أشعرُ بالإهانة. أحدُهم تسبب في الدوس على كبريائي الشخصي! هذه المرّة سنكتفي، فقط، بسرد نماذج (موديلس). يمتلك النموذج المتماسِك قدرة تحليلية وإشارية عالية. إن التفكيك عبر الإحالة إلى النموذج سيمنحنا موثوقية منهجيّة كافية لوضع المعضلة (المسألة اليمنية) في إطارها المرجعي السليم. وفي لحظةٍ ما لن نكون بحاجة ماسّة لمعرفة من الذي أنشأ كل هذه الكارثة، إذ إن معرفتنا بكيف نشأت الكارثة سيكون كافياً ليضع القارئ ذو الإصبع البيضاء يده في صدور ذوي السحنات السوداء. لقد فشلت اليمن مؤخراً في إدارة احتفالية قُرعة لثمانية منتخبات في دورة كروية هي من بين أضعف الدورات الكروية التي لا يؤبه لها كثيراً على الصعيد العالمي. كان من المتوقّع أن تثير هذه الفضيحة، القرعة، قهقهة عالميّة لو أن الأمر ارتبط باسم آخر غير اليمن. تفاعل المشاهدون في الداخل والخارج مع المشهد بحسبانه واحداً من التجليات اليومية للذات اليمنية الراهِنة: المعاقة، غير القادرة على تحقيق إبهار عند أي مستوى. لقد أشبعت اليمن أفق التوقّعات، وكانت «عند المستوى المنتظر منها» منذ البداية: دورة رياضية صغيرة ستلاقي مصرعها المحتوم في بلد يدور في ساقية الشتات الأزلي!
بيد أن سؤالاً منطقياً لا يزال يضع نفسه في الواجهة: هل هذه الذات المشوهة، العدمية، العابثة، الفاشلة، الجبانة، المهرّجة، التي خضّت الوجدان اليمني لدرجة أن مغتربين يمنيين في الخليج كتبوا عن أنفسهم: أصبحنا نخجل من الذهاب إلى عملنا بعد فضيحة القرعة.. هل هذه الذات الفضائحية هي تلك الذات اليمنية الحقيقية؟ هل سقط اليمنيّون، وبصورة عمليّة، عن الحصان إلى قاع العالم حتى أنه لم يعد بمقدورِهم أن يجروا عملية عدّ من (1) إلى (4) فيكررون الرقم (2) مثل طفلٍ مصاب ببلهٍ منغولي؟ (مع اعتذاري للعرق المنغولي، فهذا مجرّد مصطلح علمي عنصري).
إن سؤالاً كهذا لا بدّ وأن يفرز حزمة من الإجابات، يأتي في مقدمتها سؤال على شكل جواب عاجل: هل بالإمكان اعتبار حميد شيباني، والعيسي، وعباد نماذج دلالية للذات اليمنية الحضارية، المفترض فيها وراثة تراكمات حضارية وثقافية وأخلاقية، بل وإمبريالية بالتقييم العالمي. فيما يتوفّر لدي من السيرة الذاتية فإنّ أحداً من هؤلاء لم يدرس نظرية الحيود لدى آين شتاين، ولا ما بعد النواة، ونظريات الكوارْك، ولا حتى أبسط قوانين الديناميكا الحراريّة. دعونا نبسّط الأمر، بأقل قدر من الاستفزاز: إن هؤلاء الكبار الخارقين لم يكونوا يوماً ما سوى أطفالٍ محدودي الذكاء والمواهِب على نحو يلوّع القلب. إن محدودية الذكاء ليست مبرّراً لقمع صاحِبها ومصادرة حقوقه، لكن الأمر يغدو دافعاً منهجيّاً لحرمانه من القيادة بصورة غير قابلة للتفاوض. هذا ما يحدث في كل أمم العالم التي تضع اعتباراً عميقاً لكونها «أمم» جديرةٌ بالتناسل والحضور الفاعِل في المستقبل. وبالنسبة لي، فقد قرأتُ ذاتَ مرّة: في اللحظات الفارقة من حياة الشُعوب يجدرُ أن يتوارى محدودو الذكاء إلى الصفوف الخلفية، لأن الأمر سيصبح ذا علاقة حاسمة ببقاء هذه الشعوب أو اندثارِها، بقدرتها على الإطاحة بالتحديات الشرسة أو وقوعها فريسة لمفاعيلها. سيصبح الأمرُ حديّاً لدرجة أنه قد يصيب كبرياء أمّة ذات تاريخ مجيد في مقتل. مثال: بعد انطلاق مشروع «قفزة كُبرى للأمام» في الصين، 1958، بثلاث سنوات فقط كانت فضيحة العقول السطحية التي طرحت هذا المشروع، بآنئذٍ، تقاس بنتيجة رقمية: وفاة 3 ملايين صيني تحت طائلة الجوع والمرض. كان لا بد من إيقاف المشروع بعد ثلاث سنوات من انطلاقِه، ومحاسبة القتلة الوطنيين. ولم تُعد الصين لمثله إلا بعد عشرين عاماً تقريباً حين استكملت صياغة مشروع نهوض جديد، بموثوقية ومنهجية عاليتين، رسمته الذات الصينية الخبيرة والجرئية، لا أولئك المتسلّقون الأغبياء ذوو الثياب الأنيقة والعقول البيضاء!
