- يا شيخ: ما حكم من يعمل حارساً للسفارة الاسرائيلية، وهل راتبه حلال أم حرام؟! -هذه وظيفة ولا بأس عليه!! بالرغم أني كنت أسوق ولست بكامل تركيزي في الاستماع، الا أن الإجابة عن هذه الفتوى جعلتني أدوس بقوة لا إرادية على المكابح وأتوقف! لا أزعم أني أفقه في الدين غير المعلوم منه بالضرورة الذي يمكنني من ممارسته بشي من الوعي، وتجنب الكبائر والشبهات بعون الله ما استطعت مع محاولة التعلم في الدروس العامة للعلماء والمشايخ التي تقدم فقهاً عاماً لا طرحاً تخصصياً كالذي ينهله طلبة العلم الشرعي المختصون، وبرغم القليل من العلم الذي أعرفه، إلا أن تلك الفتوى اصطدمت بقلبي وعقلي مولدة نفوراً واستنكاراً غريبين، وقاعدتي في أخذ الأشياء حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «البر ما اطمأنت إليه النفس، والأثم ما حاك في صدرك»، فلو كانت هذه الفتوى من الحلة والصحة بمكان لاستقبلها القلب والعقل هنيئاً مريئاً، آخذاً فيها بسعة الحلال وسكينة تطبيقه. اتصلت بالشيخ وحاججته بقليل العلم الذي لدي، فكيف للمرء أن يحرس عدوه الذي يلغ في دم اخوانه، ويحتل أرضه فأجابني أن الأمر ليس بيده، وأنه الحلقة الأضعف، واللوم على حاكم البلاد، وأنه -أي الجندي- لو رفض الخدمة فسيحاكم ويسجن، وربما يطرد من الخدمة! شكرته على مضض، وأغلقت الهاتف رافضة تماماً منطقه؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأي معصية أكبر من تأمين العدو! ولو ظللنا نلقي باللائمة على الكبار والقادة لما قام أحد بدوره، ولو قام كل منا بحراسة ثغره، كبيرا كان أو صغيرا، وتأدية الدور المطلوب منه، لما وصلنا لهذه الحالة من الخذلان والتسليم. والسؤال: هل نؤمن الحراسة لعدونا الجاثم على صدورنا أم يحرم ذلك؟! ولما تذرعنا دائما بإلقاء اللائمة على الكبار في يوم لا ينفع فيه الندم، يوم يقول المفرطون: (ربنا إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً) بهذا المنطق التخاذلي على صغار الرتب من العسكر، إذن تنفيذ أوامر قادتهم بالقتل والتعذيب وغيرها، فتلك الفتوى لا تفرق عن هذه، فإنما هم عبيد مأمورون! وهل ظلمنا إلا بسكوتهم عن نصرتنا! وهل ظُلمنا إلا بضلوعهم في تعذيبنا وقتلنا! إن هذه الفتاوى المتساهلة تمثل أزمة المشايخ والعلماء الذين باعوا دينهم وعلمهم بلعاعة من الدنيا، أو بتراخ وتسهيل أفسد على الأمة مبادئها ومناعتها وصمودها، فأصبحنا نتطلع إليهم وقت الشدة فنجدهم قد خُتم على أفواههم، لا يقولون حقاً ولا ينصرون صدقاً، بل بعضهم كعتاة المجرمين يُفصلون الفتاوى للمجرمين على مقياس إجرامهم؛ ليبرروا لهم مزيداً من الطغيان والفساد! لم يكن غريباً أن يجعل الرسول صل الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء؛ تعظيماً لقدرهم وأثرهم، ولكنها إشارة إلى أن ليس كل من درس وحفظ وقرأ وتكلم عالم، فبلوغ منزلة العلم مقرون ببلوغ منزلة الخشية التي تمنع اللسان والجوارح من الكلام والعمل في الشبهات، ناهيك عن المعاصي أو الآثام الظاهرة التي لا خلاف عليها. يحفل التاريخ بتنابلة السلطان وشيوخه، وقليل من الصفحات خلّدت مثل ابن حنبل وابن تيمية الذين بلغوا المدى في الصبر على العذاب، مقابل الإحجام عن كلمة أو كلمات كانت لتغير حياة الأمة لصدورها من عالم، بل إن ابن حنبل أنكر على صديق عمره ورفيق دربه يوم قال ب»خلق القرآن»؛ خوفاً من عدم احتمال العذاب لكبر سنه وفارقه قائلاً: «يا ضيعة العلم بقولتك يا ضيعة العمر بصحبتك»، وأجاب لما سأله أحد السجانين هل هو من أعوان الظلمة، وما لهم من العذاب عند الله تعالى، فقال له: «لا لست من أعوان الظلمة، إنما أعوان الظلمة مَن يخيط لك ثوبك، ومَن يهيِّئ لك طعامك، ومَن يقضي لك حاجتك، أما أنت فمن الظلمة أنفسهم». وما