تنشر صحيفة "السياسية" الصادرة عن وكالة الأنباء اليمنية "سبأ" حوارات أسبوعية تتناول جوانب مخفية عن شخصيات سياسية واجتماعية عرفنا نصف حياتها لكننا لا نعرف شيئاً عن نصفها الآخر. المصدر أونلاين وبالاتفاق مع الصحيفة ومع الزميل صادق ناشر الذي قام بإجراء هذه الحوارات يعيد نشرها، وفيما يلي الحلقة الثانية من الحوار مع الأستاذ علي صالح الجمرة.
* خرجت بعد ذلك للتعرف على صنعاء، كيف وجدتها؟ وجدتها أجمل مدينة، وكانت تعتبر في نظري من قبل أن أصلها أجمل مدينة، فهي مدينة تذهل الإنسان لأنني أزورها لأول مرة قادماً من القرية، وكانت الحركة مع بداية قيام الثورة كبيرة ومتجددة، كان الطلبة يخرجون دائماً في مظاهرات، تقدر تقول أنه كان لايوجد هدوء بقدر ما كانت هناك حيوية في الحياة.
* كيف كانت مظاهر الحياة في صنعاء يومها؟ كانت صنعاء القديمة وبساتينها جميلة جداً، دخلنا المدرسة بعد شهر من وصولنا؛ لأنني كنت مسجلاً من قبل قيام الثورة، وجئت على أساس أدخل المدرسة ومحدد لي أين أدخل، فدخلنا المدرسة، وكانت إشكالية المظاهرات قائمة، وكنا نخرج في التظاهرات باستمرار، وأفضل ما شاهدته في المدرسة هو الأساتذة المصريين الذين درسونا، وكانت تختارهم مصر من خيرة علمائها وهم صبورون جداً، فقد كانوا يتحملون متاعبنا كثيراً، وكانت هذه المظاهرات هي التي تزعجني أكثر؛ لأنني جئت متلهفاً للدراسة، فيما كان الجو جو سياسة وصراعات، وكانت هذه من الأمور التي كانت سببت لنا تأخيراً في الدراسة.
* في أي شهر كنتم بالضبط؟ لا أتذكر التاريخ بدقة، لكن على ما أعتقد كانت في شهر أكتوبر في أواخر العام 1962، لكن الدراسة لم تكن بالدقة التي نحن عليها اليوم.
ذكريات الدراسة: * هل شاركت بالمظاهرات؟ طبيعي؛ لأننا إذا لم نشارك فإن الزملاء الأكبر منا سناْ المنخرطين في الأحزاب كانوا يعملوا لنا مشكلة، فقد كانت هناك عصبيات في المظاهرة.
* كيف؟ كانت هناك أحزاب سياسية تلتقط كبار الطلبة، وهؤلاء كانوا يعملون مثل العصابة، وكانوا يقومون بإخراجنا بالقوة من الفصول الدراسية، وأتذكر مرة أن مجموعة من الطلاب جاؤوا يخرجوننا من الفصل، فاعترض المدرس المصري على الأمر، وقال لهم إن هذا ليس وقت خروج في مظاهرات، فدخل واحد كان يلقب بلقب "الحماسة" وهو من المرون من آنس، لكن لا أعرف إن كان في البعث أو في أي حزب؛ فدخل إلى داخل الفصل مصمما على إخراجنا بالقوة، ولأن الأستاذ المصري كان -ما شاء الله- معه كرش كبير فضغط عليه في الباب، ولم يتمكن من الخروج إلا بعد أن تعهد بعدم إخراجنا من الفصل.
* هل تتذكر بعضاً من زملائك في تلك المدرسة؟ هناك العديد من الأصدقاء، بعضهم في أعمارنا، والبعض الآخر أكبر مناً سناً، أتذكر منهم اللواء علي صلاح، نائب رئيس الأركان حاليا، وكان معنا مجموعة من الشباب من عتمة وآخرون من وادي بنا، هؤلاء انتقلوا إلى الكلية الحربية، وإلى كلية الشرطة بعد أن دخلنا المدرسة بأشهر، ولم يبقوا معنا سوى لعام، قبل أن ينتقلوا للدراسة في الكلية الحربية، وكلية الشرطة أتذكر منهم احمد العماد -رحمه الله -.
* كم استمررت بالمدرسة؟ حتى بداية سنة 1965.
* هل كانت تسمى المدرسة المتوسطة؟ كانت تسمى "المدرسة التحضيرية".
