كنت في الخرطوم قبل أسابيع و قد صادف وجودي بها افتتاح معرض الخرطوم الدولي الذي شاركت فيه الكثير من الدول العربية وغير العربية، وعرضت فيه الكثير من الصناعات السودانية والمشتركة بخبرات أجنبية وإنتاج سوداني، حضر حفل الافتتاح نائب الرئيس السوداني وعدد من الوزراء والمسؤولين، وحضرته الكثير من الوفود التي كانت تشارك في فعاليات كثيرة أصبحت السودان مقراً لها. لفت نظري في هذا البلد الغني بشعبه وبتاريخه وبثرواته الكثير من الأشياء ولكنني أسجل أهمها: إنها مثل شقيقتها اليمن يسمع الإنسان في الخارج عنها وما فيها فيظن أنها قاب قوسين أوأدنى من الانهيار والهلاك، وحين يصل إليها يجد الأشياء سائرة على نحو آخر، فالناس يعيشون حياتهم العادية، والتنمية والبناء يسيران جنبا إلى جنب مع مواجهة التآمرات الكثيرة بعد حفل الافتتاح تحولت السماء إلى كتلة من لهب.. وأصوات الألعاب النارية تنقلك إلى مشهد من مشاهد الحروب الكونية التي رأيناها في بغداد عشية الحربين الكونيتين اللتين شنتا عليها في أوائل التسعينات وأوائل الألفية الثالثة وانتهت باحتلالها، أو مثل تلك التي رأيناها في غزة العام الماضي، مع فارق أن هذه التي شهدتها الخرطوم كانت ابتهاجاً بمناسبة وليست شيئاً آخر، تمنيت أن نستبدل مظاهر الطلقات النارية بالألعاب النارية حتى لو كانت عنيفة وتكون مشروعة أمنياً ومنظمةً. المظاهر الأمنية التي تراها في العاصمة الخرطوم لا تكاد تذكر، وهي التي شهدت في السنين الأخيرة في جزء منها هجمة انتحارية عبرت من حدود تشاد حتى أم درمان، لتنتهي نهاية غير سعيدة على الغزاة مع ما عبرت عنه من حالة اليأس و المغامرة التي تميزت بها.. حتى أنك لتمر على القصر الجمهوري وعشرات الوزارات والمؤسسات الحكومية على شط النيل، فلا تكاد ترى إلا بضعة أفراد في باب كل منها. رغم تلك النزاعات العنصرية والتمزيقية التي يكرس الأعداء جهودهم في خلقها وإظهارها، وتتبدى من الخارج كبيرة وذات شقوق وفجوات، إلا أنك في السودان تجد حالة التآلف والالتئام بين أطياف ومكونات هذا الشعب، الذي امتزجت فيه الدماء العربية والأفريقية، فهنا العربي والأفريقي والشمالي والجنوبي كلهم يلهجون بلسان الولاء الواحد لبلدهم السودان رغم كل الضجيج الذي تنقله وسائل الأعلام كما تنقل عن اليمن في الشاطئ الآخر. في السودان نهضة عمرانية وتنموية وحركة استكمال للبنى التحتية ومناطق حرة وموانئ جافة ونظام، وتحسن ملحوظ في مستوى معيشة الناس فوق المستوى العلمي والتقني التي تشهده في الناس والأشياء من حولك واستقطاب لرساميل عربية وأجنبية، رغم كل التآمرات والحروب والمعاناة التي تتواصل ويتواصل معها جهاد الشعب والحكومة للإفلات منها . قريبة هناك الحكومة من الناس وقريبة القيادة السياسية تماماً كما هي في اليمن، وليست بعيدة المعارضة عنهم ولا رموزها عن الناس كما هي في اليمن، خصوصاً حركتي المهدي والمرغني اللتين ورثتا الحركة الصوفية، فهناك يستطيعون أن يحشدوا عشرات بل ومئات الآلاف في الموالد النبوية على الأقل . تختلف السودان عن اليمن أن هناك سعة في أفق التعامل لدى الكثير من رموز المعارضة ورموز الحكم على السواء.. قال لي اللواء سيف الدين عمر سليمان وهو مدير عام هيئة الجمارك السودانية أنه في نفس ليلة الافتتاح لمعرض الخرطوم الدولي وبعد الافتتاح، ذهب لحضور عقد قران نجل وزير الدفاع على ابنة أخت الصادق المهدي، وقال لي إنهم في السودان يعارضون ويوافقون لكنهم في الحياة العامة كلهم سودانيون متآلفون، وخلافهم لا يفسد للود قضية.. وهذا موضع تميز كان اليمن أولى به. في الختام.. اليمن والسودان شعبان مستهدفان وتجمعهما قضية واحدة هي الوحدة التي لا يريدها أعداء الأمة، ويريدون لهما أن يكررا مأساة فلسطين والعراق في العرب، ويأبى الله إلا أن يصمدا في مواجهة الغزاة من الداخل والخارج معا.