انتهت المعركة التي يخوضها القطاع الخاص مع الحكومة منذ حوالي عشر سنوات حول قانون ضريبة المبيعات إلى معركة واجه فيها رجال الأعمال هراوات الشرطة وخراطيم المياه في ميدان السبعين. بعد الوصول إلى مرحلة شعروا فيها بضرورة تصعيد الاحتجاج، وبدءاً من محافظة تعز تنادى التجار إلى إغلاق محلاتهم وتبعهم المئات في كل من الحديدة وأمانة العاصمة احتجاجا على إصرار الحكومة على تنفيذ القانون.
قارب الأسبوع على الإنتهاء والمحلات مغلقة ولم يلتفت إليهم أحد، فبادرت الغرفة التجارية بالأمانة إلى تصدّر الموقف بعد أن تجاوزها منتسبوها في الخطوة الأولى وبعد اجتماع عقدته مع العشرات من التجار قررت التصعيد والنزول إلى الشارع.
بدا الخيار صعباً، فالنزول إلى الشارع أمر غير مألوف لدى التجار لكنه كان ضروريا بعد أن جربوا كل الوسائل.
صباح الخميس الفائت تقاطر التجار إلى ميدان السبعين وتجمهر المئات هناك مستظلين بمنصة الاحتفالات. المكان بدا مألوفا بالنسبة لكثيرين ممن اعتادوا الوصول إليه لحضور احتفالات رسمية، لكن بعد أقل من ساعة من اكتمال الحشد بدت التجربة هذه المرة مختلفة.
كان رتل من قوات مكافحة الشغب قد وصل المكان وانتظم أفراده في صفوف متهيئين لتنفيذ مهمتهم .. لم يكن يخطر ببال أصحاب رأس المال الذين خبروا التعامل مع النظام طيلة العقود الماضية أن خراطيم المياه مختلفة الألوان ستداهمهم وأن هراوات رجال المكافحة ستنال منهم بعد قليل.
هي المرة الأولى التي اضطرت فيها هذه الفئة للخروج إلى الشارع للاعتصام اعتراضا على قانون اعتبروه مجحفا وتصر الحكومة على تنفيذه بعد سنوات من المفاوضات، فمنذ صدور القانون في 2001م وإقرار التعديلات عليه في 2005 استطاع التجار توقيفه بوسائل مختلفة من ضمنها اللجوء للقضاء لكنها لم تتضمن أبدا النزول إلى الشارع.
كان كثيرون منهم يرتدون أثواباً ناصعة البياض وجنابي غالية الثمن وآخرون حضروا ببدلات أنيقة وكرفتات ربطت بعناية توحي بركونهم إلى أن اعتصامهم حق مكفول دستوريا وأن السلطة لن تتجرأ على رفع هراواتها في وجه الممسكين برأس المال أو ترسل الشرطة لمطاردتهم واعتقالهم كما تفعل مع مهجري الجعاشن مثلا..
الجمع من فئة تجار الجملة والمستوردين ووكلاء الماركات التجارية العالمية لم يرعبهم منظر رجال مكافحة الشغب، وظنوا أنها مقدمة لوصول رئيس الوزراء أو من ينوب عنه لتطييب الخواطر وإلقاء كلمة يعد فيها بحل المشكلة وتوقيف العمل بالقانون حتى يتم التفاهم على آليات يقبل بها القطاع الخاص.
في اليوم التالي كان أحد تجار الجملة المشاركين في الاعتصام يرفع قميصه ويريني أثر ضربة الهراوة في ساعده. لم أر الأثر لكن في نفسي اعتبرته محظوظا كون ساعته الفاخرة نجت من ضربة ربما كانت موجهة لها.
منذ صدور القانون في 2001 ظل في أدراج الحكومة، وبروزه أو خفوته مرهون بموقعه ضمن أجندة المانحين والصناديق الدولية التي تقدم مطالب الإصلاح السياسي والاقتصادي كشروط لاستمرار الدعم والقروض الدولية.
