انبثقت كنبتة من الأرض.. من ذات عناصرها الأصيلة، احترمت تفاصيل الحياة صغيرها وكبيرها، راعت تقلّب الفصول واستوعبت دورات التاريخ، وما زلنا نصغي فيها إلى نبض الأولين.. تلك عمارتنا التي "تزوَّجت الأرض".. أدركت بفطرتها المعاني الحقيقية لعلاقتها بالمحيط والبيئة، فلبت بأسلوب جميل حاجات الناس، تفاعلت معهم وعكست بصدق مفاهيمهم ومعتقداتهم، تقاليدهم وأفكارهم وعتّقت خبراتهم وتجاربهم عبر آلاف السنين. وبما أن العمارة وليدة المكان والزمان والاحتياجات، فقد بلغ من الارتباط وتبادل التأثير بين العمارة والإنسان أن ذهب الكثيرون إلى الربط بين الطابع المعماري وبين ملابس الإنسان وملامح وجهه في مختلف المناطق والعصور، كالربط مثلا بين الجسم الممشوق للشاب الأغريقي الملتف بردائه وبين العمود الدوري الإغريقي بقنواته الرأسيه، والربط بين شكل القبّة والعمامة العربية، وشكل السقف الصيني بأطرافه المرتفعة مع شكل القبعة الصينية والملامح الصينية ذات فتحات العيون والحواجب المائلة. والعمارة التقليدية العربية عموماّ، واليمنية خصوصاّ، مدرسة هامة في عمق الترابط بين الإنسان والعمارة، ورغم أن بعضهم يذهب إلى ربط أشكال الزخارف والنقوش في العمارة اليمنية بشكل أحرف الكتابة اليمنية القديمة (المسند) وطريقة تعبيرها، لكن العين تلتقط بسهولة التشابه العفوي بين الزخارف التي تطرز واجهات المباني اليمنية ورسوم الزي اليمني التقليدي.. فوق كل ما صنعته يد إنسان في ذلك "البلد المنقوش على الحجر"، وكأن اليمني يسقط النقوش المحفورة في أعماقه نحتاّ على حجارة البيوت، وعلى خشب الأبواب والنوافذ والصناديق، وعلى فضة الأساور والمكاحل والأحزمة والخناجر.. يودعها كلها بعض روحه.. ولأن اهتمام العمارة العربية عموما- واليمنية خصوصا- بالجمال لم يتعارض أو يقل عن حرصها على تأدية الوظيفة، فإن جمال الزخارف في واجهات الأبنية اليمنية وتفردها قد استخدم كلغة تعبير لا كعلامة ترف كما ألفناها في باقي مناطق العالم، ولكثير من هذه النقوش والفتحات المختلفة المقاسات والأشكال وظيفة مهمة يؤديها، كالتهوية أو التكييف أو الإضاءة أو حماية الخصوصية بل وأحيانا الناحية الدفاعية، وحتى اختيار طلاء الزخارف وأطراف النوافذ بالكلس الأبيض (النورة) لم يكن لجماليته فحسب، بل لطرد الحشرات وعكس بعض أشعة الشمس الحارقة ايضا. عمارة الأجداد عالم غني، نعثر في رحابته على ما لا ندرك أننا نفتقده، على أجوبة أسئلة حيرتنا.. نتلمس مكاننا بمواجهة ما يدعى "العمارة الحديثة" التي أسأنا فهمها، فقلدناها دون تفكير، استوردناها جاهزة كالمعلبات دون نكهة، كما هي، بموادها وأساليب بنائها وفلسفتها.. وحتى "توابعها" أو ربما أسبابها، من عادات وسلوك وتقاليد ولباس وسلبيات، مما لم نستطع في العمق تبنيه، وما زلنا نعاني الانفصام المؤلم.. بين عمارة تعيش سجينة داخلنا وعمارة نعيش سجناء داخلها، وفي حين تغدو قصور الشام والقاهرة وأوابدنا التي شهدت التاريخ في مختلف فصوله "عمارة صمت" نمسي نحن غرباء داخل بيوتنا.. بل وأجسادنا.. "والغربة في البيت – كما يقول شيخ المعماريين حسن فتحي- أبشع أنواع الغربة". والجدل يطول حول الأصالة والمعاصرة، والفرق كبير بينهما، فكثير من الأعمال المعمارية الحديثة لا تستطيع التلاؤم مع مناخنا أو حاجاتنا الخاصة أو تقاليدنا، والمشكلة أن الخطأ المعماري قد يحتاج عقوداً أو قروناً أحيانا لإصلاحه، هذا إن أمكن إصلاحه أصلا، وليس حلما بل هو تحدي وجود أن نكرّس عمارة عربية حديثة تستمد قيمها ومزاياها من روح العمارة العربية الأصيلة، وتستفيد في ذات الوقت من تسهيلات التكنولوجيا لتلبي احتياجاتنا العصرية، شريطة أن نختار بذكاء مما تزخر به عمارتنا العريقة من قيم معمارية هامة ما زال الكثير منها صالحاً للاستمرار وقابلاً للتطوير. أردت أن أقول.. إن علاقة الإنسان بالعمارة علاقة تبادلية راقية متباينة التأثير، وبالتالي فدعوتي هنا إلى عمارة عربية حديثة ممتلئة بهويتها ليست من أجل الحجر بل من أجل البشر.. وإذا كان الكاتب عيسى علي العاكوب يقول في مقدمة ترجمته كتاب "فيه ما فيه" لأحاديث مولانا جلال الدين الرومي: "نحن في غاية الحاجة إلى الأدب المؤدب"، فأنا أقول هنا نحن في غاية الحاجة إلى "العمارة المؤدبة"، أجل.. هناك أدب للعمارة كما هناك أدب لكل شيء، وأدب العمارة أن تحترم الإنسان والمكان والزمان.