيه كثيراً، بعد ذلك، ما الذي تحققه هذه السلطة الحاكمة من تقدم على الصعيد السياسي والاقتصادي والعلمي. لا يعمل، عندما يتعين عليه أن يقول كلمته عند الفشل، سوى أنه يعزوه إلى أن هذه السلطة هي خيار الشعب، بينما هو يدرك أنه خيار مطعون في سلامته بالتزوير، ومشكوك في صحته، بسبب أن طبيعة وحجم المشكلات في هذه البلدان تحتاج إلى شراكة حقيقة. لم يسأل المجتمع الدولي، وهو يؤكد على هذه الشراكة، عن الصيغة التي يمكن أن تتحقق بها دون إخلال بالديمقراطية المعبرة عن احترام التعددية السياسية.
إن أحد أسباب التخلف الشامل، الذي غرقت فيه هذه البلدان، هو أن النفوذ القديم للقوى التقليدية ما قبل الدولة هو الذي شكل صيغة ومنهج الحكم بأدوات مجتزأة من "الديمقراطية"، بعد أن أخضعها لمعاييره، وأعاد بناءها داخل بنية أيديولوجية تتعارض معها جملة وتفصيلاً، وكانت، بذلك، وسيلته للسيطرة على السلطة، التي أبقت الدولة مجرد هياكل فارغة بدون مؤسسات فاعلة لتسهل على القوى المؤتلفة في نسيجه السيطرة على البلاد ومقدراتها وثرواتها.
كانت هذه المسألة (الشراكة الحقيقية للنهوض باليمن وتحويله إلى وطن ومغادرة التخلف الشامل) هي إحدى القواعد التي قامت عليها فكرة الحوار الوطني، منذ البداية، ومنذ أن قدمت إلى اللقاء المشترك ورقة بفكرة مشروع الحوار، الذي يشمل كافة الأطراف السياسية، بما فيها الحراك السلمي الجنوبي والحوثيون، وكل القوى الأخرى، إلى جانب اللقاء المشترك والمؤتمر الشعبي العام، وذلك في بداية عام 2008. وقد أقر اللقاء المشترك هذا المشروع، بعد أن أخذ نقاشاً طويلاً. وبعد إقراره كُلفت بصياغة رسالة إلى قيادة المؤتمر الشعبي ملخصها أن اللقاء المشترك، وقد تدارس بجدية ومسؤولية المتغيرات في الحياة السياسية وما تتطلبه معالجة المشكلات الوطنية الكبرى، وغيرها من المشكلات السياسية والاقتصادية، من تضافر جهود كل القوى السياسية الفاعلة في المجتمع، بمن فيهم الحراك السلمي الجنوبي والحوثيون وغيرهم، فإنه (أي اللقاء المشترك) منذ اليوم لا يرى أن هناك أي معنى لأي حوار سياسي بدون مشاركة هذه الأطراف، وأن أحزاب اللقاء المشترك لن تشارك في أي حوار ما لم يشمل هؤلاء جميعاً. نوقشت هذه الرسالة مع قيادة المؤتمر الشعبي، بحضور الرئيس السابق، ورُفضت الفكرة من قبلهم، بل إن بعضهم غادر اللقاء باستهتار.
لقد كان هذا الموقف أهم محطة سياسية قلبت موازين النظام السابق، وهو ما أوجد أرضية مناسبة لمزيد من التفاعلات الاجتماعية، وذلك بعد أن أوصد الباب أمام ألاعيب النظام بتوظيف الحوارات الثنائية لأغراض سياسية أضرت كثيراً بالحياة السياسية. ومنذ ذلك الوقت توقف الحوار مع النظام بإصرار من اللقاء المشترك على ضرورة وأهمية مشاركة الأطراف الأخرى. ولم يكن الحوار الشامل بحد ذاته هبة من أحد، كما أنه لم يكن مجرد نزوة سياسية عابرة من الممكن التعاطي معها بخفة واستهتار. لقد كان محصلة نضال شاق وطويل، ونقاشات مضنية، وتقديرات تباينت بين الموافقة والتردد، حتى تهيأت له الظروف ما بعد ثورة التغيير. ويمكن القول إن الحوار بالنسبة لنا كان مسألة مبدئية في صلته بموضوع الشراكة لتقرير مستقبل هذا البلد.
