هل لا بد أن أكون سلفيا أو إخوانيا لأكون مسلما؟! هل من صحيح الدين هذا الاستقطاب الحاد الذي نراه في المشهد السياسي؟ والذي يصنف فيه الناس إلى مسلمين وعلمانيين، وكأن المسلمين هم الإخوان والسلفيون، وكأن العلمانيين كفار وليسوا من المسلمين! وكلهم مؤمنون وموحدون بالله؟ حيرتونا يا مشايخ ويا سياسيين! وكرهتونا في السياسة وفي الدين! أفتونا مأجورين؟ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فلا يلزم لكي يكون المرء مسلما أن ينتمي إلى هذا الفصيل أو ذاك، ولا زعم ذلك أحد من أهل العلم أو الدعوة من هذا الفصيل أو ذاك! اللهم إلا دعاة الغلو في التكفير الذي جددوا في الأمة ميراث الخوارج، وكانوا من أشد الناس بغيا على الفصيلين المذكورين من ناحية، وعلى عموم الأمة من ناحية أخرى! وقد لفظتهم مسيرة العمل الإسلامي، وتمزقت فرقهم في الأرض كل ممزق! * ابتداء ثبوت عقد الإسلام وبقاؤه! بل لا يلزم أحدا لكي يكون مسلما إلا أن يشهد لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأن يبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام، وبهذا يثبت له عقد الإسلام، ويصبح جزءا من جماعة المسلمين، ولا يلزمه قطعا أن ينتمي لهذا الفصيل أو ذاك! ولكي يستمر بقاؤه على الإسلام وانتسابه إلى جماعة المسلمين لا بد أن يحافظ على بقائه على أصل الدين واستدامته لديه، وأصل الدين يتكون من ركنين: تصديق الخبر، والانقياد للشرع، فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد لم يثبت له عقد الإسلام. 1. أما الركن الأول فهو تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، لأنه لم يخرج من فمه صلى الله عليه وسلم وهو في مقام البلاغ عن ربه إلا الحق والصواب، قال تعالى ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) وعن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا تكتب كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال ( اكتب! فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق!) فلا يقابل مسلم خبر الشارع بتكذيب أو ارتياب. 2. أما الركن الثاني فهو الانقياد لما جاء به من الدين جملة وعلى الغيب، والمقصود بالانقياد المتعلق بأصل الدين قبول الأحكام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب،: أي قبول القلب وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم بحيث تعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال؛ فلا يقابل مسلم شيئا من ذلك برد أو إباء أو استكبار أو إعراض، أي أن يتقلد ثوابت الإسلام وما علم منه بالضرورة دينا، وأن يعتقد وجوب اتباعها، وفسق الخارجين عليها، أما انقياد الجوارح لذلك فإن مناطه القدرة والاستطاعة، ويتفاوت الناس فيه، ما بين ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن الله. * لا علاقة لثبوت الإسلام بالانتساب إلى حزب أو جماعة وكل ما سبق لا علاقة له بالانتظام في حزب سياسي أو تجمع دعوي، إخوانيا كان أو سلفيا، أو تبليغيا، أو غير ذلك، بل هو التدين العام الذي يلتقي عليه المسلمون في مشارق الارض ومغاربها! فيستطيع المسلم أن يحق النجاة وهو يفر بدينه من الفتن، فيعتزل في شعفة من شعف الجبال، يقيم شعائر ربه، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ، أو يحققها وهو يخالط الناس ويصبر على أذاهم، ويتعاون مع كيان من الكيانات الدعوية السنية على إقامة الدين وسياسة الدنيا به، في إطار من جماعية السعي ومشروعية الغاية والوسيلة! وفي الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " ، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : " رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ" . * إن هذا لشيء عجيب! وإذا كان وصف الإسلام وقفا على الإخوان والسلفيين فأين بقية الأمة إذن؟! أليس من العجب العجاب أن يقال ذلك، وفي الأمة من المتدينين والمؤسسات العلمية والدعوبة والتي ينتظم في سلكها من أهل العلم والدعوة ما لا يحصى من البشر مما لا تربطهم وشائح تنظيمية بهذا الفصيل أو ذاك! وإذا كان الإسلام أو التدين مقصورا على تنظيمات الإخوان والسلفيين، وهياكلهم الدعوية، فأين ذهب الأزهر إذن جامعا وجامعة؟ أين ذهبت الجمعية الشرعية وفروعها ومعاهدها الدعوية؟ أين ذهبت معاهد أنصار السنة المحمدية؟ أين ذهبت الجمعيات الأهلية التي تقوم على تحفيظ القرآن والأعمال الإغاثية والدعوية؟! وأين ذهبت الملايين التي لا تزال على تدينها الفطري في القرى والمدن والكفور والنجوع في طول البلاد وعرضها من القانتين والركع السجود؟! هل زعم أحد نزع الإسلام أو التدين عن هذه القطاعات وهي تمثل السواد الأعظم من الأمة لأنها ليست في تنظيمات الإخوان أو السلفيين؟! * الفرق بين الإسلاميين والمسلمين! ولعل السائل قصد تعبير الإسلاميين بدلا من المسلمين فقد اصطلح المشهد الدعوي والسياسي المعاصر على التفريق بين المسلمين والإسلاميين، فالمسلمون هم كل من ثبت له عقد الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، والإسلاميون هم الناشطون لنصرة الدين، والساعون إلى إقامته، سواء من خلال كيان من الكيانات الدعوية، أو من خلال ما يبذله من الجهود الفردية، وهذه تفرقة إصطلاحية بحتة، وليست من ثوابت الكلم أو المصطلحات في الشريعة! ولم يزعم أحد أن وصف الإسلام وقف على هؤلاء الناشطين دعويا أو سياسيا، اللهم إلا أهل الغلو في التكفير، وهؤلاء قد عرفوا بتنكبهم طريق الهدى منذ زمن بعيد! * دعم العمل الإسلامي العام والانفتاح على كل أعمال الخير إننا نؤكد على ضرورة دعم العمل الإسلامي العام الذي يدور في فلك الأمة بمفهومها الواسع، ليتكامل مع العمل الإسلامي المؤسسي الذي جرت عليه الجماعات الدعوية في واقعنا المعاصر، تفعيلا لطاقات عموم المسلمين، واستيعابا لطاقات الرموز الدعوية الكبرى التي يعسر حسبانها على فصيل معين من فصائل العمل الإسلامي، ولا يجمل إلا أن تكون ملكا لكل الأمة. كما نؤكد على ضرورة الانفتاح على أعمال الخير، والمشاركة فيها، والإعانة عليها، ما امتهد سبيل إلى ذلك، وإن صاحبها قصور في بعض الجوانب، فإن التعاون على مشترك عام من الخير والصلاح وإن تباينت المناهج والمنطلقات مما يتسع له النظر الشرعي لعموم الأدلة التي تأمر بالتعاون على البر والتقوى وتنهى عن التعاون على الإثم والعدوان، وتأسيسا على أن مبنى الشريعة على قاعدة تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. * المسلم كالنحلة ترتشف الرحيق أنى لا حت لها أزاهيره! لكن المسلم كالنحلة ترتشف الرحيق أنى لا حت لها أزاهيره! فهو يلتقط من الكيانات الدعوية المعاصرة ومن الرموز والشخصيات الدعوية العامة أطيب ما عندهم، سواء عليه ألازم مجالسهم وانتسب إليهم، أم بقي في دائرته، وآثر البعد عن الكيانات التي تميزت باسم أو برسم. السلفية والدعوة إلى تصحيح العقائد، وتجريد الاتباع، وتزكية الأنفس. فهو يحب ما تحمله الكيانات السلفية من الدعوة إلى التصفية والتزكية والاتباع، ففي دعوتهم من الاهتمام بالسنة والحرص على اتباعها ما يغبطون عليه! فالاتجاه السلفي في إطاره المنهجي اتجاه إحيائي ينزع في الأصل إلى تصحيح