في خطابه بمناسبة العيد العشرين للوحدة اليمنية عرض السيد الرئيس على القوى السياسية المعارضة موضوع الشراكة الوطنيّة. لقد رفضت المعارضة التعاطي مع هذا الأمر ولو على سبيل الدردشة، واعتبرت مشكلة اليمن أكبر من موضوع حفلة شاي تفضي إلى تبديل بعض الوجوه مع بقاء العناصر المؤسسة للأزمة اليمنية حيّة في جذورها. فالمشكلة البُنيوية المعقّدة للمسألة اليمنيّة بحاجة إلى حديث طويل حول الاستراتيجيات قد يفضي إلى تغيير ملامح الدولة اليمنية وعناصرها التكوينية بصورة كلّية. كان هذا الرد الواعي موجّهاً بصفة مباشرة ضد عرض الرئيس العلَني، برغم كل ما ساقه إعلامُه عن مساومة المعارضة للحزب الحاكم في الغرف المغلقة حول مكاسب حزبية ضيقة تضعها المعارضة على الطاولة ويرفض الحاكم التعاطي معها انطلاقاً من حساسيته الوطنية الغامرة. لستُ متأكّداً مما إذا كانت قيادات النظام بمقدورِها الآن أن تفهم الأمر على هذا المستوى من الوضوح، إذ لا تزال تتحدث تصريحاً وتلميحاً عن تلك القيادات المعارضة التي تسعى لتحقيق مكاسب في السلطة والنفوذ. لكن ربما استمرأت هذه القيادات استغفال الجماهير، برغم الفاصل الحاد الذي يعزلها عنها، فتعلّقت بمقولة ونفختها دون تعيين تاريخ صلاحيتها. لكن لماذا عرض الرئيس على المعارضة هذا الأمر؟ بالعودة إلى نص الخطاب نجد تبريراً عاجلاً يشي بإحساس الرئيس المؤكّد، وإلمامه بواحدة من أهم آليات عمل المشكلة اليمنية «ذلك حرصاً منا على طي صفحة الماضي وإزالة آثار ما أفرزته أزمة عام 1993 حرب صيف عام 1994». أصبح واضحاً أن السيد الرئيس أدرك بعد 16 عاماً أن هناك «آثار» لحرب 94، وأن التصرّف الملح الآن هو التعامل الجاد معها وإزالتها. فهي، بحسب ما يفهم من كلام السيد الرئيس، آثار تشارك بفاعلية وقسوة في صميم الأزمة اليمنية الراهنة: اقتصادياً وأمنيّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً. كما أن تركها نهبَ السوانح، كما تقول العرب، سيقوّض ممكنات احتوائها مستقبلاً. فعل الرئيس سابقاً شيئاً ما: لقد انتظر مصادفات سعيدة يمكن أن تحُل هذه المشكلة، آثار 94، أو ربما فعّل منطقاً أفريقياً غير معولم: دعوها للزمن فهو كفيل بردمها. لم تجئ المصادفة السعيدة، فضلاً عن أن الرئيس توصل أخيراً إلى استنتاج رياضي مفاده: إن الكمد والإحساس بالغبن والخديعة في قلوب أبناء الجنوب، مواطنين عاديين وسياسيين وعسكريين، كان أكبر من قدرة الزمن وأكثر جلاءً من فاعليته الجدليّة. لقد سقطت المقولة الأفريقية في فخ الحزن الجنوبي العميق. في هذا السياق أتت جملة «آثار حرب 94» في خطاب علني للسيد الرئيس، لأول مرّة، بعد مضي 16 عاماً على انقضاء تلك الحرب التي لا يكن لها أحدٌ أي احترام أو تقدير.