ولم يكن عبطاً أن توقفنا طويلاً، أثناء الحوار، أمام كيفية تنفيذ مخرجاته، وتساءلنا عمن هي القوى التي ستحمله إلى التنفيذ. وفي الجدل الذي دار حول هذا الموضوع الخطير، من وجهة نظري، حمل علينا البعض بأننا نريد تمديد الفترة الانتقالية لغرض التمسك بالسلطة، وهو ما لم يكن حاضراً داخل الفكرة، لأن الحضور الطاغي كان فعلاً للمسألة الأكثر أهمية من كل شيء، وهي تلك المتعلقة بمصير مخرجات الحوار. كما أن السلطة في مثل هذه الظروف لا تعني للقوى السياسية الحريصة على مستقبل البلد ومستقبلها أكثر من التضحية.
تحت الظروف الاقتصادية والمعيشية والأمنية الصعبة، كان الضغط المجتمعي، الذي تقوده نخبة ساخطة على الحوار لإنهاء الفترة الانتقالية، قوياً لدرجة تراجعت فيها بعض القوى السياسية عن فكرة الضمانات؛ طبعا ليس بسبب هذا الضغط، ولكنه توافق مع هوى في نفسها، وأخذت تتحدث عن انتخابات مبكرة. لكن السؤال المتعلق بمن سيحمل مخرجات الحوار ظل عالقاً من غير إجابة، وظل السؤال الخاص بعلاقة السلطة بالدولة مبهماً في ظروف التحول التي ورثت وضعاً شاذاً غابت فيه الدولة وحضرت السلطة.
غير أننا، بعد ذلك، توصلنا، عبر نقاشات عامة، إلى صيغة مبدئية تلخص القاعدة التي ستحكم التعاطي مع عناصر العملية السياسية، وفي مقدمتها مخرجات الحوار، بما في ذلك الخطوات البنائية التراكمية لهذه الشراكة مستقبلاً: "شركاء في وضع أسس بناء الدولة وشركاء في التنفيذ".
بعد أن أخذ المسار ينتظم في إطار هذه المعادلة، هناك من بدأ يضيق ذرعاً بما أطلق عليه "المحددات التحكمية لمسار العملية الديمقراطية"، ويعود إلى مربع انتهاء الفترة الانتقالية وإجراء الانتخابات في وقتها أو بعد ذلك بقليل، ولم يكن ذلك غير "عبارة" حق يراد بها باطل.
لماذا لم تكن هذه "المحددات التحكمية" حاضرة في البال عندما كنا نناضل ضد النظام السابق، بسبب احتكار السلطة والقرار السياسي بيد مجموعة من الموالين والمحاسيب تحولوا، مع المدى، إلى "أوليجارشية" احتكرت السلطة والثروة؟ ما الذي يمنع ذلك من أن يتكرر تحت مسميات أخرى، إذا لم ينتج التغيير صيغة مناسبة للشراكة في بناء الدولة الضامنة والقادرة على حماية البلاد من الانزلاق مجدداً نحو سلطة أوليجارشية لعينة أخرى؟ هل يجوز، الآن وبعد كل هذا الجهد والنضال الشاق والتضحيات، أن يترك هذا الموضوع للتجربة والخطأ، أو للمجهول، أو لقوى معينة كي تقرره في لحظة من لحظات استعراض القوة وبعد ذلك "شرعكم يا اسياد"؟
والمجتمع الدولي، وهو يقدم نفسه كشريك، لا بد أن يستوعب هذه الحقيقة، ولا يغلق عينيه أمام تداعيات محاولات التفرد التي أضرت بالحياة السياسية. أي أنه لكي لا يكون للعرقلة عنده مفهوم مجرد عن طبيعة المشكلات الأساسية التي تتخلق في أحشائها معضلات ذات طابع بنيوي، كانت على الدوام أهم عوائق بناء وتقدم هذا البلد، فإن على المجتمع الدولي أن يظهر اهتمامه بمخرجات الحوار بوضعها في إطارها الذي يتمكن فيه اليمنيون من معالجة هذه القضية، الشراكة الوطنية، التي كانت ولا تزال أهم تحديات الماضي والمستقبل.
