الربيع الذي عاشته الديمقراطية في سوريا، كان خلال فترتين.الأولى بين عامي1946 – 1949 والثانية بين عامي 1954- 1958. ومن سوء الحظ، ألا يدوم تألقه طويلاً، فقد سبقته فصول، ألغى فيها المحتل الفرنسي معالم الحياة السياسية في البلاد، واضطهد رجالها، ولاحقهم، وزج معظمهم في سجون لاتعرف الرحمة. ثم تلتها سنوات أخرى عجاف، أختطف الديمقراطية فيها، عسكريون جاؤوا الى السلطة بقوة الدبابات والمدرعات. حكموا حكماً فردياً تسلطياً مطلقاً، أطاح بنظام الدولة الدستوري، وفتح المعتقلات لتستقبل كل وطني حر أو صاحب رأي مخالف. وعلى غرار الدكتاتوريات التي عرفها التاريخ، أنتج الصعود الوطني في مرحلة مابعد الاستقلال دكتاتوريات عسكرية، غالباً ما كانت السلطة التي استخدمتها كهراوة، أكبر بكثير من مقاس البدلة العسكرية التي ترتديها. عُرف انقلاب حسني الزعيم – آذار 1949- بأنه أول تدخل للجيش في السياسة بمنطقة الشرق الأوسط، و شكَل هذا الاسلوب حالة غير مسبوقة، غير أنه قدم مثالاً لطالما أحتذي فيما بعد، فقد خضع السوريون لأربع دكتاتوريات لاحقة، جاءت بالطريقة ذاتها، فبعد دكتاتورية الزعيم حلت تالياً دكتاتورية سامي الحناوي، ثم تلتها دكتاتورية أديب الشيشكلي، فدكتاتورية الاسد الأب، ودكتاتورية الأسد الأبن. وخلال الوقت المستقطع 1963- 1970 خضعت البلاد لدكتاتورية من نوع آخر هي دكتاتورية الحزب الواحد، الذي اختار الحرية على رأس ثلاثة أهداف عقائدية، لكنه مسخ جوهرها بطريقة مريبة فباتت أشبه بوعاء كلامي فارغ يقصد منه التسويق ليس إلا. وعلى هذا النحو المريع عاشت سوريا قرابة نصف قرن، تتحكم فيها أنظمة عسكرية، بائسة، لايوجد ماتقدمه للشارع المتلهف الى حياة حرة كريمة، غير بيانات ثورية وخطابات مؤامراتية ووعود إصلاحية لم تر النور على الاطلاق. في عام 2011اكتشف السوريون حجم الضلال الكبير الذي سيطر على حياتهم، عندما حاول الأسد بعد ثلاثة أشهر من المظاهرات السلمية، أن يرد الصاع لشعبه، فاختار خطاباً تصعيدياً سرق عنوانه من شعار شهير كان الرئيس الاميركي بوش «في مطلع حربه على الارهاب « قد استخدمه على نطاق واسع. ففي المعركة الدائرة مع الشعب كما قال الاسد وقتذاك نفى أن توجد مواقف حيادية « فإما أن تكونوا معي أو تكونوا ضدي» !! ولأول مرة في تاريخ سورية الحديث، يهدد رئيس، من يتظاهرون ضده بشكل سلمي، ويتوعدهم : إذا أردتم الحرب فأهلاً بالحرب!! كان على الجميع حينئذ أن يدركوا بأن الثقة التي منحوها لوريث سلطة غير شرعية، في بلد يُحكم بنظام جمهوري، انقلبت عليهم. وأن الحميمية التي يرد بها هذا الشاب تحية من اهترأت أكفهم تصفيقاً، ليست سوى فرضية مزيفة أغرقتهم في بحر من الوهم المضاعف. وأن البوسترات التي انتشرت بكثافة في شوارع العاصمة دمشق وغيرها من المدن، معلنة بالعامية السورية « منحبك « إكراماً لمواقفه القومية، لم يكن بمقدورها أن ترد عنهم براميل الموت، التي تمطرها الطائرات من السماء، أو ترد عنهم السكاكين قبل أن تحز رقابهم ورقاب أطفالهم كالخرفان. كانت محاولة الدكتاتور تجميل صورة القتل في نظر أتباعه، للتخلص من خصومه على وجه السرعة، قد أماطت اللثام عن ذكريات مريرة، وانطباعات لم يفرق السكان البسطاء فيها بين محتل غاشم خطف البلد وعاملهم كأفراد عصابات مسلحة، وبين دكتاتور أرعن حوَل البلد الى سجن كبير ثم ترك للطائرات مهمة تأديبهم وتخليصه منهم ومن الحرية التي يطالبون بها، مستخدماً التوصيف ذاته. في لحظة صحوة اكتشف الناس، حجم الفارق الكبير، بين موقف كهذا وقفه الاسد غداة انتفاض الشارع ضده، وموقف آخر وقفه رئيس سابق عشية انتفاضة مشابهة… فمن الواضح أن الشيشكلي « الدكتاتور الثالث « قد أصبح في نظر الشعب اليوم، أكثر رجولة ووطنية من نظيره الحالي، فحين أشار عليه رفاقه ورجاله قمع انتفاضة – كانون الثاني 1954- وسحقها مستعيناً بسلاح الدبابات والمدفعية الثقيلة المتمركز في منطقتي القابون وقطنا، وهو قادر على ذلك، أبى، واعتبر أي تحرك في هذا الاتجاه، إنما من شأنه أن يشق الجيش، الذي كان حسب وصفه : من لحمنا ودمنا، وإضعافه هو إضعاف لسوريا في وجه العدو المتربص على حدودها. ثم غادر كرسيه دون تردد، رغبة منه « كما قال « في تجنب سفك الدم السوري، دماء الشعب الذي أحبه ودماء الجيش الذي ضحى بكل غال ونفيس من أجله. تنازل الشيشكلي عن الرئاسة واستقال بدافع من وطنيته الصافية وغيرته على بلاده وحرصه على ألا تراق نقطة دم واحدة، فيما يصر الأسد « المقاوم القومي « الى الآن، على عدم مغادرة كرسيه، ولو أدى ذلك الى إنهاك جيشه، وتدمير بلده، وسيلان دماء شعبه كنهر بلا ضفاف.