إذا كان التراجع عن الخطأ فضيلة، كما تقول الحكمة الإنسانية، فان «المراجعة الدائمة للتجارب تبقى أم الفضائل»، خاصة في العمل الوطني وقيادة البلاد، لاسيما حين يستهدف هذا العمل تغييرا بحجم طموحات ثورات اليمن التي قامت منذ منتصف القرن المنصرم. ان طريق التنمية الحقيقية يمر بالضرورة عبر توفير عدالة اجتماعية تعزز تكافؤ الفرص وتوسع قاعدة الشراكة وتحاصر اقتصاد الريع وما يرافقه من فساد وهدر، وتقليص الفوارق بمشاركة أوسع لكافة شرائح المجتمع في العملية السياسية والاجتماعية، تأكيدا على تلازم الديمقراطية السياسية مع الديمقراطية الاجتماعية، عبر بناء مجتمع الكفاية والعدل لأبناء الشعب بطبقاته المسحوقة، وليس توفيرها لهم بحصرها في صوت صناديق الاقتراع الذي يدلون به عند الحاجة إليهم، وإنما أيضا توفير صوت الحرية الحقيقية للتعبير، بعيدا عن تأثير المال والنفوذ والحاجة، وبعيدا عن التأثير الطائفي والحزبي، وهي متلازمة اليمن منذ أربعة عقود، حيث تعتبر هذه الحلقة من أكثر الحلقات سلبية في أثرها، وقد حالت دون ارتقاء وتقدم البلاد، وبقي اليمن يغرد خارج سرب الإنتاج العلمي والمعرفي، وبالتالي حالت دون ظهور نموذج اقتصادي فعال، حيث يمكن أن يوفر فرص العمل الكافية لاستيعاب العاطلين وانخراطهم في المساهمة المجتمعية وزيادة الإنتاج، مما سيؤدي بالتأكيد الى دخول الاقتصاد اليمني في حالة تنافسية حقيقة، – اقلها إقليمية. كما ان الحكومة التوافقية ومن قبلها حكومات الحزب الواحد لم تضع أهدافا تنموية بديلة، من شأنها أن تؤمن فرص العمل لإخراج الفئات الريفية والمدنية الفقيرة من حالة الانتظار والقلق والعوز إلى حالة العمل والإنتاجية، بالإضافة إلى أن الحكومات المتعاقبة – وان كان عنصرها البشري لم يتغير ولم يتبدل- لم تصغ أهدافا مرحلية مرسومة وتجاهلت تفعيل دور الشراكة مع أرباب العمل والشركات العاملة في البلاد، والجامعات ومعاهد التعليم الفني والتقني، كما واكبت حالة الجمود في دعم الأبحاث العلمية وتطوير الصناعات المحلية الحديثة والتقليدية، فلم تتغير الوصفات منذ ستة عقود، وبالنتيجة لم يتزحزح حيّز الفقر والبطالة، خاصة لدى عنصر الشباب المتعلم، بل تفاقمت حالة الفقر والجهل والمرض، وبقي اليمن يقبع في أسفل قائمة الدول المنتجة والدول المكافحة للفقر، كما ظل راكدا في أدنى قائمة الدول بالنسبة لمعدل السكان العاملين، مما جعله يتربع وبجدارة على عرش الدول في معدل البطالة وأكثر الشعوب نزوعا للهجرة والنزوح، واقل الدول إنفاقا على البحوث والتطوير. ونحن نتحدث عن التنمية والبناء، وإرساء العدالة الاجتماعية كمعيار لنجاح الحكومات ومدى جدارتها بثقة الشعوب، لابد أن نتحدث عن الحركات الاحتجاجية الشعبية والسياسية ودورها في إحداث التنمية، لما تقوم به من تشذيب للعملية السياسية وتقليم دور الحكومة لتحقيق أفضل المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للشعوب. إن ما يسود الشارع اليوم من توترات مناهضة للإصلاحات التي أعلنت، والمسيرات الاحتجاجية المنادية بإسقاط الحكومة وإلغاء قرارات الإصلاحات الاقتصادية، التي توجت بقرار