ليبدأ، من الآن، يضع نصب عينيه تلك العمليات التي تتحكم في موضوع الشراكة السياسية الوطنية وكيفية إدارتها؛ وهل الطريقة الحالية، التي تدار وتنفذ بها هذه العمليات، تخلق الأرضية المناسبة لتحقيق هذه الشراكة، أم أنها تتم في الأساس بنفس الشروط والمعايير التي ظلت تولد على الدوام الفجوات الاجتماعية والسياسية الضخمة التي تسربت منها الأحلام ببناء يمن جديد لتغدو هباء تذروه الرياح؟
إصلاح الخلل الذي أضر بالحوار
لا شيء يضر بحركة التغيير أكثر من التردد؛ تعرف الخطأ وتتردد في إصلاحه.
يتوجب القول، دون أدنى تردد، إن إصلاح الخلل الذي أضر بجوهر فكرة الحوار يأتي في مقدمة استعادة روح التوافق التي حكمت العملية السياسية والحوار الوطني.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل هذه العملية التصحيحية، وذلك بالعودة إلى وثيقة الضمانات التي أقرتها لجنة التوفيق، بما اشتملت عليه من رؤى ومعالجات لقضية بناء الدولة الضامنة كحامل لمخرجات الحوار، وكذا الوثيقة التي استخلصها المبعوث الأممي من نقاشات لجنة الستة عشر الخاصة بالقضية الجنوبية، والتي اشتملت على بابين: الباب الأول، وشمل تحول اليمن إلى دولة اتحادية، وتحدث بوضوح عن طرفين متكافئين في معادلة الدولة الاتحادية، هما الشمال والجنوب، وذلك بالاستناد إلى الحقائق السياسية والتاريخية، التي انتظمت في إطارها عملية توحيد اليمن بين دولتين يوم 22 مايو 1990. فالاتحاد لا يتم إلا بين كيانات سياسية في الأصل. وانطلاقاً من ذلك، تحدثت الوثيقة عن علاقات مكونات الدولة بالسلطة والثروة، في هذا الإطار المحدد سلفاً، وهو أهم جزء في هذا الحوار، الذي ظل دوماً مصدر الحروب والصراعات والانقسامات. وبسبب التدخلات، التي كانت قد شكلت ضغطاً على الحوار، تركت الوثيقة في بابها الثاني موضوع التقسيم الإداري للأقاليم بخيارين [إقليمين: الشمال إقليم، والجنوب إقليم، أو ستة أقاليم: اثنان في الجنوب، وأربعة في الشمال] لمزيد من الدراسة، والتي لم يكن بالإمكان أن تتجاهل مضامين المبادئ الأساسية التي حواها هذا الباب من الوثيقة فيما لو تركت للدراسة الجادة في ضوء استخلاصات فريق العمل.
لم يقف الاجتماع، الذي دعا إليه الرئيس فريق الستة عشر وأمناء الأحزاب، يوم الأحد 22 ديسمبر 2013، أمام الوثيقة، وإنما انتقل النقاش مباشرة إلى خيار الستة الأقاليم، وكأن المسألة كانت مبيتة لتمرير خيار لم تقدم بشأنه أي رؤية واضحة، بل لم يكن مطروحا على طاولة الحوار إلى ما قبل يومين من تاريخ تقديم الوثيقة. كان هنالك إصرار من قبل بعض الأطراف على تمرير خيارهم بطريقة لم تترك فرصة لأي حوار جاد، وأخذت تعود إلى نمط السلوك القديم في التعاطي مع الحوارات. وعلى تلك الطاولة الضيقة، جرى ذبح الحوار بالسكين القديمة التي ذبحت بها وثيقة العهد والاتفاق. رأيت الحوار، كمشروع مناهض للتسلط، يذبح من الوريد إلى الوريد، ومعه ترفع علامات النصر من قبل البعض، في استعراض مبهم لانتصار ليس له سوى معنى واحد، وهو أن البعض لم يستوعب الدرس بعد.
كانت لحظة فارقة بين السير إلى الأمام، أو العودة إلى الخلف، تلك اللحظة التي عصف فيها التعصب والتسلط واللامبالاة والحسابات القصيرة، التي تملكت تلك القوى، بجهود الحوار، وتحويله إلى مجرد عمل شكلي لا يختلف كثيراً عما كان يمارسه "أوليجارشية" النظام القديم. كل ما يمكن قوله هنا هو أن هذه "الأوليجارشية" الآفلة استطاعت أن تسحب معها "مشاريع" أوليجارشية جديدة لتدعم خياراتها التي دائماً ما حالت دون الوصول بالحوار إلى غاياته. قد لا يكون المهم هنا خطأ القرار أو صحته، فذلك متروك للتطبيق؛ ولكن الطريقة التي فُرض بها القرار، والاستجابة الرخوة من قبل من كان يعول عليهم تجديد خلق الحاضن السياسي الشعبي لهموم هذا البلد في صيغته التي خلقتها الثورة بتضحياتها الكبيرة.
