اسأل الحصان وحده عن معنى الصهيل، ولا تسأل نقاد الأدب . الكائن البشري والكائن الحيواني وحدهما يعرفان تلك الكينونة الداخلية المقيمة في القلب، العصفور وحده يعرف لماذا يغرد ويعرف لغته الصوتية الصغيرة العابرة في الريح . . الشجرة وحدها تعرف ظلالها، وتعرف لماذا هي واقفة وخضراء أو جرداء وتعرف لماذا إذا ماتت تموت واقفة . . الحجر وحده يعرف سر صمته الأبدي، ولذلك، لا تسأل نقاد الأدب عن الأسرار . والنقاد، نقاد الأدب العربي بشكل خاص جذورهم معروفة، ابن سلام الجمحي والجرجاني، وقبل ذلك كان الشاعر العربي يمتلك كبرياء شخصية بحيث ينقد نفسه بنفسه "قبل أن يطرح بضاعته الشعرية في سوق عكاظ"، هكذا، من ينقد المعلقات السبع أو العشر على أستار الكعبة إن لم يكن شعراؤها شعراء نقد في الأصل؟ أولئك القدامى كانوا رجال شعر ورجال فروسية، فلا يأكل أحدهم لحم أخيه لا ميتاً، ولا هو على قيد الحياة . لا تسأل عن الأسرار . كل نقاد الأدب في العالم بإمكانهم تحليل الصورة الشعرية تحليل الصورة الشعرية عن صهيل حصان في قصيدة، ولكن الحصان وحده فقط هو الذي "يحلل الصهيل"، وطائر العنقاء وحده من يخرج من رماده، يعرف رائحة الرماد . نقاد الأدب، وليس نقاد الثقافة في الوطن العربي أكثر من تلك الشعيرات المتفرعة على رأس سنبلة قمح . . القمح كثير في السنبلة، ولكن الشعيرات سوف تتطاير في الريح . ولكن، لنترك الحصان وحيداً، هذا الذي لن يعتذر أبداً عما فعل . الحصان الذي لا يشبه أبداً "غولساري" في رواية الكاتب الروسي "مكسيم غوركي" . حصان غوركي تقدم في العمر . أصبح يكلف الدولة مصاريف العلف، والنوم الثقيل في الحظيرة، بلا عمل ولا إنتاج . عبء على الخزينة ومصروفاته محسوبة بالقرش في سياسة البنك الذي يعطي ويأخذ، والحصان الروسي الروائي تماماً، والشعري تماماً، أصبح يأخذ أكثر مما يعطي، وهكذا، كان مصيره إطلاق النار عليه . الانتهاء منه بأية طريقة . إطلاق النار أو إطلاق النقد . المهم تصفية حصان كهل، لا يصهل إلا قليلاً وبصوت شاحب في آخر الليل من أجل صحن ماء، وباقة عشب . لاتسأل عن الأسرار الصورة تتغير من زمن إلى آخر . هنا الآن، حصان محمود درويش، أعطى أكثر مما أخذ، وإذا أخذ فإنما أخذ من قلبه ومن قلمه ومن حياته الشجاعة الجريئة والمغامرة، ولكن المغامرة غير المتهورة والاستعراضية . توغل في القراءة أكثر مما توغل في الكتابة . شعره، بالمفهوم "اللانقدي" غناء القلب وطمأنة العقل على قوته الكبيرة جداً في رسم الحياة ورسم الوجود، أبعد ما يكون، كان محمود درويش عن شعر العقل الجاف والجامد والمتحجر . غنائيته هي فوضاه ونظامه وعزلته وخجله وخوفه وحذره ونأيه، أحياناً، حتى عن نفسه . ولذلك، كان يجب اطلاق النار عليه . أنه ثقل شعري لا يمكن أن يتحمله حتى حمال خشبي الكتفين . إذاً، أين نذهب بمحمود درويش؟ أين نذهب بولدنا الفلسطيني الجميل؟ وفي أية بئر نلقي به فيها، نحن إخوته السعداء جداً بنومه العميق . هل نصلبه كما صلب الحلاج؟ هل نحرقه كما "ينبغي حرق كافكا"؟ هل نحاكمه كما حوكم غاليليو؟ هل نفتح قبره، ونعيد جثته إلى المستشفى الميداني الشعري كي نعرف كم من الكتب قرأ . الكتب المقدسة منها والكتب التي كان قرأها وهو طفل على رأس الكرمل . أين نذهب به؟ هذا الذي لن يعتذر عما فعل، وهو ميت وهو حي . شاعر عنيد . شاعر إنساني وكوني بلا صخب ولا بطولة . شاعر يخجل من شهرته ويخاف منها، كما لوأن في قلبه شيئاً من عذوبة الصوفي الذي لا يعلن عن الصوفي . في قلبه وفي كيانه الشخصي شيء من السيد الذي يتجنب السيد، شيء من الملك الذي لا يحب العرش والحاشية والزمار والطبول ولكنه أيضاً في موازاة طبيعته هذه كان يتجنب الصيادين، وهذه حكاية أخرى، هنا بعض تفاصيلها، وبالعودة إلى بداية هذه المقالة حول طبيعة النقاد وسيكولوجياتهم وأمراضهم النفسية فلقد قرأت كتباً في النقد الأدبي العربي ووجدت فيها مايلي: * الجرجاني . . أخذت نخب فكرية غربية أصل نظرية الشعر عنه، والشمس لا تغطى بغربال . * الكتب المقدسة الثلاثة لا يوجد كتَّاب أو مؤلفون لها، ولذلك فهي فيض روحاني يخضع الإنسان له ويتأثر به، ويأخذ منه . * الأسطورة في بلاد ما بين الرافدين، وفي الشام التي كانت قبل ذلك الهلال الخصيب، ثم في حضارة وادي النيل على المستوى الجغرافي والتاريخي العربي، كلها فضاء مكاني وثقافي مفتوح لأي كاتب ولأي قارئ . فالمرجعيات في هذه الحال هي مرجعيات قديمة لا أحد يدعي ملكيتها، وكأن الشاعر هو نفسه الذي أسس أصلاً هذه المرجعيات، ومن حقه العودة إليها . الشعر ذاكرة وتأمل واسترجاع واتصال روحي ووجداني وثقافي بكتابات وأديان وفلسفات وجماليات قديمة في تاريخ العالم، وكل شعر ينقطع عن هذا الاتصال يظل شعراً جامداً وليس فيه لا حياة ولا اتصال . * بعد ذلك وبسرعة . صيادو النقد الأدبي العربي بعضهم يصطاد في الماء العكر، والبعض ناقد شعري جاء إلى الشعر من فشله في الشعر، فتحول من شاعر إلى ناقد، والبعض ناقد استعاري، أي الذي يستعير نظريات الغرب ويحاول جاهداً تطبيقها على الثقافة العربية، والبعض ناقد ثأري والبعض ناقد نقدي ينقد أدواته وأسلوبه قبل أي نقد آخر، والبعض ناقد معلم وأستاذ . أين أنت يا أستاذنا إحسان عباس كي ترى كيف يموت محمود درويش برصاصتين . رصاصة تقتل الحصان . ورصاصة لا يمكن لها أن تقتل الصهيل .