الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يتباهى الإعلام الروسي اليوم بعدد عشيقاته، لا يخفي هو شخصياً تباهيه بنظيره السوري الذي يستخدم ترسانته العسكرية الروسية لسحق مواطنيه. بوتين الذي أعلن صراحة وقوفه إلى جانب الأسد في المعركة التي يخوضها ضد شعبه، يرى في هذا الموقف فضيلة على «إسرائيل» أن تحفظها له، ليس فقط من باب اللياقة وحسب، بل ومن باب المصلحة التي من المفترض أن تدفع تل أبيب، ولمسوغات قد تعنيها أكثر ممّا تعني غيرها، إلى تأييد بقائه والمحافظة على النظام الذي يعتبر، كما قال لمناحم جشاييد الصحفي في «همودياع» عندما التقاه مصادفة منذ عدة أيام في المتحف اليهودي بموسكو، نظام استقرار يحرص على تطبيق الاتفاقيات المبرمة معكم، كما يحرص على الهدوء الشديد الذي ساد بينكم وبينه، وإذا انهار فستحلّ محلّه الفوضى وقد تقع سوريا بيد المتطرفين. بوتين، الرئيس الذي صنعته أروقة مخابرات ساعدت ذات يوم الأسد الأب على التخلص من شقيقه رفعت أخطر من تطلّع لإزاحته والاستيلاء على السلطة في عام 1985، لم يجد أيّ حرج عندما اعتبر وزير خارجيته لافروف الأدلة التي قدّمتها المختبرات حول استخدام جيش النظام أسلحة كيماوية محرمة للقضاء على معارضيه مجرد فبركات لا صحة لها، وكأنه يرغب في تبرئة المجرم من الجريمة التي ذهب ضحيتها أطفال وشباب ونساء كان كل ذنبهم أنّهم أرادوا لبلدهم أن يتحرر من حكم طاغية ونظام مستبد. الموقف الروسي الراهن عموماً لا يختلف في واقع الأمر عن مواقف سابقة وقفها الدب الروسي السوفيتي عندما تعرّض النظام إلى هزة عنيفة على يد معارضيه الإسلاميين «الجناح العسكري للأخوان المسلمين» قبل خمسة وثلاثين عاماً، وواجه عصياناً في مدينة حماة في شباط 1982، إذ نهض وقتئذ الرفيق العجوز ليونيد بريجينيف من غيبوبته لينجده ويقدّم له الخبرة العسكرية والفنية التي ساعدته في القضاء على خصومه، وارتكاب مذبحة راح ضحيتها أكثر من أربعين ألف مدني. موسكو التي تحاول اليوم، بمشاركة قوى إقليمية جديدة مثل إيران وحزب الله وحكومة المالكي في العراق، إخماد شعلة الثورة السورية، واستخدام حامل السياسة لإحداث تغييرات جوهرية في خريطة سوريا المذهبية، وإشعال حرب دموية طاحنة داخل الإسلام تحت شعار الحفاظ على نظام مقاوم وممانع يتعرض لهجمة كونية. موسكو هذه التي تعمل مع حلفائها لحرف مسار الثورة عن أهدافها وإغراق الشعب في أتون اقتتال طائفي، تدرك تماماً أنّ الحرب التي يخوضها الأسد من شأنها أن تمزق البلاد وتفتت وحدة مجتمعها، وتدفعها إلى خيارات يفرضها خصوم الحرية والديمقراطية كأمر واقع، سبق وأن رفضها الشعب يوم كان علم الاحتلال الأجنبي يرفرف فوق السراي الحكومي في دمشق. ما يطبخ اليوم في رأيي لا تختلف رائحته عمّا طبخ لسوريا قبل قرن تقريباً، فالتفتيت الذي استهدف بلاد الشام وحوّل جغرافيتها السياسية الواحدة إلى جغرافيات تفصل فيما بينها حدود يشرف على بواباتها جنود مدججون بالسلاح لم يعد كافياً، وما يقال ظاهرياً من أنّ تضارب المصالح والإستراتيجيات والرؤى يقف وراء عرقلة نجاح الثورة ليس سوى نصف الحقيقة. أمّا نصفها المخفي الآخر فهو إطالة أمد الأزمة وإراقة مزيد من الدماء، لكسر إرادة وعنفوان شعب تحدّى شبابه الموت بصدور عارية، وتحطيم كأس الكريستال الذي فشلت فرنسا في تحطيمه عام 1920 على يد الجنرال غورو حين فتت بشخطة قلم الدولة السورية إلى دويلات، ثأراً من الإسلام والعروبة، وتمزيقاً لنسيجها الوطني وحاضنته الجغرافية. السياسة غير المجدية التي تتبعها موسكو وطهران في دعم الأسد ليواصل قتل مواطنيه، ليست أقل خطورة على سوريا من السياسة التي اتبعها غورو، فحين ينظر تلامذة بريجينيف وآيات قم إلى المشهد بطريقة مغايرة تختزل ثورة الشعب إلى صراع على الحكم، أو مؤامرة أجنبية، أو مجموعات إرهابية، وتسمحان لأنصار الأسد وشبّيحته بارتكاب المجازر والمذابح بحق سكان بعينهم، وتَحُول الأولى دون اتخاذ إجراء أممي جاد تحت مظلة القانون الدولي لوقف العنف ووضع حد لهذه الانتهاكات الخطيرة ومحاسبة مرتكبيها أو وضع حد للدماء التي تراق، فهذا يعني أنّ «إسرائيل» ليست الوحيدة التي من مصلحتها أن تدمّر سوريا وتهدم مدنها ويوزع شعبها بين مشرد ولاجئ وقتيل وسجين، وإنّما تشاركها الهدف ذاته روسياوإيران عبر دعمهما لنظام يرى السوريون في بقائه الوسيلة المثلى لتفكيك دولة طالما اتّسم سكانها برجولتهم ووحدتهم وعروبتهم الصافية.