الانتقال إلى القاهرة: * بعد ذلك إلى أين انتقلت؟ بعدها انتقلنا إلى القاهرة وامتحنا هناك امتحان مستوى، وهناك قالوا لنا إننا سنمتحن مستوى معيناً، كان ذلك في أواخر 1964 أوائل 1965 عند وصولنا القاهرة، وتم اختبارنا، حيث وضعوني في أول ثانوي وبعض الزملاء في ثاني ثانوي، وكلنا كنا ندرس مع بعض لكن اختبار مستوى، كنا في دراسة في معاهد الأزهرية، فتظلمنا وقلنا نحن مستوانا اكبر من أول ثانوي، قالوا ينقصكم ست مواد سلمت لنا وكانت في المنطق وفي المجتمع والأدب وفي البلاغة وغيرها، وقيل لنا يومها إذا كنتم جادين فإن معكم ثلاثين يوماً لدراسة هذه المواد والامتحان فيها، وإذا نجحتم فيها فسوف نرى مستواكم مرة أخرى.
كانت هناك مرونة في الموضوع فدرست هذه المواد خلال الشهر وامتحنت ونجحت وتم ترفيعي إلى صف ثاني ثانوي، وكانت الثانوية الأزهرية خمس سنوات، دخلت ادرس الثاني ثانوي وتقدمت في نهاية السنة بعد ان امتحنت، قلت لهم إنني قادر على أن امتحن ثالث ثانوي في نهاية الصيف، قالوا ادرس مقرر الثالث ثانوي وادخل الامتحان في أواخر أغسطس، وهكذا تم، فدرسنا أنا ومجموعة من الزملاء ثالث ثانوي في السكن الداخلي، أي السكن الطلاب.
وفي أواخر أغسطس وبداية سبتمبر امتحنا، ونجحنا وطلعنا رابع ثانوي، درسنا رابع ثانوي سنة كاملة، وقالوا لنا إذا أكملتم العام ولديكم الاستعداد للتقدم لسنة خامسة ثانوي فتفضلوا فالباب مفتوح، وأتذكر أن الثلاثة الأشهر التي قضيناها في الدراسة للصعود إلى خامس ثانوي لم نكن ننام فيها سوى لسويعات قليلة، لأنه كان لابد لي أنا ومجموعة من الزملاء من بينهم الأستاذ محمد العرشي، مستشار وزارة المواصلات وعلي الخولاني، يعمل حالياً في رئاسة الجمهورية، أن نكثف جهودنا لإنهاء المقررات الدراسية، ودخلنا الامتحانات فإذا بنا نحصل على درجات أفضل من الذين درسوا السنة كاملة؛ لأنه كان هناك هدفاً نسعى إليه، كنا نشعر أن أعمارنا كانت كبيرة وكان لابد لنا أن نجتاز هذه السنوات كلها، يومها كان عمري بين 19 و 20 سنة، وكنت اشعر أنني قد تأخرت.
وبعد أن ظهرت النتائج أواخر سبتمبر ظللت في حيرة حول ماذا سأفعل بعد الثانوية إذ أنه لم يكن معي من يرشدني، لكنني كنت عاشقاً للجغرافيا والتاريخ، فاخترت كلية اللغة العربية قسم التاريخ، وبعض من الزملاء الذين كانوا معي دخلوا كلية الشريعة والقانون وآخرون دخلوا تخصصات أخرى، وهكذا تفرقنا في كليات مختلفة.
* لماذا تعاملت معكم الحكومة المصرية بمثل هذه المرونة؟ مصر كانت تفتح الباب أمام المتفوقين من الطلاب اليمنيين، كان المسؤولون فيها يجرون الاختبارات للطلاب اليمنيين، ويعطون الفرصة لجيل من الشباب المتطلع للمعرفة، وكانت تعتبر ذلك واجبها، وانه من مسؤوليتها إعطاء فرصة لهذا الجيل الذي تعلم؛ فكانت هذه السياسة في إطار الأهداف المرسومة للسياسة المصرية والتي توافقت مع أهوائنا ورغبتنا نحن في التعلم.
* لماذا الجغرافيا والتاريخ، ما الذي شدك إلى هذا التخصص؟ ما شدني إلى ذلك هو الراديو أولاً ثم الوالد -رحمه الله-؛ لأن القاضي زيد كان مشتركاً في الصحف التي كانت تأتي من مصر قبل الثورة عبر البريد، كانت تأتي صحيفة "الأهرام" ومجلة "آخر ساعة" ومجلة "روز اليوسف"، وكنت أقرأ هذه الصحف وأنا في القرية، وكانت تشدني كثيراً، كنت أريد أن أعرف مصر، وأريد أن أرى الدنيا، وكانت هنالك خرائط تترافق مع بعض المقالات المنشورة إذا كانت في إطار تحليل سياسي، هذا الذي جعلني أدرك أن العالم أوسع من المساحة التي أنا فيها.
