ما كنت لأكتب بهذه الصفة لولا علمي أن قومنا في أقصى الشمال لا يفقهون بعض سنن التاريخ وإنها لغالبة. ظلت اليمن بكل أجزائها طوال تاريخها الوسيط مغزوة بين الحين والآخر من قبل قبائل شمال شمال اليمن المتمذهبة. كان الفكر الزيدي يتخلق في مناطق شمال شمال اليمن تحت عباءة الآل زوراً وبهتاناً، وهو في الحقيقة نظرية سياسية قائمة على خمسة عناصر شيفونية هي: -شيفونية التعصب للعرق والسلالة. -المنطقة والتعصب للجرافيا المذهبية. -احتكار السلطة بإدعاء الحق الإلهي. -التمييز الاجتماعي والثقافي. -نزعة مخالفة العرب. هذه العناصر الخمسة هي المرتكزات الرئيسة للنظرية السياسية للهاشمية السياسية في اليمن، ولكون هذه العناصر متمازجة مع بعضها فقد خلقت فيما سبق ما يشبه العصبة التاريخية المتمركزة في مناطق شمال اليمن، وهي عصبة صعب تفكيكها عبر تاريخ اليمن الوسيط بأكمله، فالقبيلة في هذه الجغرافيا صارت فيما مضى جزءاً من العملية السياسية، وشيخ القبيلة إما عامل لدى الأئمة أو قائد جيش شعبي أو ما شابه. وقد ظلت هذه القبائل جيوش للإمامة التاريخية تظهر شوكتها بظهور دعوى الإمامة وتخفت بخفوتها، ممانعة إنتقال السلطة إلى ما سواها من مناطق اليمن. والغريب أن صنعاء لم تستقر كعاصمة سياسية في لليمن عدا من الفترة الأخيرة من حكم آل شرف الدين والمتوكل وآل حميد الدين. ولم تخضع اليمن يوماً لحكم الأئمة المتمذهب برديفه القبلي المتعصب في شمال شمال اليمن، بل ظلت الصراعات بشكل مستمر، وقامت دول وسلطات متعددة طوال التاريخ الوسيط كتعبير عن رفض نزعة السيطرة المذهبية المتمركزة في أقصى الشمال، بل نجد أن بعض تلك الدول التي نشأت في وسط اليمن كالدولة الرسولية مثلاً استطاعت أن تتحكم في اليمن شرقا وغرباً، وأن تمدّ نفوذها أحياناً إلى ما دون اليمن، بعكس سلطة الأئمة التي كانت تقف تاريخياً عند حدود منطقة ذمار آخر كرسي الزيدية – حدو وصف مؤرخي المذهب. غير أن الملاحظ أن هذه الجغرافيا التعصبية في شمال اليمن ظلت متماسكة وغير قابلة للتمدن والذوبان والاندماج الاجتماعي لوقت طويل، وحتى مع ثورة سبتمبر وما بعدها كانت تظهر فيها بعض التوجهات الثورية التغييرية إلا أنها بقيت ظواهر فردية لم تتحول إلى إرادة مجتمع تعبر عن ظاهرة تغير بنيوي في مناطق شمال اليمن. وفي ذات الوقت شهدت باقي مناطق وقبائل اليمن تحولات جذرية متماهية مع مطالب التغيير، ونحن جميعا نتذكر حصار السبعين وكيف حدث الاختراق لذلك الحصار من خارج صنعاء – أعني من قبائل بعيدة عن جغرافيا التمذهب- وكيف ظلت جغرافيا التمذهب تناصر نظام الإمامة حتى اتفاق 1967م. وكنا طوال فترة الثمانينات والتسعينات وحتى اللحظة لا نزال نسمع في هذه الجغرافيا المتمذهبة من يترحم على نظام الإمامة ويقارنها بالجمهورية ومساوئها ويصور الإمام مؤمناً عادلاً لا مثيل له، وهذا يدل على وجود رغبة مدفونة في عودة الإمامة. لعل أول اختراق يسجله العقل اليمني لهذه الجغرافيا كان بعد العام 1990م وانتشار التعددية السياسية، تلك التعددية التي فككت القبيلة جزئياً، وإن كانت الأحزاب قد تحولت إلى ما يشبه القبيلة الوطنية بسبب تسلط الزعامات والعقول القبلية على سلطتها السياسية. لكن مع ذلك استطاع الفكر السياسي لبعض هذه الأحزاب محاصرة نزعة الإمامة والتعصب والحد من فاعليته في هذه المناطق، غير أن شعور القادة التاريخيين لجغرافيا التمذهب بالخطر الذي يفرض عليهم حتمية الاندماج الاجتماعي وتناسي نزعات التمييز والتعنصر، وهو ما سيفوت عليهم احتكار السلطة ليجعلها سلطة شعب لا سلطة قبيلة أو طائفة، هذا الشعور هو الذي وحدّ موقف هذه القبائل تبعاً لتحالف الانقلابيين. لم يكن صالح وتحالفاته بعد أحداث 2011م سوى جائحة منتزعة من العقل الجمعي لجغرافيا التمذهب التاريخي، ولأن الأحزاب السياسية كانت قد شكلت اختراق لهذه الجغرافيا فقد تم الفرز على أساس تمذهبي محض، وإذا بأنصار صالح وأعضاء حزبه في هذه المناطق يهتفون بهتاف المليشيات نكاية بمخالفيهم، بخلاف أعضاء المؤتمر في بقية مناطق وجغرافيا اليمن. قام المخلوع صالح وحلفاؤه الانقلابيون باستدعاء اللاشعور التاريخي لجغرافيا التمذهب، وقرروا غزو اليمن على نفس المنوال التاريخي، غير أنهم لم يحسبوا للحظة حسابها الدقيق، فكل شيء تغير ولم يعد في صالحهم وإن بدى لهم أن بعض القوى الدولية والإقليمة سنداً لهم. اليوم وبعد الهزائم المتتالية في كل الجبهات. وبعد أن بلغت الحلقوم وضاق كل الناس بهم ذرعاً. وبعد أن صار كل اليمنيين يكرهونهم ويودون مقاتلتهم والزحف عليهم من كل اتجاه. وبعد ان صارت جغرافيا الشمال ذاتها خصبة لإنتاج المقاومة ضدهم. وبعد أن توجهت الحشود العسكرية المدججة بالآلات والعربات المتطورة. وبعد فتح خطوط إمداد سريعة جوية وبرية وبحرية لضرب الانقلابيين في عقر دارهم. لم يعد ثمة خيارات مطروحة وممكنة أمام الانقلابيين إلا خيار واحد تقريباً هو الاستسلام حفاظاً على مدينة صنعاء وسكانها من كارثة محققة. لكن ومن وجهة نظري كقارئ للتاريخ أعتقد أن هؤلاء لن يستسلمون ولسوف يتسببون بدمار صنعاء وعمران وصعدة كما دمرت عدنوتعز وغيرها من المدن. وإذا ما حصل هذا فقد لا يكون الدمار بحجم ما حدث في تعزوعدن وغيرها ولكنه قد يستدعي الذاكرة الجمعية لنتائج وأثار الغزوات التاريخية لعصابات الإمامة على كل مناطق اليمن، وهو ما سيضاعف من حجم الكارثة.