غاب، في تلك اللحظة، عن هؤلاء أن الكثير منهم كانوا في صدارة المعارضين للتعسف الذي مارسه النظام السابق على الحياة السياسية، ثم عادوا هم أنفسهم لينخرطوا في ممارسة هذا التعسف وبأسوأ صوره. إن عودتهم بتلك الصورة قد وضعتهم في المكان الخطأ من العملية السياسية، أي في المكان نفسه الذي كان قد حوصر فيه النظام القديم، والذي يصبح معه الحديث عن التغيير، بعد ذلك من هذا الموقع، مجرد خديعة للنفس قبل أن تكون مغالطة للآخرين.
في لحظة، أحرَقَ التسلط، الذي استحضر نفسه عنوة من كل محطات الصراع، كل الجسور التي كان يجري بناؤها مع المستقبل بواسطة الحوار. لقد تصدى الحوار لمهمة عظيمة تتمثل في تهذيب قوى النفوذ والعصبيات، ومعها السلطة، بكل مكوناتها وأشكالها وأدواتها، بقيم وأسس بناء الدولة العادلة، التي كان مؤتمر الحوار قد أقر الكثير منها، بشكل جعلنا جميعاً نشعر أن الفراغ الروحي، والخواء المعنوي، اللذين خلقهما الاستبداد والفساد في المجتمع، قد مُلئ بروح الحوار وصموده الأسطوري أمام مراوغات التخلف.
كان المجتمع اليمني بذلك يستعيد روحه، التي غيبها وأنهكها نظام "الأوليجارشية"، الذي أخذ يقزم الشعب، ويضخم الحاكم. شعر، أم لم يشعر، أولئك الذين وقفوا في هذا المكان الخاطئ من العملية السياسية، بهذه الخطيئة، التي ضربت جوهر ومضمون الحوار، حينما قرروا تحويل مؤتمره إلى مجرد مصفق للقرارات الإدارية؛ إلا أنهم، في واقع الأمر، قد هدموا أهم شروط نجاحه، وفتحوا، من جديد، أبوابا للعودة إلى سلوك وقيم وأدوات الماضي، وهو ما يشهده البلد اليوم من عودة إلى مربع الصراعات واستعراض القوة والتخفي في أسمال التخلف والمراوغات والتحايل على شروط التغيير.
أخشى أن يشرب هؤلاء من نفس الإناء الذي استخدموه لإطفاء تلك الجذوة، التي أضاءت في لحظة تاريخية تلك الأعماق المظلمة لتطرد منها أشباح الخوف من التغيير.
القضية الجنوبية حسمت بقرار إداري
لقد كان أبرز تجليات هذا الخلل هو نقل القضية الجنوبية من طاولة الحوار إلى مائدة السلطة لتحسم بقرار إداري، وخاصة فيما يتعلق بشكل الدولة، الذي استخدم لتغييب مضمون هذه القضية، داخل مشروع الأقاليم الستة، وتقسيم الجنوب إلى إقليمين، على وجه الخصوص. وهناك ما يمكن الاستناد إليه في إصلاح هذا الخلل من داخل وثائق الحوار نفسها، وذلك بتطبيق القاعدة التي شملتها وثيقة الحلول الخاصة بالقضية الجنوبية في بابها الأول، كما أشرنا، والتي تقضي بتمكين الناس من اختيار مكانتهم السياسية، وهي القاعدة التي أُهملت، وانقلب عليها البعض، عندما أصروا على تحديد الأقاليم، بصورة تحكمية لا تستند إلى جوهر ومضامين هذه الوثيقة. وبدون العودة إلى وثيقة الحلول وتصحيح شكل الدولة الاتحادية، في ضوء هذه الوثيقة، فإن هذا الخلل سيظل حجة على أصحاب القرار الأممي ومنفذيه معا، وسيفتح بابا إلى مزيد من الخلافات التي ستضع القرار نفسه على المحك.
