لا يقضي القاضي وهو غضبان، وكذلك كنت مقتنعة أن الكاتب لا يجب أن يكتب وهو غضبان ليحافظ على الموضوعية، ولا يجعل نفسه طرفا وخصما، بل يظل مراقبا ومحللا أمينا بعيدا عن المصالح الشخصية، الا أنني كلما حاولت أن أبتعد وأنسى لأكتب عن مقطع ال«يوتيوب» الذي شاهدته من إعداد طالبات في احدى الجامعات الرسمية عن التحرش الجنسي (اللفظي خصوصا) في الجامعة يعود رأسي ليغلي كالمرجل! وأنا أتذكر نفسي وقد كنت طالبة في تلك الجامعة، وأتخيل ابنتي فيما لو كانت في ذات الموقف، وأتخيل نصف المجتمع من النساء في ذات الصورة، وأفكر في حالة الفساد الأخلاقي الذي عم وطم، وما عاد يمكن السكوت والطبطبة عليه، وترحيله الى أيام قادمة، وتجاهله لعله ينتهي لوحده مع الأيام، حتى الحياء لن يمنعني من نقل ذات العبارات التي شكت منها الطالبات، فالحياء لا يكون الا في الحق، والسكوت عن الحق هو العورة، والعيب هنا وهو الجريمة التي تؤدي الى جرائم أكبر. طالبات محجبات وغير محجبات لم يقدرن على نطق الألفاظ القذرة التي تُرمى إليهن كالزبالة، فكتبنها على لوحات وغطين وجوههن ورفعنها للكاميرا ليخبرن المجتمع في رسالة صامتة عن معاناة كبيرة يحاول البعض إخراسها قصدا حتى وقد خرجت الى العلن؛ حفاظا على السمعة الفارغة والمفرغة من أي مضمون في ظل وجود هذه الممارسات على أرض الواقع. بناتنا اللواتي نربيهن «كل شبر بنذر» وبحبات أعيننا وسهر الليالي ونحرص على تعليمهن؛ لأن العلم سلاح لو جار عليهن البشر يخرجن للجامعات والشوارع ليواجهن هذا السيل من البذاءة والخسة التي تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون في الدول التي تحترم نفسها، وتحترم شعوبها، فمن المسؤول عن هذه الجرائم اللفظية والعنف اللفظي الذي قد يؤدي الى جرائم أكبر تضيع فيها أرواح برئية؛ لأننا سكتنا عن هذه الاستغاثات التي أطلقتها بناتنا، وحلقت في الفضاء العالمي، ولكنها لم تلامس نخوة المجتمع الذي يدعي نفاقا الحرص على شرف البنات وسمعتهن، بل يرتكب الجرائم لأجل ذلك؟ من المسؤول؟ الفتيات؟! هن جزء من المشكلة فملابس النوم والبيت لا تصلح للخروج الى العلن، وهذا منطق إنساني بسيط وفطرة سليمة وليس تقييدا للحريات، فحتى في أكثر المجتمعات الغربية انفتاحا وأعرق الجامعات، هناك قواعد للملابس تعرف ب dress code وفي الكليات العلمية يلزمون الأطباء والمهندسين بلباس أكثر صرامة، ولا يمكن للفتاة أن تظهر مفاتنها بزعم الحرية ثم تتوقع أن لا ينظر الناس، فالرجال ليسوا أحجارا، بل بشر من لحم ودم حتى لو كانت تصرفاتهم هذه تقترب الى درجة الحيوانية، وصدق الشاعر إذ قال: لحد الركبة تشمرينا بربك أي نهر تعبرينا كأن الثوب ظل كل صباح يزيد تقلصا حينا فحينا تظنين الرجال بلا شعور لأنك ربما لا تشعرينا فالنتيجة واحدة فالملابس نافذة، وهي فتيل لإشعال وبدء جريمة التحرش اللفظي الجنسي، وجزء من القضاء على الجريمة يكون بإلغاء أسبابها، ولا يفهم من قولي أني أريد فرض الحجاب على الفتيات، فمن لم تتحجب عن طاعة وقناعة ورضى فهي تؤذي الحجاب بسلوكها أكثر مما تفيده، ولكن الحل في الاحتشام وعدم الاستعراض ولبس الضيق والملزق والمحزق وطرش الوجه والشعر بألوان قوس قزح، الحفاظ على الحرية الشخصية يكون بالحفاظ على النفس وعدم تعريضها للخطر، أما من يريد أن يخاطر فعليه أن يتحمل التبعات، والسلامة ليست من بينها دائما. ولكن هناك فتيات محتشمات ومحجبات ويتعرضن كذلك للتحرش، فالسبب ليس فقط الفتيات ولباسهن وسلوكهن فقط، إنما نظرة المجتمع التي تربى عليها كثير من الرجال بأن المرأة هدف سهل وضعيف لا ترد ولا تصد، بل تتعمد الهروب في هكذا مواقف، ولعل ما تفعله اخواتنا المصريات، وهو ليس أمرا هزليا ولا كوميديا، يكون حلا سريعا وعمليا ومؤثرا بحيث تقف له و»تلم عليه الشارع» والأمن الجامعي والشرطة ليوسعوه ضربا ويعلموه والحاضرين درسا لن