عندما أرادت أمريكا، فإنها اغتالت قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، ومزقت صواريخها جسد أبو مهدي المهندس نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي، مع جسد سليماني. الاستهداف الأمريكي للقائدين الكبيرين تم في مطار بغداد. ولهذا يحتج العراق الرسمي على انتهاك سيادته. والسيادة مجرد حديث نظري في حالة العراق، وبلدان عربية عديدة. سيادة العراق منتهكة منذ احتلاله أمريكيا في عام 2003. ولا يتبقى من السيادة الشكلية شيء مع استباحة إيران لهذا البلد، وتشكيلها عشرات المنظمات والمليشيات الطائفية التي تأتمر بإمرتها. وولاء هذه المنظمات لإيران أكثر من العراق الوطن الذي ينتمي إليه قادتها وعناصرها. قبل أيام حاصرت عناصر تنتمي لفصائل تابعة للحشد الشعبي السفارة الأمريكية في بغداد. وهؤلاء عراقيون ينتهكون بأنفسهم سيادة بلدهم، فضلاً عن تجاوزهم للقانون الدولي. ودخولهم المنطقة الخضراء المحصنة، ووصولهم لمبنى السفارة، ومحاولة اقتحامها، وإشعال النيران بالقرب منها، إسقاط آخر للسيادة الوطنية. وعندما تفتح قوات الأمن الأبواب المصفحة لدخول هذا العناصر، فهذا يعني أن أجهزة رسمية في النظام الحاكم تشارك بنفسها في ضرب السيادة التي هي مسؤولة عن إقرارها واحترامها. حادث السفارة هذا، كان رد فعل من حزب الله العراقي، وحلفائه في الحشد، على استهداف واشنطن لعناصر الحزب، حيث قتلت وجرحت 51 منهم، في قصف رداً على اتهامها للحزب بقصف قاعدة عسكرية قرب كركوك تتواجد فيها قوات أمريكية ما أسفر عن مقتل متعاقد أمريكي، وجرح عدد من جنودها. الحماقات تُخّلف حرائق هائلة إنها دائرة الفعل، ورد الفعل، تتطور وتتسع وتصير خطراً كبيراً، وربما تبلغ الذروة وتكون حريقاً هائلاً مع تصاعد العمليات الثأرية المتبادلة بين البلدين مباشرة لأول مرة في علاقاتهما المتوترة منذ عام 1979. وقد تكون الأذرع الإيرانية طرفاً في المعركة المفتوحة، وتصريحاتهم تتوالى بشكل مكثف متوعدة ومهددة أمريكا. وحلفاء واشنطن في المنطقة لن يكونوا بمأمن من الاستهداف. حماقة مقتل المتعاقد الأمريكي، الذي لا اسم معروف له، تطورت للأسوأ حتى أخذت رأس قاسم سليماني، وهو قائد عسكري معروف وكبير في منظومة الحكم بإيران، ومعه أبو مهدي المهندس، وهو اسم مهم داخل العراق، وقائد بارز في الحشد، والمليشيات المكونة له. وفي الحرب العالمية الأولى، التي خلفت خسائر بشرية ومادية هائلة في أوروبا والعالم، تسببت رصاصة طائشة من متطرف صربي قتلت ولي عهد النمسا في إشعالها. وعندما تحركت دائرة الثأر فإنها لم تتوقف إلا بعد أربع سنوات من الدماء والدمار الضخم. والحرب العالمية الثانية الأوسع والأكثر في الخسائر لا تنفك عن الحرب الأولى، فهي امتداد لها، ولرصاصتها المجنونة. تأت النيران من مستصغر الشرر فعلاً. هذه مقولة صحيحة ومُجّربة كثيراً. والعراق الممزق خرج من التاريخ، ودخل الجحيم، بسبب حماقة صدام بغزو الكويت عام 1990 بناء على كلمتين من السفيرة الأمريكية فهم منهما أن واشنطن غير مهتمة بهذه الدولة الصغيرة حتى لو غزاها، فكانت تلك شرارة، صارت ناراً هائلة أحرقت صدام والعراق والعراقيين وتداعياتها مستمرة لليوم. والذي خطط وقرر إطلاق عدة صواريخ على قاعدة يتواجد فيها الأمريكانبالعراق ربما لم يفكر جيداً في نتائج حماقته، وربما تصور أن العملية ستمر، ولن تتحرك واشنطن استناداً على استهدافات سابقة لحلفاء أمريكا بالمنطقة، ولم يقابلها رد، مثل قصف شركة أرامكو السعودية، وتفجير ناقلات نفط في ميناء الفجيرة الإماراتي، بل الأخطر أن إسقاط إيران لطائرة تجسس أمريكية فوق مياه الخليج لم يترتب عليه عقاباً عسكرياً مباشراً، فقد أوقف ترامب ضربة عقابية قبل التنفيذ بعشر دقائق فقط، واكتفى بفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية والمالية عليها. ماذا يغري إيران لتحدي أمريكا؟ في عمليات الصراع، فإن ضعف الخصم يغري على مزيد من إيذائه وإهانته، وصمت الخصم عن الرد قد يُفسر على أنه نوع من الجبن، وإغراء على تصعيد الإهانة، وربما كانت هذه رؤية إيرانلأمريكا ترامب، فقد ظهرت بشكل قوي ومتحدٍ في مواجهته، والتحدي يتزايد مع مواصلة ترامب دعوته لقادتها للجلوس معه للتوصل لاتفاق نووي جديد بعد انسحابه من الاتفاق الذي أبرمه الرئيس السابق أوباما. وأغرى إيران كذلك طمأنة ترمب وأركان إدارته لها بأنهم لا يسعون لإسقاط النظام، إنما فقط تعديل سلوكه. ومما يجعلها في حالة انتشاء هو قوة ونفوذ الفصائل التي تدين لها بالولاء في بلدان عربية. وفشل السعودية في هزيمة حليفها الحوثي في اليمن. وإخفاق الثورة في سوريا، واستعادة الأسد لقوته وبقائه، وهو حليف استراتيجي لها. ومواصلة حزب الله، ذراعها القوية، هيمنته على الحياة السياسية والقرار في لبنان. والعلاقات الطيبة بينها وبين حماس وفصائل المقاومة في فلسطينالمحتلة، وهو اختراق منها لمعقل مقاومة سنياً. لكن نحن أمام رئيس أمريكي لا يمكن توقع سلوكه، ولا ضبط هذا السلوك، ولا حتى من أقرب مستشاريه في إدارته، وعندما يكون التوقع أن يضرب فإنه لا يفعل، وعندما يكون التحليل أنه سيكتفي بقصف محدود لموقع للحشد ترضية للرأي العام في بلاده لمقتل أحد المواطنين، فإنه يلجأ لتصعيد ضخم بقتل سليماني. وربما المهندس لم يكن مستهدفاً، لكن مقتله بسبب وجوده مع الجنرال الإيراني في نفس السيارة. ترمب يبدأ 2020 بالتصعيد ..لماذا؟ هذا العام 2020، هو الأهم ل ترمب، أكثر من عام 2016 الذي فاز فيه بالرئاسة حيث لم يكن يتوقع الفوز الكاسح، أما في السنة الجارية فهناك انتخابات رئاسية، وهو أكثر رغبة في الفوز بفترة ثانية لأسباب سياسية وشخصية، السياسي يتمثل في الرد على الديمقراطيين الذين يسعون لعزله، ليقول لهم إن الشعب الأمريكي أسقط خطتكم، وأبقاني في البيت الأبيض مرة أخرى، كما يريد وضع الديمقراطيين تحت ضغوط هائلة إما تأييده في عملياته العسكرية، أو انتقاده وخسارة الناخبين. والسبب الشخصي مرتبط بطبيعة النفسية، فهو معجب جداً بذاته، ويتصور أنه أعظم رئيس وهبته السماء لأمريكا، وسبق وقال إن إقالته ستجلب أضراراً هائلة للاقتصاد الأمريكي، وهي لغة مستبد من حكام العرب والعالم المتخلف، وليست لغة رئيس أهم ديمقراطية في العالم. يريد ترمب أن يظهر بطلاً أمام الشعب الأمريكي، وأنه لا يقبل المساس بأي مواطن بالخارج، ومقابل مقتل مواطن واحد يقول لشعبه أنا قتلت العشرات، ويطمئنهم بأنه لا يقبل المس بهيبة بلاده وسفاراتها ومصالحها بالخارج، ولهذا يصفى قائد إيراني كبير، وقائد عراقي مهم، مُتهمان منه بأنهما ضمن المخططين لمحاصرة السفارة. كسر قواعد الاشتباك العملية الأمريكية الكبيرة والمفاجئة كسرت قواعد الاشتباك مع إيران، فكل بلد كان يتجنب الصدام المباشر، وتصفية الحسابات السريعة كانت تتم عبر وكلاء وأذرع البلدين في المنطقة المشتعلة والتي قد تزداد اشتعالاً بعد قتل سليماني والمهندس ما لم تتم صفقة تهدئة مفاجئة. فالتهديدات الإيرانية، وتهديدات حلفائها في العراقولبنانوسورياواليمن تتطاير مثل الشهب الحارقة منذرة بجحيم قادم على أمريكا، ليس في المنطقة فقط، إنما يوسعون ساحات الانتقام لتشمل العالم الإسلامي، والعالم كله. حدود إيران في المواجهة اعتقد أن إيران لها حدود في المواجهة، ومهما كانت قوية عسكرياً ولديها وكلاء نافذين فلا قدرة لها على تحدي القوة العظمى الوحيدة في العالم، وترمب قد يرفع سقف المغامرة، فهو ليس حكيماً ولا سياسياً مثل أوباما، ومأزق إيران ليس في قوة أمريكا فقط، إنما الداخل الإيراني يشهد توترات بغضب فئات شعبية من تردي الأوضاع المعيشية والقمع السياسي، وفي الانتفاضة الأخيرة سقط عدد كبير من القتلى بأيدي النظام. كما أنها لا تحظى بصداقات أو علاقات طيبة واسعة في المنطقة والعالم، إلا أذرعها في بلدان عربية، وأي فعل عنيف منهم سيضع حكوماتها في أزمات لا تتحملها مع أمريكا. وروسيا والصين لن تجازفا بالدخول في مواجهة مع واشنطن لأجل إيران، قد يوفران دعماً سياسياً لها، ولكن لا أثر كبير له في حالة تكسير العظام عسكرياً. سبق وسخر الرئيس الإيراني حسن روحاني من ترمب قائلاً له: لا تعبث بذيل الأسد الإيراني. واليوم، وبعد صمت طويل، يرد ترمب بشكل عملي على روحاني قائلاً له: لا تعبث أنت بذيل الأسد الأمريكي. ومع كتابة هذا المقال لم يكن هناك رد إيراني عملي إلا الإفراط في التهديدات، إنما هذا التصعيد ساهم في تراجع الاهتمام بالحراك العراقي، وجعل الحدث الليبي ونشر تركيا لقواتها خارج التغطية الإعلامية. │المصدر - الجزيرة