لهذا كان ذلك الأمر مطبوعاً في خيالي وفي ذهني، وعندما درسنا في اليمن بدأت أدرس عن الجغرافيا والخرائط قبل أن اذهب للدراسة في مصر، وكنت أعشق هذا الشيء.
* متى بدأ ارتباطك بالكتاب؟ الكتاب في بيتي منذ الطفولة، في قصص "ألف ليلة وليلة" و "المستطرف"، وقصص أبو زيد السراجي ومجموعة كتب جورجي زيدان؛ فضلاً عن كتب الفقه والتفسير والحديث وغيرها.
كل هذه الأشياء كانت موجودة عندنا في البيت فكانت هذه إحدى الارتباطات بالكتاب، لهذا لم يكن الكتاب غائباً عنا؛ فقد كان موجودا عندنا في البيت فكانت هذه أحدى الارتباطات بالكتاب.
* ما الذي شدك أكثر إلى القراءة في الصحف، وما هي الكتب التي كنت تشعر أنها قريبة منك وكنت تلجأ لها عند أزماتك؟ كشاب مراهق كنت أعشق قراءة القصص، وكان الوالد -رحمه الله- يقرأ لنا بعض القصص مثل قصص ابن المقفع، وهذه كلها ارتسمت بالذاكرة منذ الطفولة.
* ما القصة التي مازالت في ذهنك وتتذكرها إلى اليوم بتفاصيلها بطريقة روايتها من الأهل؟ من القصص القديمة قصص "العدار وهول الليل والعملاق" الذي كان يشوي الناس في عين الشمس و"النمروذ"، وهذه القصص مازالت في الذاكرة وهي من الخيال، كان في القصص أن هناك جبلين والنمروذ يمد رجليه من هذا الجبل إلى ذلك الجبل ويلتقط السمكة من البحر ويتخيل لنا الوادي مثل البحر، هذه الخيالات التي كنا نعيشها في الطفولة، والبيوت التي هجرت كنا نخاف منها؛ لأن قصص "العدار" كانت موجودة في أذهاننا.
طبيعة آنس: * وماذا تركت في نفسك طبيعة آنس؟ كنت اعتبرها أجمل بلاد الله؛ لأن منطقتنا بالذات (جبل الشرق) كانت تعتبر بمثابة "ثربة آنس" كانوا يسموها "ثربة" ، أي "سبلة"، لأنها مثل "ثربة الكبش"، وفيها دسم، وكانت فيها غابات مليئة بأشجار الطنب التي تغطي البن، وشجرة الطنب كانت شجرة عظيمة، وجميع الألواح الخشبية الجميلة الممتازة التي تصنع منها النوافذ والأبواب كانت من شجرة الطنب، وهذه الشجرة كانت شجرة باسقة طويلة جداً وأوراقها عريضة ودسمة، أي فيها نوع من الدسومة بحيث انه لا تخترقها حبيبات الثلج أو ما يسمونها الندى الذي يؤدي إلى نشوء الفطريات في البن، هذه الشجرة الحاضنة للبن تعطي ظلاً عجيباً، وهذا الظل يعطيك شعوراً وكأنك في غابة، الوادي الذي فيه بن هو الذي فيه شجرة الطنب.
* هل مازالت هذه الطبيعة، أم أزيلت؟ للأسف ثم إزالتها من قبل الثورة بسنوات قليلة؛ لأن جماعة البتائين كانوا في حركة طلب في صنعاء فكان البعض يتسابق ليأتي إلى المنطقة، أذكر إلى الآن أنهم كانوا يأتوا ليشتروا شجرة الطنب وكان بعضها معمراً، وإذا قلت معمرة، ربما تجاوز عمر بعضها المائة سنة، فبعض الأشجار كان ضخماً جداً، وللأسف نشروها بالمناشير وبدأت الأرض تتبقع، ترافق ذلك مع قلة الأمطار وجفاف عيون الماء.
* هل هي عقوبة إلهية؟ أنا اعتبرها عقوبة إلهية؛ لان هناك ارتباطا بين الشجرة وبين الماء وبين الخضرة وبين كل شيء.