أكثر من يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً من أشباه العلماء في أيامنا هذه بتصبير شعوبهم على تحمل المزيد من الظلم، بدل النهوض بهم لرفعه وتحصيل الحقوق، وما خطبة الجمعة الماضية في بلدنا على التلفاز الرسمي لواحد من خطباء الحكومة عن لباس التقوى في ظل الغلاء الفاحش وارتفاع الأسعار، الثياب خصوصا، إلا مثال ساطع عن الذين يأكلون بدينهم ويحرفون كلام الله ومعانيه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون عن سابق إرصاد وترصد! ليست خطيئة العالم كخطيئة غيره، وكلما زاد علم المرء ولو نظرياً زاد حسابه عند الله، ولذا قال سيد قطب في تفسيره: «إنه ليس أشنع من خيانة المستأمن، وليس أبشع من تفريط المستحفظ، وليس أخس من تدليس المستشهد، والذين يحملون عنوان «رجال الدين» فيسكتون عن العمل لتحكيم ما أنزل الله، ويحرفون الكلم عن مواضعه لموافاة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله». و قد وصفهم ربيعة الرأي لتلميذه مالك بالسفلة، وسفلة السفلة عندما سأله: يا مالك من السفلة؟ قال: من أكل بدينه، فقلت: فمن سفلة السفلة؟ قلت: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه. لقد كان العلماء الأتقياء قادة المجتمعات في كثير من النوازل وخرجت القاهرة كلها في أثر العز بن عبد السلام، فخرج له السلطان يسترضيه ويجري فتواه، أما العلماء الآن فكثير منهم من علماء الشعائر يريدون ديناً للمسجد لأداء العبادات، للفرائض المعروفة، أما في حدود الله والإصلاح فلا يفقهون إلا ما يريده السلطان، ولا يحفظون الا أحاديث طاعته وتحريم الخروج عليه ما لم يظهر كفراً بواحاً، وكأن كفر الحال الواضح في كل بلاد المسلمين لا يغني عن كفر المقال المخفي والباطن في قلوبهم، وشهادة الحال لا تدل على ما خفي من المقال! ويَصْدق في مثل هؤلاء قول محمد إقبال: ذهب الدراويش الذين عهدتهم لا يأبهون بصارم ومهند وبقيت في حرم يتاجر شيخه بوشاح فاطمة ومصحف أحمد إن من أسباب هزيمة المسلمين اليوم خيبة وتفريط وتأمر بعض علماهم عليهم، ويا ويل العلماء إن لم يغيروا قبل فوات الفوت، فما أقبح الشيبة مع التفريط وزيادة الوزر، وما أقبح السخف والجهالة مع ألقاب العلم، ولقد أكرم الله الشيخ الشعراوي بموقف حق بقي في أثره الى يوم القيامة يوم وقف لحسني مبارك في أوج قوته يوم نجاته من الاغتيال، وقال له: «إني يا سيادة الرئيس أقف على عتبة دنياي لأستقبل أجل الله، فلن أختم حياتي بنفاق، ولن أبرز عنتريتي باجتراء، ولكني أقول كلمة موجزة للأمة كلها، أريد منهم أن يعلموا أن الملك بيد الله، يؤتيه من يشاء، فلا تآمر لأخذه، ولا كيد للوصول إليه. فالملك حين ينزله الله، فإنه يؤتي الملك لمن يشاء، فلا تآمر على الله لملك، ولا كيد لله في حكم، لأنه لن يحكم أحد في ملك الله إلا بمراد الله، فإن كان عادلاً فقد نفع بعدله، وإن كان جائراً ظالماً، بشّع الظلم وقبّحه في نفوس كل الناس، فيكرهون كل ظالم ولو لم يكن حاكماً. ولذلك أقول للقوم جميعاً، إننا والحمد لله قد تأكد لنا صدق الله في كلامه، بما جاء من الأحداث، فكيف كنا نفكر في قول الله «ويمكرون ويمكر الله»، وكيف كنا نفسر «إنهم يكيدون كيداً ونكيد كيداً»؟ الله يريد أن يثبت قيميته على خلقه. فأنا أنصح كل من يجول برأسه أن يكون حاكماً، أنصحه بألا تطلبه، بل يجب بأن تطلب له، فإن رسول الله قال «من طلب إلى شيء، أُعين عليه، ومن طلب شيئاً وُكّل إليه». يا سيادة الرئيس، آخر ما أحب أن أقوله لك، ولعل هذا يكون آخر لقائي أنا بك، إذا كنت قدرنا فليوفقك الله، وإذا كنا قدرك فليعينك الله على ما تتحمل». ويبدو من أحوال المسلمين أن العلم بدأ يُرفع بموت العلماء وتزعم مشاهد ومحافل السوء الرويبضة يفتون بالجهل والجهالة!.