للمرة الثانية يرد الرئيس على إعلام حزبه، فهو يعترف ضمنيّاً بالمشكلة الجنوبية، ثم هو يعزوها إلى مقدمات منطقية وجوهرية لا إلى السيد البيض ولا إلى مجموعة النفعيين الجنوبيين كما يقول قياديو الحزب الحاكم وتنابلته المتهوّرون (خاصة أولئك الذين يعملون معه بنظام الساعة). تحديداً: إلى حرب 94 التي لا يمكن أن نجد لها مبرّراً أخلاقيّاً ووطنيّاً مهما كلف الأمر من سنوات في البهلوان والتشاطر، واللت والعجن. بمعنى آخر يقول مضمون كلام السيد الرئيس: إن الحراك الجنوبي وجد في هذه الحرب مبرّراً أخلاقياً وسياسياً ليصعد معارضته ضد النظام. وها هو النظام، عبر رئيسه شخصيّاً، يقول للحراك الجنوبي ما معناه إني أفهم تماماً موقفكم وأحاول أن أزحزح الكرة إلى الأمام عبر عرضٍ جديد وكل أملي أن تتلقفوه بنيّة حسنة، أنتم وحلفاؤكم في المعارضة. لكن: من أين لهم بتلك النيّة وهم قد رأوا بأم أعينهم قياداتهم تهرُب في السفن وطائرات الشحن بعد أن أقاموا أطول حفلة غناء عربية لأجل وحدة البلد. حفلة قومية استمرت زهاء قرن من الزمن، وعمّت كل الجنوب في وقت كان فيه جنوب اليمن يقرأ الكُتب وكان الشمال «يصلي ويمسح الأحذية» باستخدام تعبير شعري شهير لأدونيس. أسوق هذا الاعتراف وأنا أنتمي إلى الشمال، حيثُ كنّا كلنا نصلي ونمسح الأحذية. وعندما يمرض جدّي، أو جدّك، كنا نسوقهم إلى مستشفيات الجنوب التي أصبحت «عبئاً على دولة الوحدة!» وهناك، في عمق مدينة عدن، خلف الحدود السياسية والعسكرية كنّا نجد رائحة اليمن الحقيقي. تلك الرائحة العبقرية التي شربتها الأيّام وساقها الجهلة إلى المجهول.
في الخطاب ذاته يتحدث الرئيس عن الحوار الوطني ويدعو «كل أطياف العمل السياسي وكل أبناء الوطن في الداخل والخارج إلى إجراء حوار وطني». يبرّر السيد الرئيس هذه الدعوة بإشارته اللاحقة إلى أن عملاً وطنياً كهذا ( أي: حوار يجمع أبناء الوطن في الداخل والخارج) ضروري ل «أجل بناء يمن ال22 من مايو وال26 من سبتمبر وال14 من أكتوبر، وتعزيز بناء دولة النظام والقانون». وبطبيعة الحال فإن أبسط قواعد الفهم ستحيلنا إلى استنتاج رياضي يفيد بأن أي عملية سياسية لا تجمع أبناء اليمن في الداخل والخارج – وهذا بالضبط ما أشار إليه خطاب السيد الرئيس المشار إليه- لن تفضي إلى تعزيز دولة النظام والقانون، كما لن تساعد بشكل عملي وجاد في بناء دولة الوحدة.
قبل هذا الخطاب، بمناسبة العيد العشرين، كان السيد الرئيس قد توجّه إلى أبناء الشعب اليمني في الداخل والخارج بخطاب مماثل. ففي واحد يناير 2010 كتب السيد الرئيس افتتاحية الثورة بقلمه شخصيّاً تحت عنوان: ليكن عام خيرٍ وسلام. وبلغة صوفية زاهدة في الإحساس بالذات، متجسّدة في الآخر، في المجموع البشري، تحدث السيد الرئيس عن السلام والخير والوطن الخالي من الأحقاد. وكما فعل بعد ذلك في خطابه بمناسبة العيد العشرين، المشار إليه قبل قليل، فقد كان مقاله واضحاً بما يجعل من مقولة أن الرئيس لا يدرك جوهر المشكلة اليمنية، بصورة عميقة ، مقولة تنقصها الدقّة.