أشعرُ بالإهانة! أحدُهم تسبب في الدوس على كبريائي الشخصي! كمواطن يمني، أشعر بالخجل لوجود هذه الجماعة البشريّة في الصدارة، وأعتقد أن صديقي سامي الكاف يشاركني هذا الشعور العميق. كما أظنّ، بجزمٍ عالٍ، أن هذه النماذج هي إفرازات لمصادفات زمنيّة، أو لا زمنيّة، عاشتها اليمن في لحظات متتابعة من الانهيارات وأن استمرارها في الصدارة لا يعني في أبسط تجليّاته سوى أن اليمن لا يزال يربض في حزمة الانهيارات ذاتها؛ إذ إن تعافي اليمن سيتطلب في أولى خطوات نقاهته أن تختفي نماذج العهد المريض، وهو ما لا يبدو قائماً حتى الآن. لقد كُرّست هذه النماذج، فيما يبدو، تحت سطوة قوة النار التي تتخفّى وراء هذه النماذج العارية مبرّئةً نفسها من دم الذئب والنبي معاً، وتتحرّك إلى المستقبل دون رؤية مشروعية واضحة المعالم. إنها فيما يبدو تتحرك بمزاج عفوي طري، لا يتضمن تفكيراً استراتيجياً كفؤاً لمجابهة سؤال المستقبل. فالاحتياج لتفكير استراتيجي سيجلب أناساً آخرين على علاقة بالمنهجية وعلوم الزمن النوعي الراهِن.
ثمّة قوة نارٍ يجدرُ وصفها بأنها هشّة لكنها شديدة البأس. غير قانونية لكنها تحسبُ نفسها مشروعة. ومن وقت لآخر تمارس قوة النار هذه عملياتها الروحانية المخيفة فتقوم بإحضار بشر عاديين، أو أقل من عاديين، ليقفوا في واجهة المشهد السياسي أو الإداري كما لو كانوا بالفعل: وزراء ومدراء ووكلاء. دعونا نقُل: إن الواجهة الإدارية والسياسية في اليمن، منذ عقودٍ ثلاثة، وهي تماثل مسرح العرائس: حيثُ يوجد أفراد متخفّون يحرّكون تلك الدّمى الزاهية كما لو كانت بالفعل تقول شيئاً ما، وتتحرّك من تلقاء وجودها. يحدثُ مثلاً أن وزير الشباب والرياضة الراهِن كان قبل أعوام قليلة «واعظاً» في الأوقاف والإرشاد. لقد كانت خطبه عن النفاق والتقوى، ولهجته التكفيرية الجهادية العنيفة تجاه الخصوم السياسيين في حملة الرئيس الانتخابية تفصح عن خطيب مفوّه لا يقول أشياء دقيقة ومنهجيّة إلا نادراً. لا يعلم أحدٌ على وجه اليقين من ذلك الرجل الشرس، في مسرح العرائس الديموقراطي، من أعضاء الجدار الناري الحاكم، الذي ضاق به ذرعاً فقال: خليه يروح يلعب كرة أحسن. وهكذا، أصبح الواعظ وزيراً للرياضة، وللشباب. فلدى السادة الكِبار، أسيادنا يا شباب، اعتقاد راسخ بأن الأدب والفن والرياضة أمورٌ تتعلق بخفّة العقل، لا الرزانة، وترتبط بصورة جذرية بأولئك الذين لم يحصلوا على تربية ارستقراطية كافية. لذلك أعلنت وسائل الإعلام الرسمية أن السيد الرئيس وقعَ من على ظهر حصانه وأصيب برضوض خفيفة، بالرغم من أنه سقَط عن ظهر سيكل بيدال (بسكلتّة). فكّرت النخبة: من العِيب أن يشار إلى البسكلتّة، فهذه مواضيع يمارسُها صغار القوم. إن جهاز الدولة الذي يرى البسكلتّة عيباً فادحاً قرّر أن يستضيف بطولة رياضية تنتمي إلى عالم العيب، كما هو واقع التفكير الجبلي البدائي!