ينساه، وهذا أقل عقاب الدين الذي كان يعاقب من يخوض في أعراض النساء ويقذفهن بالجلد في مكان عام وعدم قبول شهادته حتى يصير عبرة لمن يعتبر، فالهروب والتطنيش والتظاهر بعدم السماع ليس حلا، بل يغري المعتدي بالمزيد، وهذا حل وقتي سريع للجريمة، اما الحل الأكثر نجاعة واستمرارية فيكون بالتربية التي بها تُحل كل مشاكلنا، فشاب يتحرش بفتاة لن يكون بارا بأمه ولا بأخته ولا بزوجته ولا بابنته، فانتقاص امرأة واحدة هو انتقاص لكل هؤلاء النساء وكل هذه المعاني، والتربية أن الشرف والعفة والحياء والفضيلة ليست صفات أنثوية ولا محصورة في النساء، إنما هي أخلاق إنسانية وأي جريمة أخلاقية تحصل بطرفين: رجل وامرأة، بل لقد نصح الحكماء الرجال فقالوا: عفوا تعف نساؤكم، فجعل ابتداء العفة في الرجال وكمالها في النساء، ومطالبة النساء بالعفة بينما الرجال يستبحون الحرمات هو أكبر دلالة على مرض ونفاق المجتمع وغياب عدالته في تقييد النساء، ورخي الحبل على الغارب للرجال! ولقد كان للإعلام دور سيئ في ترسيخ هذا النفاق والمعايير المزدوجة في الحكم على أخطاء الرجال والنساء، فكان من أشهر العبارات التي يتناقلها الناس على لسان الممثل يوسف وهبي: «شرف البنت زي عود الكبريت ما يولعش الا مرة وحدة»، وماذا عن شرف الرجال هل هو من المطاط يحتمل الحرق وإعادة التشكيل؟! المرأة ملحمة فضيلة تبدأ من عنقها فما فوق كما قال غسان كنفاني. وتربية الأبناء، رجالا و نساء، يجب أن تكون على أنهم بشر وليسوا مجرد أعضاء جنسية أو حيوانات ناطقة ضاحكة. من المسؤول؟ المسؤول هو المسؤول الذي يعرف عن الجريمة في جامعته أو مؤسسته ثم يغض الطرف وكأن شيئا لم يحصل! بل يزيد الطين بِلة بمعاقبة من يقومون بكشف المستور لاصلاح الخطأ بدل أن يعينهم ويقف في صفهم، ويقدم لهم كل وسائل الدعم، فالجامعة محضن تربوي، وهي احد الحلقات الأخيرة التي يمكن أن تصلح ما أفسدته وقصرت فيه المحاضن التربوية السابقة، كذلك يجب التشديد في سياسات القبول؛ لضمان أن طلبة الجامعات هم فعلا صفوة المجتمع لا غثاؤه؛ وذلك بإعادة نظام اعتماد شهادات حسن السير والسلوك من المدرسة، او اعتماد نظام خدمة المجتمع كما في الدول الغربية، و إدارج مساقات أكاديمية عامة في السلوك الاجتماعي. من المسؤول؟ المسؤول بعض المنظمات النسوية والحملات غير المنظمة في مجال الحقوق النسوية، وتثقيف المجتمع التي تحمل قضية شريفة وعادلة، ولكنها تستعدي المجتمع والرجال في تقليد أعمى للنسوية الغربية كأننا في حرب لإثبات الوجود وليس للإصلاح، وتخلط القضايا ببعضها والأوراق والملفات فلا تحقق انجازا في أي منها، وينقلب الكثيرون ضدها بدل أن يكونوا معها! على المنظمات النسوية أن تعمل من داخل المجتمع بتغيير السلوكات والقناعات بما يتفق مع قيمنا ومثلنا العليا، وهذه تحتاج الى وقت وصبر وتوحيد لكافة الجهود، أما حرب القوانين ومقاتلة الناطور فستظل حبرا على ورق، وما أسهل انتهاك القانون، وما أكثر منتهكيه؛ بذريعة الشرف المزيف، إننا بحاجة الى زرع روح القانون في الناس لا فرضه على حياتهم بالسلطة والجبر. لقد أصدرت بناتنا استغاثتهم، وهي ليست الأولى، وفي مفهوم الطوارئ يُعاقب المسؤولون إذا لم يستجيبوا للاستغاثة الأولى والنداء الأول، وبالذات عند حصول الجريمة، والجريمة حصلت والقضية وأركانها واضحة، بقي الحل والاستعجال إلى تطويق الظاهرة في بداياتها حتى لا يتفاقم الوضع، ونضطر الى العقوبات القاسية. نفاخر بالأمن والأمان! وأي أمان وأمن هذا وبناتنا ينتهكن في حرم الجامعة! واذا كان هذا يحصل في الحرم فماذا يحصل عند الخروج الى المجتمع حيث لا حرم ولا حُرمة؟! لم نستطع معالجة الفساد في السياسة والاقتصاد، فهل نرفع أيدينا بالتسليم وراية الاستسلام في هذا الميدان أيضا؟ ما بقي لنا الا الإنسان لنتاجر به، و أرجو أن لا نبيعه بثمن بخس في سوق نخاسة الفساد والسكوت.