القرار يتحدث عن انتقال اليمن من دولة وحدوية إلى دولة اتحادية؛ ويفهم التعبير "وحدوية" على أنه الشكل الاندماجي لدولة الوحدة، والذي فشل، ليس بسبب إدارته فحسب، ولكن لأنه كان ضد طبائع الأمور، وحقائق الحياة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بذلك النوع من الوحدة، التي تتم بين دولتين اختصمتا وتحاربتا، ولم يجمع بينهما، في أي يوم من الأيام، نظام سياسي واجتماعي مشترك الهوية كان من الممكن أن يشكل ملامح سمات مشتركة في الأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبدلاً من مراعاة هذه الأبنية، عند تقرير شكل الدولة الوحدوية، جرى تعسفها، باعتقاد أن من الممكن تحييدها بواسطة الإرادوية المغمسة بحلم مشطور بين الفكرة الخبيثة للظفر بمساحة أوسع من الأرض، وإلحاقها بما هو تحت اليد، لمزيد من تعزيز النفوذ والهيمنة، وآخر كان يحلق بسذاجة داخل مشروع دولة تحقق النهوض لكل اليمن بدون أي مؤشرات دالة على إمكانية تحقيقها بالتوافق.
بتوظيف أدوات وموازين الواقع السياسي والاجتماعي، جرى تعسف الجزء الثاني من الحلم، واعتبر أنه الجانب الطوباوي من الحلم، الذي لا صلة له بواقع تحركه أصابع النفوذ، الذي لم يرَ في "الوحدة" غير تمدد على مساحة أوسع من الأرض؛ وجرى، من ثم، تكريس مضامين الوحدة بما يحقق الجانب الأول من الحلم المشطور.
لقد استقر الوضع عند هذه الحقيقة، باتفاق وحماية الأطراف نفسها، التي أصرت أن تنقل على عاتقها القضية الجنوبية من معادلة الحوار إلى مائدة السلطة لتقرر مصيرها بحسابات وغايات لا علاقة لها بحق الشعوب في تقرير مكانتهم السياسية، مثلما ورد في الوثيقة.
ومن الواضح أن مجلس الأمن اهتدى إلى هذه الحقيقة عندما تحدث عن التحول من هذا الوضع الفاشل إلى دولة اتحادية، وهذه الدولة الاتحادية هي بيت القصيد في المسألة التي نحن بصددها، وما إذا كان التقسيم المعلن للأقاليم الستة معبراً عنها، أو أنه تكرار للتجارب الخاطئة، التي أورثت اليمن مسلسل هدر الفرص في كافة المحطات التاريخية بسبب حسابات تكتيكية قصيرة.
إن الدولة الاتحادية، بالمعنى الذي يفهم من قرار المجلس الأمن، هي الدولة التي يجري بناؤها بالعودة إلى جذر المسألة لتصحيح مسار العملية التي تمت بين دولتين، بما يمكن أن يطلق عليه تصحيحا تاريخيا، ويرتب هذا الوضع طريقا مستقيماً إلى المكان الذي يجب عنده التصحيح.
جوهر الخلاف مع هذه القوى يتمثل في أنها انطلقت من نتائج حرب 1994، باعتبار أن هذه الحرب قد رتبت وضعاً ثابتاً لما استقر في وعيها من فكرة عن الوحدة، وأنها لهذا لا تقوم بأكثر من تصحيح ما كان يجب عمله من قبلها بعد الحرب. أما نحن، فنرى أن هذه الحرب قد دمرت الأسس السلمية للوحدة، وأن نتائجها لا تصلح في الأساس لأي تصحيح، مهما كان؛ فالتصحيح يجب أن يقوم على الفكرة الأساسية، وهي الوحدة السلمية المتكافئة بين الشمال والجنوب، والتي تمت في مايو 1990، وأن كل ما أساء إليها، من أحداث وسلوك وممارسات، يجب ألا يعتد به على الإطلاق في تقرير الوضع الذي ستستقر عنده دولتها القادمة.
كل ما عملوه هو أنهم تحايلوا على ما وافقوا عليه في الباب الأول من الوثيقة، والتي تحدثت عن قيام الدولة الاتحادية بين جيو – سياسيتين تاريخيتين: شمال وجنوب. وحتى في مشروع أقاليمهم الستة، قالوا: إقليمين في الجنوب، وأربعة أقاليم في الشمال، وقال المشروع الآخر: إقليم في الجنوب، وإقليم في الشمال؛ فكيف يكون الأول وحدوياً، والثاني انفصالياً؟!
يافع نيوز


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.