العقائد، وتجريد الاتباع، وتزكية الأنفس، وترسُّم خطا السلف الصالح في القول والعمل، وهو بهذا المعنى لا ينبغي أن تحده جماعة من الجماعات، ولا حزب من الأحزاب؛ لأنه المنهج الذي ينبغي أن تكون عليه كل هذه الأحزاب والجماعات، لقيامه على تبني منهج عقدي هو في موضع الإجماع من الناس كافة، أو هكذا ينبغي أن يكون! ولا علاقة له بالخلافات الفروعية؛ لأنه ليس مذهبًا فقهيًّا، بل كل ما دل عليه النص بوجوه الدلالة المقبولة شرعًا، وسبق إلى القول بمثله بعض الأئمة المتبوعين من أهل السنة والجماعة، فهو عنده اجتهاد مقبول، وله في صفوفه متسع! * الخلط بين الدعوة السلفية وتجاوزات بعض السلفيين وإذا كانت هذه هي السلفية كما جسدتها أقلام السلف الصالح، وكما ترجمتها حياة الأئمة رضوان الله عليهم؛ فلا ينبغي لأحد أن يخلط بينها وبين ما يحدث باسمها من تجاوزات أو أغلاط، أو أن يدافع عن هذه الزلات؛ لأنها صدرت عن رموز في هذا الاتجاه أو ذاك، فقد حفظنا عن أئمة السلف أنه: «لا يعرف الحق بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق»، فكم يرتكب باسم الحرية من خطيئات! ولا تثريب على الحرية في ذاتها، وإنما على أدعيائها، وكم يرتكب باسم آل البيت ومحبتهم من خرق ظاهر لأبجديات مسلَّمة في دين الله، ولا حرج في محبة آل البيت، ولا تثريب قطعًا على من صح نسبه إليهم واستقام على طريقتهم، بل له خصوصية في التكريم والمودة لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى [ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ] وفي الحديث الصحيح ( والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي) وقال صلى الله عليه وسلم ( أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي( بل كم يرتكب باسم الإسلام نفسه من تجاوزات صارخة، ولا نزال نقول لغير المسلمين: لا تخلطوا بين الإسلام وتصرفات من خرج على هديه من المسلمين! * إعلان النفير العام من أجل خلاف الفقهي سائغ!!! وإذا وجد لدى بعض المنتسبين إلى السلفية من التجاوزات ما يقتضي الاحتساب عليه؛ فينبغي أن ينكر عليهم ذلك نصحا لله ولرسوله وللمؤمنين، وصيانة للسنة لكي لا تلتبس بأغلاط بعض المنتسبين إليها والرافعين للوائها، وفي كل فريق من العوام ما يعد عبئا عليه! وقد يوجد من عوام المنتسبين إلى هذا المنهج من يعلن النفير العام ويقيم الحرب العالمية الثالثة من أجل جزئية توهمها بدعة وهي في الأصل من الخلاف الفقهي السائغ! ولا ينبغي أن يحمل النكير على أمثال هؤلاء على أنه استخفاف بالسلفية وتهييج على أهلها، بل هو انتصار للسنة وقيام بواجب الحسبة، وإلا كان مجرد الانتساب إلى هذا المنهج، والتقيد ببعض شرائع الهدي الظاهر، يضفي على أصحابه هالة من القداسة، ويسبغ عليهم نوعًا من العصمة، على النحو الذي تفعله الشيعة مع أئمتهم، وحاش للسلفية الحقة من ذاك، وهي التي ما قامت إلا على تجريد الاتباع، ومحاربة الغلو في المذاهب أو الشيوخ! * الإخوان والاهتمام بالمشروع الحضاري الإسلامي ويحب ما لدى الكيانات الإخوانية من الاهتمام بالشأن العام، والسعي لنصرة الدين والتمكين له من خلال المشاركة في مؤسسات صناعة القرار السياسي، كالأحزاب السياسية، والمجالس النيابية ونحوه، وقدرتهم على إقامة المؤسسات الدعوية والإغاثية وتميزهم في إدارتها، وحملهم للمشروع الحضاري الإسلامي، وإن الله تعالى قد قسم الأعمال كما قسم الأرزاق! ولله في خلقه شئون! وما قد ينسب إلى بعضهم من بغي أو استطالة في التعامل مع الآخرين ينكر عليهم كما ينكر على غيرهم من سائر المسلمين، بل