حادثة "الطرود" وما خلّفته من شظايا 1. "القاعدة" في مختبر الفاعلية: انحدارٌ مستمر؟ تُنبي حادثة الطرود المفخخة التي تبنّاها التنظيم مؤخراً، إلى جانب العمليتين اللتين سبقاها وماثلتاها من حيث التكتيك والمواد المستخدمة (وهما العملية التي أسماها التنظيم "غزوة الفاروق" نسبة لمجنده النيجيري عمر الفاروق عبدالمطلب، وكذلك محاولة الانتحاري عبدالله حسين عسيري (السعودي الجنسية) اغتيال محمد بن نايف مساعد وزير الداخلية السعودي، انطلاقاً من الأراضي اليمنية)، هذه العمليات المتعاقبة والمُتشابِهة من الناحية التكتيكية تنبي للوهلة الأولى بأن قدرات "تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب" على استهداف خصومه وإيذائهم، آخذةٌ في التطور وعلى نحو نوعي وبشكل يتواءم مع طموحاته العالمية، لكن لجوء التنظيم إلى التكتيك ذاته في توجيه ضرباته المتوالية تحت مسمى "عبوات الاستنزاف"، مُستعيناً بجسم وسيط ذي خصائص معينة في كل مرة، يخفي – بالمقابل - في طياته وَهَناً عملياتياً ومراوحة تكتيكية، لم يلبثا أن عبّرا عن نفسيهما بوضوح في مختبر الفاعلية: فمقابل نجاح التنظيم النسبي وقصير الأمد في معركة الترويع الإعلامية، ثمة إخفاق هائل في تحقيق الغايات المُعلَنة والمبرمجة للعمليات الثلاث؛ ما يشير إلى أن التنظيم بات - إن حاكمنا أقواله بأفعاله - في ورطة استراتيجية شديدة بالفعل.
فمن ناحية، تبدو خيارات تنظيم "القاعدة" التكتيكية – كما عبواته الناسفة المموهة ذاتها - في حالة "استنزاف" مستمر، ولهذا نجد أن منهجه في العمل – كتنظيم مركزي وكفروعٍ إقليمية على السواء - أخذ ينحدر شيئاً فشيئاً من تدبير عمليات كبرى ذات صدى عالمي (كأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، وتفجيرات السفن والمدمرات في عرض البحر، واستهداف القطارات كما في مدريد أو وسائل النقل كما في لندن)، إلى عمليات محدودة التأثير تديرها فروعه المحلية، لاسيما في اليمن، وتحاكي في غالبيتها النمط الذي لجأت له بعض المنظمات والجماعات الإرهابية التقليدية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. فهي كما نلاحظ تعتمد على استخدام متفجرات وعبوات ناسفة سهلة التركيب والإخفاء مما خف حمله واتسع نطاق فعله التدميري، ولذلك فإنها لا تحتاج بالضرورة إلى فريق بشري كبير، وعمليات تضليل مُعقدة، وتخطيط طويل المدى (وهو ما تطلبته بعض عملياته السابقة)؛ فالمهم هنا أن يكون لديك شخص له اطلاع جيّد بعلم المتفجرات مع قدرة ذهنية على الابتكار التقني والعملياتي، فضلاً عن وجود أجسام وسيطة مناسبة تُسهِّل إخفاء القنابل وتمويهها، حتى تصل إلى الهدف المطلوب. وهذا الأمر هو ما توفّر مؤخراً لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب من خلال امتلاكه – بشكل أساسي - لخبرات عدد من صانعي القنابل والمتفجرات المُتمرِّسين كالسعودي إبراهيم حسن طالع عسيري(1). وهي خبرات ما تزال محدودة في عناصر وأشخاص بعينهم، ولذا يحاول التنظيم تنميتها وتطويرها أكثر من خلال نداءاته المتكررة لمن يبدون استعدادهم للانضمام إليه ممن لديهم إطلاع وإلمام جيّد بعلوم الفيزياء والكيمياء والتقنيات المتطورة.
ثم أن هذا التوجه نحو جعل عمليات "القاعدة" الموجهة ضد خصومها الغربيين معتمدة على قدرات تقنية بحتة يسهل تعميتها وتمريرها، وتالياً فإنها لا تحتاج سوى أقل عدد ممكن من الأشخاص، إنما هو أحد مؤشرات ضعف التنظيم ومشاكل التجنيد التي يواجهها، بل وكذلك وجود نزوع متنامي في صفوفه نحو فتور الهمّة العملية (بخلاف ما عكسته عمليات ضخمة سابقة أظهرت وقتئذٍ "حيويته الفائقة")، وما تُعبّر عنه هذه الحال من خيبة أمل في إمكانية تكرار هجمات دموية كبرى، تهزّ ثقة الغرب بنفسه وبقدرته على مواجهة عدو أخطبوطي لا يرحم!
من ناحية أخرى، وبالنظر إلى بحث التنظيم المحموم عن نقاط ضعف في المنظومة الأمنية العالمية (وهو الأمر الذي جعله يستبدل قنابله البشرية المُتحمّسة بأجسام أخرى صعبة الرصد والكشف – كالطرود المفخخة مثلاً -، وطائرات الركاب المدنية – كهدف مُفضّل وذي أولوية - بطائرات الشحن التجارية) في محاولة لاختراقها (المنظومة الأمنية العالمية) تمهيداً لضربها في الصميم، نجده من حيث لا يدري يُسهِم – المرة تلو الأخرى – في سد مكامن الخلل في هذه المنظومة، وبالتالي رفع كفاءتها وزيادة مناعتها، ما يستدعي قيامه بابتكار وسائل أكثر تطوراً للتعاطي مع الإجراءات الأمنية المُستجدة، والتي وإن أثقلت كاهل الحكومات والدول بسبب تكاليفها الباهظة، فإنها بالمثل ستُرهِق كاهل التنظيم في المدى المنظور - إن أمعن في محاولات اختراقها - بأعباء تفوق إمكانياته وقدراته حينها، إذ أن إعادة الكرّة تتطلب وجود خبرات وأدوات وإمكانات لوجيستية كافية وظروف زمكانية مواتية، وهو ما لا يكون متاحاً دائماً.