رفع الدعم عن المشتقات النفطية كقرار أولي للبدء في عملية الإصلاح الشامل، الذي توازت معه عدة نقاط إصلاحية مهمة يراد تنفيذها وفق خطة زمنية معلومة، يدعونا أن نقف وقفة جادة مع أنفسنا منقبين عن طبيعة هذه المسيرات والاعتصامات، مناشدين كافة المنخرطين فيها إلى تحري مصلحة البلاد، متخذين الوعي والحس الوطني حكمين فيصلين لمعرفة ما هو في صالح البلاد وممارسته بشكل سلمي، بعيدا عن أي مظاهر تمس هيبة الدولة أو تقلق السكينة العامة أو تعكر النقاء الروحي السائد في المجتمع. كما نطالب كافة الأطياف المعنية بالتغيير الديمقراطي الحقيقي، وليس من مكون شعبي واحد أو تيار سياسي منفرد، اتخاذ النهج البناء والنموذج المتألق في التعبير عن الرأي، مؤكدين على حرية التعبير بالوسائل المشروعة التي كفلها القانون والدستور، كالاحتجاجات النزيهة والاعتصامات النقية والمسيرات الشعبية السلمية الهادفة، لما لها من دور في خلق التوازنات المجتمعية، وانعكاسات ذلك على بنية الوضع السياسي في البلاد، انطلاقا من الإيمان بما قدمته الحركات الشعبية والمظاهر الاحتجاجية من إسهامات وطنية في الكثير من بلاد العالم، والدور الحيوي الذي لعبته في انجاز التغيير الديمقراطي المنشود. لاشك ان المسيرات والاعتصامات التي نفذت، ساهمت بشكل واضح في تحريك الوضع السياسي الجامد في البلاد، مجددين رفضنا لما شاهدناه من مظاهر مسلحة وتصرفات غير مسؤولة، آملين ان تعمل كافة القوى الشعبية والحركات المعنية بالتغيير الديمقراطي بشكل موحد وتخطيط سليم، بعيدا عن المحاصصة والشراكة الهشة، استشعارا بحاجة الوطن، وإدراكا لأهمية صناعة التغيير المتوازن، وإيمانا بأن التغيير الديمقراطي هو مجموع تغييرات كمية وكيفية، تؤدي إلى خلق تغيير جذري في المجتمع السياسي والشعبي، متمنين بقاءها بعيدا عن الأخطاء التي حدثت في السابق، متنزهة عن ممارسات الماضي المخزية، كما نهيب بكافة المكونات الحيوية الانخراط في عملية إصلاحية جادة ومسؤولة والمساهمة في وضع الخطط الإستراتيجية للبلاد جنبا إلى جنب مع بقية الأطياف المشاركة في السلطة والحكومة. لقد شهدت البلاد تراجعا مخيفا للحركات الاحتجاجية الطلابية والشبابية والفعاليات الشعبية في الثلاثة العقود الماضية، مما أدى إلى وجود فراغ اجتماعي سياسي شاسع يقاس بالسنة الضوئية بين السلطة والشعب، وتجاهلا رهيبا لاحتياجاته الرئيسية، وظهور التحكمية والهيمنة في تدبير الشأن السياسي العام والاقتصادي الخاص، مما أدى إلى دخول البلاد في نفق مظلم لا نهاية له من المآسي والويلات المتلاحقة التي حلت بالبلاد والعباد، لهذا يجب ألا تتوقف الحركة الاحتجاجية النزيهة والواقعية التي لها أهداف وطنية بحته عن ممارسة دورها المحوري المهم، حيث لم تنتف عوامل إيجادها وبقائها.. إن طبيعة السلطة في بلادنا منعزلة تماما عن المكونات المجتمعية والسياسية، ولهذا يجب أن تكون الحركات الاحتجاجية قوية ولها أهداف تنموية وتحمل مشروعا وطنيا ناضجا لتتسع رقعتها مع الأيام لتشمل أقصى حد جغرافي على خارطة البلاد تتويجا لتجاهل السلطة لمطالب هذه الاحتجاجات، ويجب ألا تضعف أو