* هل تعود إليها هذه الأيام وأنت بهذا السن؟ أعود، لكن في أغلب الأوقات العين تدمع، لأنني أجد أودية كنا نخاف المشي فيها بعد صلاة العصر، أما اليوم فإن الشمس تلفحها من الصباح إلى الليل، لم تعد موجودة تلك الأشجار التي كنا نعرفها، لكن الناس مازالوا، يحرثون التربة، ويعتنون بها حتى لأ تأخذها السيول أو يزرعون فيها أية زراعة، المهم أنهم يحيون الأرض بحيث لا تذهب عليهم، لكن الأرض ليست تلك الأرض التي نعرفها.
* أتشعر بالحنين إلى الماضي وتعود إلى آنس كطبيعة وكطفولة؟ كطبيعة نعم، كطفولة نعم، لكنني لا أحن إلى ذكريات "الطائفي" ولا إلى "المخمّن" ولا إلى "المثمّن"، ولا إلى العسكري الذي كان يؤذي أبي وأمي، بل ويؤذي كل الناس ممن هم في القرية، والذي كانت تعتمدهم الحكومة لأخذ الزكاة، وياليتهم كانوا يأخذوا الزكاة كأمانة لكن كان "الطائفي" يأتي وبالقوة يريد حقه، يريد رشوة ويأتي المخمن ويريد رشوة ويأتي المثمن النهائي ويريد رشوة، وكانوا يأتون ومعهم عساكر وينزلوا عند عاقل القرية، وعلى القرية أن تدفع للعاقل حق الغداء وحق العشاء وأجرة هؤلاء الذين جاؤوا منفذين على الناس.
هذا الذي كان يعذب أبناء القرية كثيراً، هذه هي المأساة التي كنت أذكرها قبل الثورة، حتى أن والدتي هي التي كانت تدعو عليهم، فلما قامت الثورة قالت: "الحمد لله تخلصنا من هؤلاء الظلمة"، وهذه أقولها كشهادة تاريخية وكأمانة لأبنائنا الذين لا يعرفون هذه الأشياء التي كانت تقهر الناس وتؤذيهم.
* بعد كل هذه السنوات، ألا زلت تتذكر بعض تفاصيلها؟ نعم لأنها كانت تعتبر مأساة؛ لأن بعض الأوقات لا يكون عندك نقوداً حتى تدفع فتضطر في النهاية لأن تستدين حق هؤلاء أو تحبس وحتى بالكلمة أي بالتهديد والوعيد تجرح.
لقد عشت مع هذا الواقع لسنوات ليست طويلة؛ لأن الثورة قامت وأنا عمري خمسة عشرة سنة؛ فخلال هذه الفترة كنت أشعر بمأساة الأهل ، وكان ذلك جزءاً لا يتجزأ من الحياة.
كراهيتي للطائفي: * لم أفهم ما تقصد بكلمة "الطائفي"؟ الطائفي شخص مرسل من الإمام يأتي إلى القرية قبل أن تكتمل ثمار الأشجار والمزروعات، يأتي ليطوف الأرض ويقدر من حيث المبدأ كم حصيلتها، وبالتالي كم يجب أن يدفع كل إنسان زكاة، بعده يأتي ما يسمى بالمخمن وكأنه رقيب على الأول ثم يأتي القباض يأتي هذا الثالث بعد الحصاد، يأتي القباضون وهؤلاء مهمتهم يقبضوا الحصيلة وبالذات النقدية، فإذا الدولة حولت الزكاة التي عندك إلى نقدية فعليك أن تدفع قيمة النقدية، وإذا لم تحول إلى نقدية يلزمك أن تشد الزكاة إلى المكان الفلاني على حسابك، ويسخروا حمير الناس والدواب وغيرها لتحمل الحبوب إلى المدافن التابعة لبيت المال وهذه كلها مشقة في حياة الناس.
* هل هناك مدافن ما زالت موجودة في قريتك؟ نعم، لاتزال موجودة حتى اليوم.
* ما كان الهدف من وراء ذلك؟ المدافن كانت مخصصة لخزن الحبوب، كل الحبوب الزائدة عن احتياج السنة، كانت تدفن في هذه المدافن، وكانت تختار بدقة، بحيث أنه لا يكون فيها رطوبة، وتختم بطريقة فنية حتى لا يدخلها الهواء فتحتفظ بالحبوب وبعضها يحفظ لسنوات وبعضها لسنة؛ لأن أهالي القرية يكون عندهم معرفة ولابد ان تستهلك بعد سنة، وهذه شبيهة بصوامع الغلال اليوم، وهي كانت تحت الأرض، بالذات في الصخور الصماء التي لا يدخلها الهواء.
* كيف كان يتم حفر هذه المدافن؟ بالمطارق.
* هل كانت تستغرق وقتا؟ من الطبيعي، كان هناك أناس عندهم كفاءة وخبرة في كيفية الحفر والنحت في الصخر.