فهو في مقالته يدعو إلى أن «تحتشد الجهود في معركة البناء». لأن من شأن حشدٍ كهذا، يجمع «قوى الوطن الخيرة من علماء ومثقفين وسياسيين وشخصيات اجتماعية وقيادات منظمات مجتمع مدني وقوات مسلحة وأمن» أن يخلق استقرار وازدهار اليمن. فالنقيض لمثل هذا الاحتشاد الوطني، العملي، والبديل المتوقّع في حال عدم تحققه هو تلك «الصراعات والخلافات التي (...) تنغص القلوب وتعيق مسيرة التقدم في الوصول إلى غاياتهاالمنشودة». مرة أخرى تحضر التنمية في خطاب السيد الرئيس باعتِبارها المحدد الرئيسي، والمعيار المركزي، الذي ينبغي أن تقاس عليه أي عملية سياسية أو أمنية أو تعليمية. وهو تكذيب شديد اللهجة لتلك المقولات التي نسمعها اليوم حول ضرورة إجراء انتخابات برلمانية وإنهاء الحوار مع فرقاء السياسة فقط، لأن وقت الانتخابات قد حان. يبدو الرئيس حازماً في منطقه المشار إليه في المقال، إذ هو يشير بوضوح فاقع إلى أنه لا طارئ ولا ملحّ إلا ما كان حاسماً في موضوع التنمية والاستقرار، تلك المعايير المركزية التي لا تتبدل بتحولات السياسة ولا بتغيرات آفاقها، وليس تلك الترهات التي لن تؤكّد سوى مزيدٍ من التوتّر والارتجاج وضبابية رؤية المستقبل. وفي المحصلة: هروب المال المحلي، وتردد المستثمر الخارجي، وبالنتيجة: ركود مستدام، وبطالة متزايدة، وفرصة محتملة لتشكيل بؤر توتر عنيفة تهدد السلام الاجتماعي والنسيج اليمني برمته، كما حدث في صعدة ويحدث في الجنوب. أما مآلات الدول شديدة الارتخاء فهي كلاسيكية على نحو ممل: انهيار المجتمع، وهروب قياداته.
يبدو الرئيس هُنا مدركاً تماماً للعلاقة المبدئية بين الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي وفكرة التنمية، التي هي مشروع كل أمّة: أن تستمر في القفز إلى المستقبل وتكافح لأجل تحسين ظروف ونوعية حياتها. وكما يمكن أن يفهَم من هذا الخطاب فالرئيس على استعداد لتذليل كل الصعاب والعقبات أمام أي عملية كلّية تهدف إلى خلق حزمة أمان مليئة بالأفكار النوعية التي تبحث في سؤال المستقبل الكبير: كيف يمكن أن نجعل من اليمن وطناً أفضل.
