ما ينبغي الالتفات إليه بعناية ان ثقافة التطرف التي تسود مجتمع من المجتمعات أشد خطورة من ظاهرة التطرف ذاتها، لأن الثقافة إذا كانت سائدة ومتأصلة وعميقة سوف تكون قادرة على ولادة عدد لا يحصى من حالات التطرف وظواهرها، وكلما انقضت ظاهرة قامت مقامها ظاهرة أخرى معدلة ومطورة، وربما تكون أشد خطورة. تظهر ملامح الخطورة في الثقافة المتطرفة في عمليات العلاج والمواجهة، حيث أن معالجة الثقافة تتسم بالصعوبة والبطء وطول الوقت، بالإضافة إلى الحاجة الماسة إلى الحكمة وطول النفس وعمق النظر، من خلال مناهج التربية وأساليب التنشئة الاجتماعية، بالإضافة إلى ضرورة توخي العلمية والاعتماد على الدراسات والأبحاث الصحيحة. الثقافة السائدة تترسخ بعد طول عناء، وعبر توارث القيم من جيل إلى جيل، بالإضافة إلى جملة العوامل الأخرى المتأتية من الظروف النفسية والمشاعر الوجدانية التي تسهم في إيجادها الأوضاع الاقتصادية ومستويات المعيشة وزيادة مساحات الفقر، وارتفاع أعداد العاطلين عن العمل، وكذلك الأوضاع السياسية التي رسخت مفاهيم التهميش للعامة، وعمقت ظواهر القهر والكبت لدى الأجيال الجديدة في ظل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي تتيح المقارنة والاطلاع الواسع على تجارب الشعوب. العامل الآخر الذي يجب الالتفات إليه يتمثل بذلك الشعور الخطر المتسرب إلى وجدان عامة الشباب وعقولهم من الإحساس بالغثائية وفقدان الفاعلية على مستوى الأمة بكاملها في جميع أقطارها ومختلف أنظمتها ودولها، من خلال الوقوف على حقيقة العجز والفشل الذي حصدته الدولة العربية الحديثة منذ أكثر من (70) عاماً، أي منذ زوال الخيمة العثمانية، حيث كان هناك طموح لدى العرب بالانطلاق نحو الحداثة، وصناعة النهضة الجديدة. الملاحظة الأخرى أن هناك مشاريع ودولا أخرى استطاعت أن تخطو خطوات واضحة نحو الاستقلال والتحرر وصناعة الذات، ويظهر ذلك بوضوح بدول الجوار العربي، فهناك الدولة التركية، والدولة الإيرانية والدولة الماليزية، «والمشروع الإسرائيلي» الذي يسجل إلى كل منها تقدم ملحوظ على الصعيد الاقتصادي والعلمي والتربوي، وفي مقابل ذلك ما زال المشروع العربي متعثراً ويعيش حالة من العجز المزري، فلا صناعات ولا انتاج ولا استقلالية ولا اقتصاد متين، ولا فكر ولا انتاج علمي ذو قيمة. تخليص الشباب من وهدة التطرف يحتاج إلى إحراز نجاح حقيقي على مستوى الدولة الوطنية، لتكون قادرة على جمع طاقات ابنائها في بوتقة الإنجاز والانتاج الذاتي الحقيقي، وهذا يحتم على المؤسسات الثلاثة الكبرى في كل قطر أن تتعاون في سبيل تحقيق هذا النجاح حسب مقولة الدكتور كامل أبو جابر : المؤسسة التربوية ، والمؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية. المؤسسة التربوية يجب أن تصدع بوضع وتنفيذ استراتيجية تربوية جديدة تعيد تنشئة الجيل الجديد وفقاً لرؤية شاملة مكتملة تأخذ بعين الاعتبار جميع ابعاد اللحظة الراهنة، والمؤسسة السياسية يجب أن تصدع بتدشين مشروع سياسي كبير مقنع قادرعلى إحداث المشاركة الفاعلة مع كل المكونات والقوى الوطنية الحقيقية، والمؤسسة الدينية يجب أن تصدع بإنجاز خطاب إسلامي قادر على تجاوز المحنة وإطلاق الطاقات الفكرية المختزنة في نفوس جيل الشباب المتعلم المنتمي لوطنه وأمته وحضارته وإصلاح البناء الثقافي الكبير الواسع المنتشر.