ينبغي أن يكون الإنكار عليهم آكد، لكي لا تحمل أغلاطهم على العمل الإسلامي والتدين بصفة عامة، فتكون من ذلك فتنة! * انحياز المسلم بتدينه الفطري إلى حملة المشروع الإسلامي وينحاز المسلم بحكم تدينه الفطري إلى من يحملون المشروع الإسلامي، ويتنادون إلى تطبيق الشريعة، وإذا وجد أمامه فصيلين: أحدهما ينتسب إلى المشروع الإسلامي والآخر بنتسب إلى المشروع العلماني فهو بتدينه الفطري ينتمي إلى الأول، ويجد في نفسه ولاء صادقا له وانصبا،با عاطفيا نحوه! لا يستطيع مقاومته، ولا يملك دفعه عن نفسه! * قسم الله الأعمال كما قسم الأرزاق ! هذا. ويدرك المسلم بفطرته أن الله تعالى قد قسم الأعمال كما قسم الأرزاق! فهذا فُتح عليه في طلب العلم وتعليمه للناس، وهذا فُتح عليه أمر التربية، وهذا فُتح عليه في أمر البحث العلمي والدفاع بقلمه عن الإسلام، وهذا في باب العمل السياسي ومقارعة غلاة العلمانيين واللبراليين؛ أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وإحقاقًا للحق وإبطالًا للباطل… وهكذا، وينبغي أن يقنع كلٌّ بما قسم الله له، وأن يثني على الآخر بخير ما يعلم، وأن لا يحقر عبوديته لله عز وجل، وأن ينصحه في كل ما يقتضي التناصح، صيانة للدين، وقياما بحقوق الأخوة الإيمانية، حتى يسود بين العاملين للإسلام من التراحم والتغافر والتناصر وإقالة العثرات؛ ما يكونون معها أهلًا لنصر الله وتوفيقه. فالعمل الإسلامي عمل متعدد الجبهات ومترامي الأطراف، والحاجة إلى تجديد السعي لنصرة الدين في مختلف القطاعات وعلى شتى المحاور حاجة ماسة، وإن حجم الجهود التي يجب أن تبذل لإحياء هذه الأمة بالإسلام، أكبر من أن ينهض بها تجمع من هذه التجمعات بمعزل عن بقية العاملين، فضلًا عن بقية إخوانه من عموم المسلمين * ليس شرطا في التدين!! وإن الانتساب التنظيمي لهذا الفريق أو ذاك ليس شرطا في الإسلام، ولا في التدين، بل قد كانت مشروعية العمل الجماعي في نفسه موضع خصومة ومنازعة كبيرة بين بعض فصائل العمل الإسلامي في الفترة الماضية، وتفاوتوا فيه ما بين موجب له ومؤثم للقاعد عنه، إلى محرم له ومبدع لأصحابه! ولم يكن موضع الخصومة فيما نحسب مجرد الاجتماع على أعمال الخير، والالتقاء الإداري في مجالس أمناء أو مجالس إدارة لهذه الكيانات، فلا حرج في الاجتماع على أعمال الخير، والتزام الطاعة لقيادة في هذا الاجتماع في غير معصية، فإن الأصل في هذه التراتيب الإدارية الحل، فهي من مسائل السياسة الشرعية التي تدور في فلك الموازنة بين المصالح والمفاسد، على أن لا يفضي ذلك إلى التعصب الحزبي الذي يحمل على تعصب الشخص لمن كان معه بالحق وبالباطل ، والإعراض عن من لم يكن معه سواء أكان على الحق أم على الباطل ، فإن أفضى إلى ذلك توجه القول بمنعه. وإنما كان الخصومة حول هذه الجماعات الولائية، ذات البيعات السياسية، التي تنزع بانحيازها إلى تجمعها الخاص الشرعية عن الكيانات العلمانية الحاكمة، وذلك للجدل حول انعدام الشرعية عن الكيانات العلمانية أو عدم انعدامها. * هذا الجدل أصبح تاريخا! وأيا كان الجدل حول هذه القضية وتداعياته، فقد أصبح ذلك كله تاريخا بعد قيام الثورة، وتقدم حملة المشروع الإسلامي، واتفاق العاملين للإسلام في الجملة على مشروعية الكيان السياسي الجديد وحرمة الخروج عليه، وأقر هذا النظام حرية تكوين الجماعات والأحزاب ذات الأغراض المشروعة، وأسبغ عليها الحماية القانونية بمجرد الإعلان عنها،فالتقى الفريقان في هذه القضية على الأقل على كلمة سواء، واتفق الجميع على منع هذه التجمعات الولائية التي تنزع إلى نزع الشرعية، وعلى