يستمر السيد الرئيس في مقاله، بلغة شديدة الوضوح، مخاطباً الجميع ومتنبّئاً بحدوث فجوات وشقوق على طاولة أي حوار وطني. وبلغة الواثق من قدرته على التعامل مع كل هذه الفجوات والثغرات كتب السيد الرئيس «وإنه مهما كانت المشكلات أو التباين في الرؤى والاجتهادات السياسية لحل القضاياوالتحديات التي يواجهها الوطن (....) فإن ذلك أمر طبيعي في ظل مجتمعديمقراطي تعددي تتعدد فيه منابر الرأي والتعبير». لقد كان، فيما يبدو، يستبق ما سيسوقه إعلامه غير المنضبط وأعضاء فريقه الذين يعملون بلا مشروع، لا وفق مشروعين كما تحدث ياسين سعيد نعمان. لقد سمعنا السيد أبو راس وهو ينعي الحوار مع المعارضة ويدشن مرحلة جديدة من الصراع وزعزعة الاستقرار على طريقة الرئيس الفلبيني ماركوس في انتخابات 1986 المبكّرة. كانت تلك آخر صراعات ماركوس قبل أن يفر إلى هاواي طريداً ومتّهماً. أما بالنسبة لتبريرات بيان المؤتمر الشعبي العام – الذي يتناقض بصورة جوهرية وعملياتية وإجرائية مع أهم أطروحتين للسيد الرئيس في العام 2010، كما أشرنا سابقاً- فلم يزد عن كونه مغالطات سطحية وساذجة لا تقع ضمن سياق التفكير الكلّي حول أزمة حضارية ووجودية تعيشها دولة على شفا الانهيار اسمُها اليمن، وترتيبها 176 من حاصل 181 دولة فيما يخص إجمالي الناتج المحلي السنوي، بما يعني أنها دولة شديدة المَوَات. وكالعادة تحدّث بيان المؤتمر عن تعنت المعارضة وتشددها وأمور على هذه الشاكلة لا أحب أن أحيل إليها لأن السيد الرئيس قطع الشك باليقين في مقاله المشار إليه آنفاً. فقد اعتبر أي موقف متشدّد لأي فريق سياسي أمراً طبيعيّاً ومتوقّعاً. لم يدع السيد الرئيس الأمور عند هذا الحد بل انطلق كالسهم إلى طرح خُطاطة إجرائية تتنبّأ وتضع المستقبل في إطار الاحتواء «... ولكن ينبغي استنباط الحلول عبر الحوار والتفاهم (...) فالصدور مفتوحة والأبواب مشرعة لكل رأي وطني سديديستلهم مصلحة الوطن ويصون أمنه واستقراره ووحدته الوطنية ومكاسبه وإنجازاته ومصالحه». أما فيما يخص المقصود بمصلحة اليمن، ولكي لا تترك لتأويلات أنصاف المثقفين وأخماس المتعلّمين والمضاربين بالقضايا السياسية الحرجة، فقد كان الرئيس أكثر حسماًَ في الإشارة إليها: الاستقرار، فالتنمية.
وحديث سيادته عن الاستقرار، أيضاً، كان واضحاً. إذ يأتي في مقدمته: إزالة آثار حرب 94. وهكذا، بلغة شفافة ومتجرّدة، كان السيد الرئيس يربط بين إزالة آثار تلك الحرب الظالمة ونتائجها الكارثية وبين دخول اليمن في فترة تنمية وازدهار عبر: بنية تحتية متماسكة، قوانين ذكية وشفافة، جهاز عدالة كافٍ وكفء، أجهزة أمنية تعمل لمصلحة المستقبل اليمني، في تناغم يفضي إلى توافد رأس المال العربي والأجنبي إلى حضرموتوعدن والمهرة وكمران وسقطرى والحديدة والمخا. ستكون النتيجة هي تلك العبارة الهائلة التي وردت في مقدمة خطاب السيد الرئيس بمناسبة العيد العشرين للوحدة اليمنية، بعد إشارته لآثار حرب 94، حول عزمه على مواصلة مسيرة الإصلاح لتنفيذ المشاريع الإستراتيجية المهمة ك «مشاريع توليد الطاقة الكهربائية والبتروكيماويات والأسمنت والإسكان، وتشجيع الاستثمار والسياحة، والدفع بعملية التنمية التي تحتاج إلى تعاون الجميع من أجل ترسيخ الأمن والاستقرار، وحيث لا تنمية بدون أمن واستقرار». يمكننا ملاحظة أننا ننتهي الآن من هذا العام بلا سلام ولا خير. وإذا كنّا قد أنهينا العام 2009 بقنبلة سائلة في خصية عمر عبد المطلب فها نحنُ ننهي هذا العام بقنبلة باودر في أحشاء طردٍ عابر للحدود! كما أن كل المشاريع التي أشار إليها السيد الرئيس، من البتروكيماويات إلى السياحة، لا يمكن أن نعثر عليها سوى في إشارة السيد الرئيس وحسب.