لكن تلك المراوغة لم تصمد طويلا ودخل قانون ضريبة المبيعات مرحلته الثانية في 5 يوليو 2005م بعد أن أقر مجلس النواب إدخال مجموعة من التعديلات عليه والتي تضمنت حينها نقاط إيجابية كانت ضمن مطالب القطاع الخاص ومن أهمها الإقرار الذاتي وخفض نسبة الضريبة من 15 بالمائة الى 10 بالمائة وإعفاء بعض السلع والخدمات الأساسية من الضريبة تماما, إلا أنه وفي المقابل تضمن نقاطا اعتبرها القطاع الخاص سيئة ومضرة بالاستثمار، بل إن المحامي د.حسن مجلي الذي تولى مهمة الترافع عن الغرفة التجارية بأمانة العاصمة ذهب إلى القول بأن في القانون نصوصاً تخالف الدستور وطعن أمام الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا بعدم دستورية بعض مواد القانون.
بدت المهمة يسيرة فالقضاء قادر على الفصل في الطعن المقدم في أقرب وقت لكن المساومات بين الجانبين أطالت أمد القضية وظل توجه التجار نحو المحكمة بين الحين والآخر لتحريك قضيتهم طوال السنوات الست الفائتة مؤشرا على سوء العلاقة بين القطاع الخاص والحكومة.
في 2006م وقبيل الانتخابات الرئاسية اعتبرها التجار فرصة ذهبية لإسقاط القانون بالضربة القاضية واتجهوا نحو الرئاسة معلنين ولاءهم ودعمهم الكامل للرئيس علي عبدالله صالح مقابل إسقاط القانون الذي ينظرون إليه ككابوس مفزع يتربص بهم ويهدد بكشف بياناتهم السرية، وأعلنوا حملة جمع مليار ريال لدعم الحملة الانتخابية للرئيس، وعجزت الشوارع وواجهات المحال التجارية عن استيعاب الصور وملصقات التأييد، غضت الحكومة الطرف عن القانون تماما حينها إلا أن ذلك لم يدم طويلا.
احتمى القطاع الخاص لسنوات بعدم جاهزيته لتطبيق القانون المعقد والذي يحتاج إلى مسك دفاتر حسابات منتظمة لم يعتد القطاع الخاص على الإمساك بها وترتيب أدائه لينحو باتجاه العمل المؤسسي والمنظم، وطوال هذه الفترة التي تقول الحكومة أنها منحتها للقطاع الخاص ليرتب نفسه ويتهيأ لتطبيق القانون لم يفعل شيئا.
محمد صلاح نائب رئيس الغرفة التجارية بالأمانة وفي لقاء جمعه بمجموعة من رؤساء تحرير الصحف نهاية الشهر الماضي رد اللوم على مصلحة الضرائب التي قال إنها هي المعنية بتأهيل القطاع الخاص للتعامل مع القانون على اعتبار أن "صاحب الحاجة معنَى بالطلب" على حد تعبيره.
فقدت تصريحات قيادة الغرفة التجارية بالأمانة فاعليتها ولم تعد تخيف الحكومة على غرار الأثر الذي كانت تتركه تصريحات الراحل محفوظ شماخ، ربما بحكم الفترة الزمنية وتردي الأوضاع الاقتصادية للحكومة التي باتت تبحث عن مخارج طوارئ لدعم ميزانيتها الآخذة في التراجع، ناهيك عن استغلال مورد تعتبره مهدورا إذ إن نسبة الفاقد من الضرائب يصل إلى 80 بالمائة بحسب رئيس مصلحة الضرائب الذي يقول إن ما يدفعه التجار من الضرائب فقط نسبة 20 بالمائة.
غالب - الذي يخوض معركة ضريبة المبيعات بحماس منذ تعيينه رئيسا لمصلحة الضرائب عام 2007- أكد في حوارات صحفية آخرها صحيفة الأهالي في منتصف يوليو الفائت أن القطاع الخاص الذي يستحوذ على 80 بالمائة من الدخل القومي يدفع فقط 25 بالمائة من إجمالي الإيرادات الضريبية، مقابل 75 بالمائة هي نسبة الضرائب التي يتم خصمها من مرتبات الموظفين و بسطاء الناس. وبحسب غالب فإن ذلك "يعود لأسباب عديدة منها التهرب والتهريب، ومنها الإعفاءات الواسعة والمطلقة التي لا تنتهي، بمعنى أن القطاع الخاص تقريبا معفي، والذي يدفع لا يدفع إلا النزر اليسير وهذا هو سر الحملة الشرسة ضد قانون ضريبة المبيعات".