تنغلق بأي فكر أو على أي منهج، أو تنحصر في جغرافيا بعينها، حيث سيمثل هذا خسارة كبيرة لحلقة مهمة من حلقات التغيير السليم والآمن الشجاع، حيث ما زالت الدولة والسلطة عبارة عن عوامل متراكمة من الأخطاء والتهميش والإقصاء لكافة الأطياف الفاعلة في الساحة على مدى أعوام وسنون مضت، ولن يكون هذا ما لم تكن الحركات الشعبية متسعة الأفق لديها القدرة على الاندماج ضمن أي مكون آخر، وكذلك قدرتها في تقييم وضعها والمساهمة بفاعلية لتحسين الوضع المقلق ومدى تداركها لأخطاء الماضي ومعالجتها بروح ناقدة بعيدا عن الاملاءات الضالة والمنافع الشخصية الضيقة، متخلين عن الجمود الفكري والعقائدي الذي يستخدم لوصف أولائك الذين يتمسكون بالمدلول الحرفي للكلام النظري. لقد حاول الشعب منذ تسعينيات القرن المنصرم تجنب الثورة مرارا وتكرارا، كرد فعل لعدم شعوره بالطمأنينة الذي ولّده غياب الفعاليات الاحتجاجية الشعبية والسياسية، التي تسهم في إبراز الحق الشعبي، لما تلعبه من دور رئيس في فضح الممارسات الخاطئة التي تقوم بها السلطة والحكومة، مما يؤدي إلى تصويب المسار الخاطئ وإعادة السلطة والحكومة إلى جادة الصواب. يبقى التأكيد على الحركات الاحتجاجية والشعبية وكافة الأطياف المجتمعية والسياسية، في التمسك بالثوابت الوطنية والحفاظ على سيادة البلاد ووحدتها، وان وجودها ومدى صلابتها مرتبطان بمدى ارتباطها باحتياجات المواطن وتطلعاته، محذرين من مغبة الارتهان لأطراف تسعى إلى تفتيت البلاد، وان تتجلى السيادة الوطنية في كل ممارساتها، فلا توجد المواطنة والحرية في دولة بدون سيادة، كما يجب أن تنمي لدى أنصارها الإحساس بالمواطنة والعزوف عن التشرذم الطائفي والفئوي، وتؤكد على التمسك بالقيم الدينية والمجتمعية، وان تكون أكثر فهما للمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، وان تساهم في التعامل مع ما يدور من أحداث والتفاعل معها، بالاستثمار للايجابي منها إلى ابعد حد وتعمل على محاصرة المتغيرات السلبية وإنهاء آثارها بدون أن يلمس الشعب أو ينوبه أي ضرر منها، مؤمنين بمبادئ الثورة وأهدافها، وان تسعى إلى إنشاء التوافقات على أسس متينة ووفق مبادئ عادلة ووطنية، بعيدا عن المحاصصة أو الشراكات المشبوهة، فالتوافقات التي تتم على أسس هشة لا تدوم وتؤدي إلى ظهور تشوهات معيقة في مسيرة العمل الوطني ودائما ما تؤدي إلى توترات مسلحة أو تقود إلى حروب أهلية. في الأخير.. يجب أن ندرك جميعا أن الديمقراطية تتطلب الانقسام في الآراء والمشاريع السياسية والوطنية التي تبني وطنا موحد الهوية مؤمنا بالحريات وحق الآخر، وليس إلى انقسام هوية وشروخ في النظام المجتمعي وتقسيم الشعب إلى شعوب فئوية وطائفية وبث روح التنافر في ما بينهم، فلا يجوز تهميش قضايا السيادة في ظل التوترات الهامشية أو الاختلافات المنهجية، كما انه لابد أن يكون هناك إجماع وطني على مبادئ الحكم التي يجب أن تحكم بموجبها البلاد، بعد الإجماع على شكل نظام الحكم لأنها مبادئ ثابتة متفق عليها بين كل الأطياف، ويجب ألا يكون هناك معيار آخر يفرضه طرف أو تيار مهما كانت قدراته أو قوته.