ولكن دعونا نعُد إلى أخلاقيات العمل السياسي التي أكّدها الرئيس في خطابيه الشهيرين لهذا العام. فطبقاً للمقالة الشهيرة التي نحن بصددها فإن أي موقف لجماعة أو حزب أو تنظيم سياسي لا يفضي بصورة مؤكّدة إلى تعزيز هذين الهدفين الوطنيين، التنمية والاستقرار، فهو موقف مرفوض ومدان وينبغي أن تقف «كل القوى الخيّرة» ضده، وتتعامل معه بقسوة شديدة لأجل الوطن الذي قال عنه السيد الرئيس إنه «يتّسع للجميع»، بالتالي فهو يحتاج «إلى تعاون الجميع». وبالطبع، فإن الحديث عن موقف مضاد للمصلحة الوطنية العليا، المتمثلة في التنمية والاستقرار، من قبل حزب أو فئة لا بد وأن يكون حديثاً شفافاً ومشفوعاً بالدلائل، على أن يسمح للرأي العام بمناقشته بصورة مستفيضة وفحص دلائله لئلا يُترك مادة للتلاعب الإعلامي، ويؤول الموضوع الجاد إلى كرة مقذوفات تهشم وجه اليمن المريض.
تذكرت هذه الخطابات الرئاسية وبشكل خاص بعد متابعتي لخبر إنهاء الحزب الحاكم حواره مع جميع أبناء الشعب اليمني (قوى المعارضة في الجنوب، المعارضة الخارج، الأحزاب السياسية الستة الرئيسة، اللجنة التحضيرية للحوار بعد انضمام الحوثيين ومجلس التضامن الوطني وعدد كبير من منظمات المجتمع المدني الفاعلة). في الخبر المشار إليه يدشن الحزب الحاكم، أو أجهزة القمع في الحزب الحاكم، معركة جديدة ستكون هذه المرّة شديدة الاختلاف والضراوة بسبب وقوعها في حقل سياقات لا يبدو أن هناك في النظام الحاكم من يفهمها على نحو منهجي وبمقدوره التنبّؤ بمآلاتها وتحوّلاتها. وهي بكل حال معركة لن تخدم الهدفين اللذين كرّس السيد الرئيس خطاباته لأجلهما: الاستقرار السياسي والأمني، ثم التنمية الاقتصادية.
لقد أحببت أيضاً أن أدرج الفقرة الأخيرة من مقال السيد الرئيس بعنوان «ليكن عام خيرٍ وسلام» هُنا دون التعليق عليها «... فهناك الكثير مما يمكن الاتفاق حوله وهناك الوطن الذي يلتقي عند مصالحه وثوابته الجميع. وكما قلنا مراراً فإنه على طاولة الحوار (...) يمكن طرح كل القضايا وكل شيء قابل للنقاش، وعليكم أن تدركوا بأن سفينة الوطن تتسع للجميع وسلامتها مسؤولية الجميع، وإذا ما بادر أو فكر شخص ما بخرقها لأيسبب كان فإن الجميع فيها هالك لا محالة (...) وعلى من يفكر بأنه سوف يركب الموج لينجو بنفسه وحده فإنه واهم وعليه أن يفكر أولاًإلى أين سيكون المسير؟».