مصلحة الضرائب بذلت جهدها لتطمين التجار وخلال مفاوضاتها مع ممثليهم طوال السنوات الماضية منحتهم حوافز وصلت حد تخفيض مقدار الضريبة إلى 5 بالمائة بدلا عن 10 بالمائة نص عليها قانون ضريبة المبيعات في نسخته المعدلة الصادرة عام 2005.
لكن الخلاف تمحور حول آليات تنفيذية من قبيل مكان دفع الضريبة، إذ تتمسك المصلحة بدفع الضريبة في مكان البيع فيما يصر التجار على دفعها في المنفذ ولكل من الطرفين مبرراته، إلا أن دفعها في المنفذ يمكن التجار من التهرب والمغالطة في فواتير الشراء وسيفقد القانون طابعه بهذه الآلية بحسب ما تقوله مصلحة الضرائب، وتبدو مبرراتها أكثر وجاهة إذا ما قورنت بمبررات القطاع الخاص الذي يتحدث عن أن القانون معقد ويحتاج إلى مسك حسابات منتظمة وآليات دقيقة بالإضافة الى أن القانون سيتيح المجال لمحصلي الضرائب لابتزاز التجار.
اتفاق سبتمبر بداية جولة جديدة في رمضان الفائت، أي بداية شهر سبتمبر، رفعت مصلحة الضرائب وتيرة الضغط على الغرفة التجارية لإعلان التزامها بالقانون ودعوة أعضائها إلى الالتزام به، وعمدت إلى حجز حاويات البضائع التابعة للتجار في ميناء عدن، وكان هذا الإجراء مجدياً إذ انتهى باتفاق احتفل به الجانبان وبدا كما لو أنه نهاية الأزمة، وبادرت غرفة التجارة بالأمانة إلى تهنئة منتسبيها بهذا الاتفاق التاريخي ودعوتهم إلى الالتزام بالقانون والمبادرة إلى تقديم إقراراتهم الضريبية.
والاتفاق بقدر ما بدا جديا ومرضيا للجانبين، واستفادت منه الغرفة لإطلاق البضائع التجارية التي كانت محتجزة في الميناء في موسم تجاري حساس – قبيل عيد الفطر- فإن عدم رضا التجار عنه جعله قصير المدى، فبعد مرور حوالي شهر نظمت غرفة الأمانة لقاء جمع العشرات من أعضائها برئيس مصلحة الضرائب انتهى بانسحاب الأخير من اللقاء خوفاً على حياته بعد أن تحول اللقاء إلى ضجيج، وكانت خلاصته أن غالب سمع بأذنه رفض التجار للقانون وللاتفاق الذي وقعته قيادة الغرفة مع مصلحة الضرائب بنفسه لتخلي قيادة الغرفة مسؤوليتها عن تنفيذ الاتفاق.
رئيس مصلحة الضرائب أحمد غالب، وبعد انسحابه من ذات اللقاء، صرّح أن قانون ضريبة المبيعات نافذ شاء من شاء وأبى من أبى وأنه سيتم تطبيقه بالقوة. لكن رأس المال، وقياسا على الفترة الماضية التي ظل فيها يناور حول هذا القانون، وأجاد طوال عقود أسلوب التهرب من دفع أي التزامات قانونية عن طريق الدخول في شراكات مع نافذين أو دفع الإتاوات، واصل الرفض ومواجهة القانون وانصرف الجانبان للتفكير في وسائل ضاغطة.
مؤخرا أوقفت مصلحة الضرائب الأرقام الضريبية للمستوردين الذين لم يلتزموا بالقانون، وبالتالي أعاقتهم عن استيراد أي بضائع، وتكبدوا جراء ذلك وجرّاء الإضراب الذي امتد حوالي أسبوعاً خسائر فادحة، فكان الخروج إلى الشارع خيارا اضطراريا رغم كلفته العالية.