ضرورة التسكين القانوني للكيانات الدعوية والسياسية، حتى تدخل في إطار المشروعية الإسلامية والقانونية، فاختفى هذا الخلاف، أو هكذا ينبغي أن يكون، لاختلاف أسبابه ومسوغاته . * العلمانيون ليسوا سواء! أما العلمانيون الذين تتحدث عنهم فليسوا سواء، فمنهم الغلاة الذين يعقدون خصومة عقدية مع الدين والمتدينين، وينتحلون الفصل بين الدين والحياة، ويجحدون مناسبة الأحكام الشرعية وكفالتها بمصالح الناس، وينزعون القداسة عن الموروث الديني، المحكم منه والمؤول على حد سواء، وهؤلاء لا يتمارى أحد في تيهم وضلالهم عن سواء السبيل، وهم قلة على كل حال، وإن كانوا يملكون من المنابر الإعلامية ما يخيل للرائي معه أنهم أشد قوة وأكثر جمعا! ومنهم من أشرب في قلبه شوبا من هذه الفتنة بلا تأصيل ولا روية ولا تدبر، بتأثير أبواق الدعاية والتضليل، ولكنه في أعماقه يؤمن بالله ورسوله، ولا يحمل بغضا للشريعة، وإنما يرتاب في نزاهة الدعاة إليها بفعل الضجيج العلمالني وجلبته، ومنهم من شايعهم وانحاز إلى معسكرهم للعاعة من الدنيا لوحوا له بها، ولكل درجات مما عملوا، وينبغي أن يعامل كل فريق بما يستحق، فإن الشريعة لا تسوي بين مختلفين، ولا تفرق بين متماثلين، ولسنا في مقام إجراء أحكام على أحد معين من هؤلاء، بل في مقام استفاضة البلاغ، وإقامة الحجة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويقيننا أن تألف العصاة على التوبة واستحياءهم بها أحب إلى الله من هلاكهم بالإصرار والمحادة، فينبغي الرفق في الإنكار عليهم، وتجنب الاستعلائية في التعامل معهم، لا سيما في أزمنة الفتن وغربة الدين، وشيوع الجهالة وقلة العلم بآثار الرسالة. * لا وجه للتحير وعندنا كتاب منير! وعلى هذا فلا وجه للتحير وعندنا كتاب منير، وبين أيدينا وصية النبي صلى الله عليه وسلم تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وسنتي، وقوله تعالى [وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله] وقوله تعالى [ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآحر ذلك خير وأحسن تأويلا] والرد إلى الله رد إلى كتابه والرد إلى الرسول رد إلى سنته، وما علمناه منهما عملنا به، وما جهلناه منهما تركناه إلى عالمه. * الاجتماع على عمل الخير أعون على استدامته من الانفراد! بقيت قضية أخيرة لعلها من تمام البلاغ وأداء أمانة النصح في هذا المقام، لا شك أن عمل الخير مع فريق من الناس أعون على استدامته من الانفراد، وأعون للمرء على نفسه وشيطانه، وأذهب للخمول والدعة، وأذهب للحيرة والشتات، وأقوم بالمصالح وأرجى لتحقيق الغايات، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية! فأرجو أن يفرق بين الانحياز التنظيمي الذي يتسع فيه القول للمانع والمجيز، وبين روح الجماعية في العمل، والحرص على التنسيق والتشاور في كل أعمال الخير مع الآخرين، والاصطفاف معهم في مواقف الدفع العام، وقبول ما عندهم من الحق في باب الأحكام، ومن الراجح والأنفع في باب المصالح والتراتيب الإدارية، وإعانتهم عليه، وأن لا يمنعنا الخلاف في بعض التفاصيل العلمية أو العملية من التنسيق والاصطاف في خندق واحد عندما يتعلق الأمر بنازلة عامة تتعلق بعموم الأمة، وتنال من ثوابتها ومقوماتها الأساسية! هذا ما تيسر تسطيره في الإجابة عن هذا السؤال، ونسأل الله جل وعلا أن يهدينا إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنه وأن يحملنا في أحمد الأمور عنده وأجملها عاقبة، وأن لا يجعل للشيطان حظا فيما نأتي ونذر من أعمالنا، والله تعالى أعلى وأعلم