وبرغم كل هذه المزايا الحضارية التي امتلأ بها خطاب السيد الرئيس، الأول والثاني، إلا أننا نجد أنفسنا بإزاء منطق مقامر وانتحاري في الوقت ذاته: سنذهب إلى الانتخابات دون الحاجة إلى أحدِ، لأننا نمتلك ثقة الجماهير. ففضلاً عن أن هذا الخطاب الانتحاري يعاكس تماماً خلاصة ما طرحه السيد الرئيس في 2010 حول أخلاقيات وثقافة الفعل السياسي في ظروف عصيبة كالتي نحنُ فيها، إلا أن أمراً آخر له علاقة بفكرة الثقة بالأغلبية تجدر الإشارة إليه، لأنه درسٌ بإمكانه أن يقضي على من يتجاهله. إنه تلك الثقة، فيما لو جاز الحديث هُنا عن ثقةٍ ما، التي قد تسوّل لحائزها الدخول في مقامرات ربما تقضي على مستقبله السياسي لو أنها جرت في بلدٍ يمارس الديمقراطية طبقاً لقواعِدها المتعارف عليها. أمامنا السيد أوباما وهو يتحدّث إلى قناة سي بي إس الأميركية بعد ثلاثة أيام من خسارة حزبه لأغلبية مجلس النوّاب «لقد علمتني هذه الهزيمة أن الرئاسة والقيادة ليست مجرّد القدرة على سن التشريعات والقوانين. إنها مسألة كيف تقنع الناس بما تفعله وتقوم به. كيف تجمعهم معاً وتمكنهم من أن يثقوا بك. كيف تدير حواراً وجدلاً (حول قضاياهم) بطريقة يفهمونها. إنه لأمرٌ لم نكن دائماً حريصين على فعله، وأنا أتحمل مسؤولية التفريط في ذلك بصفتي رئيساً» أوباما يشير هُنا إلى دخوله في مشاريع قوانين لها علاقة بالتخفيضات الضريبية والتأمينات الصحّية وغيرها. لقد قاتل أوباما لأجلها استناداً إلى فكرة خاطئة حول ثقة الجماهير الممنوحة لشخص ما في زمن بعينه. فهذه الثقة هي موضوع متغيّر لا يمنح حائزها شرعية أن يفعل ما يحلو له في كل وقت، وأن يقاتل طواحين الهواء بالمال العام والجيش العام والأمن العام لمجرّد أن الجماهير في لحظة ما من الزمن منحته ثقتها. لا داعي لأن نعلق على الدرس الذي ناله أوباما، فقد قالت الجماهير كل شيءٍ تقريباً. وهي غالباً ما تقول كل شيء في كل مكان. هل تتذكرون قصة السيد فرديناند ماركوس؟
سيدي الرئيس: أدرك يقيناً أنك أنت من كتب المقال في مفتتح هذا العام، و أنك أنت من ألقى خطاب الذكرى العشرين. وها قد أشرتُ إلى مضامينهما في مقالي هذا دون أن أطلب الإذن منك، فالطريق إليك «مخلف صُعيب». وكل ما أرجوه من سيادتك هو أن تسامحني، لأني فيما يبدو فهمت مضامين خطابيك على نحو خاطئ، إذ لا يمكن أن أفسر إعلان قيادات حزبك إنهاء الحوار مع «الشعب اليمني» إلا بحسبانه تعبيراً دقيقاً عن ذلك الذي أردت أنتَ قوله في خطابك ومقالك، وفهمناه نحنُ بطريقة ساذجة كما حدث معي أعلاه. يخيّل إلي أننا أخذتنا أحلامنا بعيداً عن مرامي سيادتك التي فهمتها جماعة حزبك على نحو نخشى أنه قد أدخل السرور العميق إلى نفسك. أما الاحتمال الأضعف فهو أنك ربما كتبت خطاباتك لشعب آخر، وسياسيين آخرين، وتحدثت عن سفينة أخرى لا علاقة لها بسفينتنا. وأنّك كنت معلماً رائعاً لكائنات لا نعرفها فهمتْ منك مقولتك العميقة حول أن الوطن الذي للجميع لا بد وأن يتسع للجميع. من المتوقع أن ذلك الشعب البعيد، في تلك السفينة القاصية، قد فهم خطاباتك على نحو صحيح. ليتنا كنّا هُناك لتقصدنا بخطابك، وليتك كنتَ هُنا لنكون الذين قصدتهم بمقالك.