التناحر على السلطة الذي شتت التحالفات التي قامت إبّان الثورة اليمنية بين الإخوان وغيرهم من أصحاب الأيديولوجيات المختلفة، مكّن الحوثيّين من ترتيب بيتهم الداخلي وفتح أمامهم المجال شاسعا لتنفيذ مشروعهم التوسعي الذي يهدد بنسف وحدة اليمن. خطر أعاد حزب الرئيس السابق عبدالله صالح للبروز من جديد على الساحة السياسية. تواجه الجهود الإقليمية والمحلية لجمع شتات الفرقاء اليمنيين في مواجهة التوسع الحوثي العديد من التعقيدات بالغة الصعوبة، التي أفرزتها الأزمة السياسية العنيفة التي شهدها العام 2011 وأفضت إلى تنحي الرئيس السابق علي عبدالله صالح عن السلطة إثر موجه من الاحتجاجات وقفت فيها معظم التيارات السياسية المتباينة إلى جوار بعضها البعض في سبيل تحقيق هدف وحيد هو إسقاط رأس النظام. وقد رأى الكثير من المحللين حينها أن التحالف العريض الذي أسقط صالح لن يصمد طويلا في ظل النهم المفرط لدى مراكز القوى لاقتسام تركة الرجل المريض الذي استطاع أن يحكم اليمن لأكثر من ثلاثة عقود، وفقا لسياسة الرقص على رؤوس الثعابين بدل التخلص منها، وهو الأمر الذي حول تلك الثعابين إلى "تنانين" ضخمة استطاعت في نهاية المطاف إلحاق هزيمة موجعة بالحاوي الّذي نجا من الموت بأعجوبة إثر تفجير ضخم طاله في عقر داره. لم تتمكن ثورة شباب التي اندلعت في اليمن مطلع العام 2011، من القضاء بشكل نهائي على الرئيس السابق وإن استطاعت أن تزيحه من الحكم نتيجة مرونته الشديدة وخبرته المتراكمة في التعامل مع خصومه السياسيين الّذين خبرهم جيدا، والذين كان معظمهم من المحسوبين على نظامه، بما في ذلك أقوى أحزاب المعارضة وأكثرها شراسة في مناهضة حكمه في الأعوام الأخيرة، التجمع اليمني للإصلاح. كان إخوان اليمن، الذين عاشوا في كنف صالح لثلاثة عقود واستطاعوا اختراق أجهزته الأمنية، قد سئموا اللعب من تحت الطاولة معتقدين أن ربيعهم الخاص قد حان وهم يرون أقرانهم في عدد من الدول العربية الأخرى ينقضُّون على الكراسي تحت عاصفة الربيع العربي. تناسى الإخوان خصومهم الأيديولوجيّين وكرسوا كل جهدهم للتخلص من خصمهم السياسي المجرد من الأيديولوجيا والمحكوم برغبته الجامحة في توريث الحكم لنجله. فوقف الإخوان إلى جوار الاشتراكيين والناصريين واليساريين والبعثيين والانفصاليين وحتى الحوثيين، معتقدين أنه يمكنهم لاحقا التخلص من هؤلاء الخصوم بعد السيطرة على السلطة. غير أنّ العقلية البراغماتية كانت مستحكمة أيضا على عقول تلك الأطراف التي أخذت تستغل حالة الانفلات الأمني في الأعوام اللاّحقة للعام 2011 لتتوسع في مختلف الاتجاهات. وكان الحوثيُّون هم الأكثر قدرة على ذلك، مستفيدين من الإرث المذهبي في المناطق الزيدية التي كانت في معظمها شديدة الولاء للرئيس صالح، والتي اعتبرت أنّ الحوثي هو حاضنتهم المناسبة للانتقام من الإخوان الّذين بدوا أكثر الأطراف عنفا في مواجهة صالح، مستغلين أدواتهم الدينية والقبلية وحتى خلاياهم القديمة النائمة في الجيش والتي كانت السباقة في إعلان التمرد على الرئيس صالح وتشكيل "الجيش الموالي للثورة". كانت كل الأطراف تدمر – بلا هوادة – كل خطوط العلاقة مع الأطراف الأخرى، وهو الأمر الذي أفضى لاحقا إلى حالة كره واحتقان غير مسبوقة في الشارع اليمني، وخصوصا بين أنصار الرئيس السابق وعناصر التجمع اليمني للإصلاح الّذين لم يدّخروا جهدا في إطلاق كل الأوصاف البغيضة على الرئيس السابق وأنصاره الذين كانوا يمثلون قوام المؤتمر الشعبي العربي، إضافة إلى الكثير من عامة الناس الباحثين عن الأمان الاجتماعي والاقتصادي وفقا للرؤية الشعبية، والذين ألفوا الرئيس صالح بكل حسناته ومساوئه. أفضى سقوط صالح كذلك إلى خروج عدد من الأطراف مزهوة بانتصارها، وكان على رأسها حزب الإصلاح وأولاد الشيخ الأحمر واللواء علي محسن الأحمر. فيما كان الحوثيون هم المنتصر الأكبر الذي كان يعمل بصمت ويستغل كل ثانية لتثبيت أقدامه في وحل المشهد السياسي اليمني الآسن. لم يكد يسقط صالح حتى دبت