يدير وزارة الشباب لفيفٌ من الشيوخ. هذه مفارقة تؤكّد القاعدة في اليمن، حيثُ الشيءُ يعيش في بطن نقيضه: الجمهورية تنام وتصحو في أحشاء الملكيّة. إلى الآن وأنا أحاول أن أفهم جواباً، ولو ركيكاً، عن سؤال خانق: من الذي يفعل كل هذا باليمن، وكيف تسوّل له نفسُه؟ سؤال ساذج جدّاً يتناقض مع المقدمة التي قالت إن المقالة لن تحفل بالفاعل بل بالفعل المجرّد، ذي الزمن المائع. أحفظ حديثاً شريفاً يقول: خذلني الشيوخ. لو أتيحت لليمن فرصة للحديث لصرخت من أعلى قمّة فيها: خذلني الشيوخ. فوزير الشباب هو في الأساس شيخ، على طريقته. ويمر تحت لوائه الجهوري لفيفٌ لا حدود له من الشيوخ (مما قلّ منه أو أكثر، نصيباً مفروضاً)! وبالرغم من أنهم جميعاً شيوخ، من المتوقّع أن تتشابه منطلقاتهم الذهنية والنفسية، إلا أنهم يديرون وزارة الشباب والرياضة على قاعدة: كل مغنّي وليه موال! وآه يا عيني، يا عيني على آه، قصة عرب أقدمينا! ربنا يدّيك طولة العمر يا عمّنا أبو النجّوم، إنت والخال الأبنودي!
قبل أشهر قليلة احتفل مجلس التضامن اليمني في صنعاء. بلغ عدد أعضائه 2500 شيخ. يُقال – وما يوم حليمةٍ بسر- إنهم يتضامنون لأجل اليمن على نفقة السعودية. تدفع السعودية لهذا المجلس في العام الواحِد ما يعادل تكلفة إنشاء 12 جامعة عالية الجودة. لا توجد إحصائية رسمية حول عدد المشائخ في اليمن، لكن الآكد أنهم يشكلون تكتلاً ضخماً بمستطاع أي فرد فيه أن يراوغ القوانين والإجراءات (الضرائب، الجمارك، المخالفات المرورية، التعيينات، البعثات .. إلخ) بمنتهى السيولة واليُسر، دون أن تعتبر مثل هذه المراوغات سلوكاً بدائياً هادماً للعُمران، بتعبير ابن خلدون. ينتج عن هذه المرواغة سنويّاً عدد قياسي من الارتجاجات كفيلة بإعطاء صورة جغرافية عن اليمن بوصفها بقعة من السديم الأرضي الليّن. في هذه البقعة المائعة، شديدة العتامة، من المتوقع أن تجري بطولة كروية ارستقراطية. تساءلت صحيفة خليجية قبل فترة: هل سيكون على اللاعبين الخليجين أن ينزلوا إلى المعلب وهم يرتدون الدروع الواقية من الرصاص؟ عن موقفي الشخصي: لا أعتقد في الأساس أن هناك لاعباً خليجياً يستأهل عناء المتابعة، وأتصوّر أنهم لهذا السبب فقط سيكونون بمأمن من الرصاص، إذ إن ملايين أهل بلدي يشاركونني الاعتقاد ذاته. فهُناك من يعتقد أكثر من ذلك، أن جملة «اللاعب الخليجي» ا تزال حتى هذه الساعة غير ذات موضوع.