ولهذا فإن رفع هراوات مكافحة الشغب وخراطيم المياه الملونة في وجه رأس المال قد بدت للحكومة ردا مناسبا على جرأة النزول إلى الشارع رفضا واحتجاجا. وكما أنها المرة الأولى فإن النظام يسعى بهذه الخطوة أن يدفع رأس المال الى الاحتماء وراء جبنه ويكون هذا الخروج هو الأخير أيضا.
وفي الوقت نفسه يكون الرئيس قد أوصل رسالة للقطاع الخاص بنفاد صبره وعدم قدرته على الصمود أمام ضغوط الجهات المانحة، خاصة أن آخر تقرير للبنك الدولي يشير إلى أن التنفيذ الكامل لتشريعات الضريبة ما يزال يواجه معارضة شديدة من قبل القطاع الخاص وأن تطبيق قانون ضريبة المبيعات يمثل واحدة من أكبر المصاعب التي تواجه الإصلاح الضريبي في اليمن، وأضاف التقرير "فالمواطنون ليسوا معتادين على النظام الضريبي، وإنما يميلون إلى النموذج الإسلامي للضرائب وهو الزكاة".
بعد لحظات صعبة عاشها رجال الأعمال في مواجهة هراوات الشرطة خراطيم المياه في ميدان السبعين، طلبت الشرطة من بعض قيادة الغرفة الصعود على متن سيارة شرطة بغرض مقابلة رئيس الجمهورية، لكنها اتجهت بهم نحو وزارة الصناعة وظلوا في حوش الوزارة قرابة ساعتين ليتمكنوا بعدها من مقابلة الرئيس. وبحضور مسؤولي الضرائب وجّه الرئيس بتشكيل لجنة برئاسة وزير الصناعة والتجارة ، وعضوية كل من رئيس الاتحاد العام للغرف التجارية ورئيس مصلحة الضرائب ورئيس اللجنة المالية بمجلس النواب ورئيس غرفة الأمانة لحل الإشكال القائم بين القطاع الخاص ومصلحة الضرائب وفقا لمبدأ "لا ضرر ولا ضرار".
إلا أن اللجنة التي زجت برئيس الاتحاد العام للغرف التجارية في المعمعة بعد أن ظل الاتحاد متفرجا طوال هذه الفترة قد لا تنجز أكثر من تأجيل العمل بالقانون لفترة لاحقة قد يستفيد منها القطاع الخاص للانتظار لما سيصدر عن المحكمة العليا في ديسمبر المقبل بشأن الدعوى المنظورة أمامها.
نص اتفاق سبتمبر مصلحة الضرائب والقطاع الخاص وقعا مطلع سبتمبر الفائت اتفاقاً مكوناً من 5 بنود هي الآلية التي توافق عليها الطرفان لتطبيق قانون الضريبة العامة على المبيعات.
وينص الاتفاق على ما يلي: - تشكيل لجنة مشتركة من مصلحة الضرائب والغرفة التجارية بالأمانة والاتحاد العام للغرف التجارية الصناعية لحل أي إشكال يطرأ بين مصلحة الضرائب والمكلفين وذلك بالطرق والوسائل المرضية للطرفين. - معالجة ومراجعة وتسهيل المخزون للبضائع التي لدى التجار من عام 2005م حتى 31 يونيو الماضي. - معالجة البضائع الراكدة والمخزنة والمرتجعة بعد البيع. - معالجة البضائع المنتهية الصلاحية والمنتهية تجاريا والمرتجعة والتي دفع التاجر عليها ضرائب. - الاتفاق على تقديم الإقرارات وتسهيل الإجراءات وتخفيف الضغط على المستوردين وذلك بتقديم الإقرارات كل ثلاثة أشهر بدلا من كل 21 يوما على أن يتم تسديد ما يتم احتسابه على المكلف إلى البنك كل 45 يوماً وبواقع 50 بالمائة مما هو عليه وعلى أن يسدد بقية المبلغ خلال تقديم الإقرار بعد الثلاثة الأشهر وبدون احتكاك مأمور الضرائب بالتاجر الملتزم.