الخلافات بين الأطراف المزهوة، وظهرت قوة الحوثيين القادمين من خلف الأضواء، حيث أنّهم استطاعوا انتزاع الكثير من المكاسب من أيدي الإخوان وأولاد الأحمر واللواء علي محسن. ولم يمض وقت طويل حتى استطاع الحوثيون أن يخرجوا من قمقمهم الجغرافي في صعدة ليتوسعوا في عمران وحجة وذمار والمحويت والجوف وحتى محافظة صنعاء والمناطق التي كانت تمثل الثقل القبلي لأولاد الشيخ الأحمر "حاشد"، وخصوصا عمران. في تلك اللحظة بالذات، بدأ الكثير من قياديّي حزب الإصلاح في مرحلة مراجعة حسابات متأخرة، وهو الأمر الذي أفضى إلى مطالبات بإعادة التحالف مع الرئيس السابق وحزبه، كما جاء صراحة على لسان الشيخ الديني عبدالمجيد الزنداني ورئيس كتلة حزب الإصلاح البرلمانية زيد الشامي وغيرهم. وقد قوبلت هذه الدعوات بالرفض من قبل الكثير من قواعد الإصلاح الّذين تمّت تربيتهم خلال السنوات الماضية على مبدأ الحقد على "الرئيس السّفاح" . في ذات الوقت الذي خرجت فيه دعوات التصالح مع الرئيس السابق، بعد إدراك ثقله واستحالة إلغائه سياسيا رغم كلّ الأساليب التي تمّ استخدامها، بدأ التحالف السياسي الهش المتمثل في "اللقاء المشترك" يتداعى من خلال ظهور عداوات أيديولوجية بين الأحزاب المنطوية تحت رايته على السّطح، ليدب خلاف من ثمة بين أكبر أحزابه وهي: الإصلاح والاشتراكي، على شكل سجال إعلامي غير مسبوق منذ إنشاء اللقاء. وعلى الجهة الأخرى أظهرت ثلاثة أحزاب من بين أحزاب اللقاء المشترك موقفها المساند للحوثيين في حربهم مع الإصلاح وهي: حزب البعث، الموالي لسوريا، وحزبي الحق واتحاد القوى الشعبية الهاشميّة، فيما عبر الحزب الوحدوي الناصري ذو التوجه القومي عن بغضه لكل الأطراف. وفي ظل رسم خارطة سياسية جديدة يبدو فيها الاشتراكي يجمع بين الأختين حيث هو أكثر ميلا للحراك الجنوبي، في الوقت الذي يتحالف فيه مع الحوثيين سراً، وفي كلا الحالتين فهو متفقا معهم على عداوة الإصلاح ، فيما انضمت الأحزاب الهاشمية وبعث سوريا إلى صفوف الحوثيين، بدا التجمع اليمني للإصلاح يشعر بالجزع والندم معا على الكثير من القرارات الخاطئة التي اتخذها منذ العام 2011، ومن أبرزها تلك التي كانت معادية للمملكة العربية السعودية الّتي جاءت استجابة للموقف التنظيم الدولي للإخوان، وهو الموقف الذي جرّد إخوان اليمن من أيّة مساندة إقليمية في حربهم الخاسرة مع الحوثيين بالتزامن مع حسرتهم تجاه انهيار النماذج الإخوانية في عدد من دول "الربيع العربي" المزعوم وعلى وجه الخصوص مصر. وبهذا، فقد بات حزب المؤتمر الشعبي العام، الذي يضم الأغلبية غير المؤدلجة من اليمنيين بحسب مراقبين هو القوة السياسية الّتي يمكن أن ترجّح كفة أيّ تكتل في صراعه مع الآخر، وهو ما بدا جليا من خلال محاولات الاسترضاء التي عبرت عنها قيادات حوثية وإصلاحية وحتى اشتراكية لبناء تحالف جديد مع هذا الحزب الذي ظن الكثيرون أنّه أوشك على الموت بعد انقضاء الصلة بينه وبين السلطة. وعلى الرغم من المحاولات التي تسعى لبناء جبهة سياسية عريضة للحد من التوسع الحوثي المسنود بدعم لوجستي إيراني قد يهدد المنطقة، إلاّ أنّ جهود بناء مثل هذا التحالف تصطدم بإرث من التحديات في ظل رفض متطرفي الإصلاح والمؤتمر خصوصا، التغاضي عن الكم الهائل من الأحقاد والدماء. حيث تؤكد مصادر أنّ الشيخ القبلي حميد الأحمر ذو الخبرة في إجهاض الاتفاقات السياسية في اليمن، يُعدّ أبرز العقبات التي تقف في طريق هذا التقارب، منطلقا من كونه هو المستهدف الأول في حال عاد الرئيس السابق للواجهة السياسية من جديد، فيما يرى عدد من المقربين من الرئيس عبدربه منصور هادي أنّ مثل هذا التقارب قد يستهدف إضعاف نفوذ الرئيس هادي لصالح سلفه. ومع استمرار صراع التصالح كما استمر صراع عودة الصدام بين القوى السياسية اليمنية، يواصل الحوثيون اقترابهم من عنق الدولة اليمنية في ظلّ مؤشرات على موافقتهم على إعادة انفصال الجنوب مقابل تمكينهم من دولتهم التي يقولون إنّها سلبت منهم في العام 1962.