دعونا نمر على نماذج أخرى ذات صلّة سيميولوجية: اعتقل الأمن القومي الصحفي المتخصص في شؤون الجماعات الإرهابية عبد الإله حيدر، للمرة الثانية. أصدرت نقابة الصحفيين بياناً بليغاً يوازي في بلاغته ذلك البيان الذي أصدرته النقابة ذاتها قبل شهرين لتصف السيد الرئيس بأنه حامي الحريّات الصحفيّة في اليمن. بيانات أخرى ضربت حائط الصمت، ولم ينتج عن هذه الضوضاء سوى صمت مطبق. فجأة، اجتمع رئيس جهاز الأمن القومي بمشائخ أرحب، العمق السلالي للصحفي المختطف، ووعدهم خيراً! كان المشهد كوميديّاً ينتمي إلى النوع الأسود من الكوميديا: حين يكون عليك أن تضحك كثيراً حتى تنفجر باكياً. يروي صديقٌ مقرّب من الجماعة الفائقة عن مسؤول كبير قوله: من كانت له قبيلة فليسقِها، فهي الضامن الوحيد للحياة في هذا المكان المظلم من العالم. طبعاً لا يمكن أن يكون هذا المسؤول الكبير قد قال النص باللغة ذاتها، وإلا لما أصبح مسؤولاً وكبيراً أيضاً، بل بالمعنى الحرفي المحض.
أشعرُ بالإهانة. أحدُهم تسبب في الدوس على كبريائي الشخصي! موقف جهاز الأمن القومي من قبائل أرحب يماثل موقف السيد الرئيس من قبائل مأرب قبل سنوات معدودة. فبعد أن رفعت الحكومة جزءاً من الدعم عن المشتقات النفطية ماجت اليمن من كل أطرافها، وأصدرت القوى السياسية والاجتماعية بيانات واعية تحذّر من التكلفة الاجتماعية الباهظة لإصلاحات اقتصادية غير مدروسة بشكل كلّي. ذهبت كل تلك النداءات مع الرّيح إلى أن قامت قبائل مأرب باحتجاز شاحنات شركة صافر. في تلك الساعة نشرت وسائل الإعلام الرسمية خبراً بهذا النص: الرئيس يجتمع مع مشائخ مأرب لتدارس أوضاع «اليمن!»!
بهذه الصورة يكرّس غياب اليمن عن اليمن، وموتها الإكلينيكي في ثياب تاريخها المجيد. ولأنها بلدٌ ارتخت على نحو مريع، فقد أفسحت فراغات كبيرة لقليلي الخبرة، وأنصاف المتعلّمين، وفشلة المدارس والجامعات، وخصوم الشهائد العلمية، وحملة البنادق. قادها هؤلاء العُميان من موتٍ سريري إلى تعفّنها في صندوق وضّاح اليمن، بتعبير البردّوني، حتى مات في حشاها الفنّ والطرب. إذ ما أسرع ما يأتي وقتٌ ترتكب فيه هذه النخبة الغريبة فضائح صالحة للتسويق عالميّاً. يتعاظم المشهد حتى يبلغ صورته القصوى: استعانت الحكومة اليمنية بشركة استشارية أجنبية لتخطط لمجلس الوزراء، ورئاسة الجمهورية، وللّجنة التنفيذية المسؤولة عن الأولويات العشر. لقد بدا واضحاً أن الجمهورية اليمنية، وبعد نصف قرن من الثورة، لم تستطع أن تنتج جماعة بشرية احترافية بمقدورها أن تخطط على نحو استراتيجي عميق ومنهجي ليمن المستقبل الذي لا ينبغي أن يكون مجرد قبر يقع في قاع الجزيرة العربيّة. لكن: هل صحيح أن وجود هذه الشركة يؤكّد عدم كفاية وكفائية العقل اليمني على طرح مقترحات على سبيل: توليد الطاقة الكهربائية بالفحم؟ .. لهذا السؤال حديثٌ آخر. أما ما أريد قوله الآن فليس أكثر من هذه الجملة الثقيلة: أشعرُ بالإهانة القاسية، ولن أقبل أي اعتذار!