وهذا يعني أن خطر "القاعدة في جزيرة العرب" في هذه المرحلة، وبعكس التوجهات المتشائمة السائدة في أوروبا وأميركا، يظل حتى اللحظة "قابلاً للإدارة"، كما أن تأثيرات عملياته التي تستهدف المنظومة الغربية عموماً والأميركية خصوصاً، تبدو أيضاً "قابلة للاحتواء". فرغم ما خلّفته عمليتي عمر الفاروق والطرود المفخخة من حالة ذعر كبيرة بين قطاع واسع من الناس، إلا أن قطاعات حيوية كانت في قلب عمليات الاستهداف "القاعدي" كالطيران المدني والشحن الجوي واصلت نشاطاتها رغم استمرار التهديدات الفعلية أو المفترضة، وإن تطلب الأمر اتخاذ المزيد من التدابير الاحترازية لضمان تقييد (والحد من) قدرة التنظيم أو سواه من اختراق هذه المنظومة البالغة الحساسية.
2. اليمن - السعودية: التعاون تحت الضغط! الأكثر التباساً ربما في عملية "القاعدة" الأخيرة، وعلى نحو أثار ريبة الكثير من المحللين والمراقبين في اليمن، هو الدور السعودي في كشف "الطرود المفخخة"، والذي عبّر عن نفسه بشكل دعائي صاخب، عكسته الرطانة الإعلامية التي تعاطت بها وسائل الإعلام التابعة للمملكة مع هذا الحدث. لكن الرأي العام في اليمن، كما نُخب البلد المختلفة، استقبلا ما حصل بفتور شديد، وكانت أسئلة من قبيل: كيف تمكّن السعوديون من معرفة خطة "القاعدة" قبل أن يعرفها غيرهم كاليمنيين والأميركيين؟ ولماذا أبلغوا حلفائهم الأميركيين في حين كان من المفترض أن يبلغوا أشقائهم اليمنيين أولاً، على الأقل من منطلق "الأقربون أولى بالمعروف"؟ وأي دلالات تكتنف مثل هذه الخطوة السعودية، والتي تسببت في إحراج السلطات اليمنية داخلياً وخارجياً إحراجاً بالغاً، بحيث بدت محشورة في الزاوية ومُتلبِّسة بتهمة "آخر من يعلم" المُشينة؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت الأكثر تردداً على شفاه المراقبين والسياسيين اليمنيين، وغصّت بها كثير من المقالات والتحليلات التي دُبّجت لنقد الطريقة الاستعراضية التي ميّزت التعاطي السعودي مع حادثة الطرود، وما أعقبها من تطورات على أكثر من صعيد، رأى فيها معظم اليمنيين تكريساً لصورة بلادهم السلبية عالمياً، مع ما لذلك من أضرار مباشرة وغير مباشرة تصيب اليمن – حكومة وشعباً – على المديين القريب والبعيد.
بيد أننا إذا حاولنا فهم أسباب التعاطي السعودي مع قضية الطرود المفخخة بالشكل الذي ظهر عليه، فإنه لا مناص من استعادة بعض المشاهد التي وسمت سيرورة التعاون الأمني بين اليمن والمملكة، لاسيما خلال العامين الأخيرين، واستكشاف البيئة النفسية والجيوسياسية التي تحيط بمضامين هذا التعاون وتبلور اتجاهاته وتوجهاته. وفي تقديرنا أن أقرب الفرضيات لتفسير ما حصل هو أن السعوديين لا يُولون – كعادتهم - نظرائهم اليمنيين، مسئولين أمنيين وعسكريين كانوا أم سياسيين، جُلّ ثقتهم لكي يتولوا إدارة ملف شائك كملف "تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب"، خاصةً أن الحرب الأخيرة التي خاضوها مع الحوثيين وحالة السيولة التي تلتها سياسياً وعسكرياً وتفاوضياً، رجّحت رؤية السعودية الفاقعة والراسخة لليمن بوصفها "ملفاً أمنياً" صرفاً يجب التعامل معه بحذر شديد، وعلى هذا الأساس لا أكثر ولا أقل. ثم أن حادثة "الطرود المفخخة" كما تم تأطيرها إعلامياً (وهذا لا يعني أن "القاعدة" لا تقف وراءها، بل هي الجهة الفاعلة بلا ريب) عززت محاجّة الرياض التي لم تكلّ منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، وتأكيداتها لحلفائها الغربيين المُستاءين والقلقين من التوجهات الدينية الراديكالية السائدة في السعودية، بأن اليمن الدولة الهشّة والفقيرة والمعزولة في جنوب الجزيرة العربية - لا المملكة – هي "قاعدة القاعدة"، وأنها – أي اليمن - أخذت في التحوّل إلى "رأس حربة لهجمات «القاعدة» ضد الولاياتالمتحدة"(2)، ولدرء التهديد الإرهابي الكامن هناك لا مناص من التعويل على دور المملكة وخبرتها الواسعة بالنظر إلى كونها من يملك "مفاتيح هزيمة «القاعدة»" في هذا البلد(3).
ورغم أن الرياض حالياً هي الداعم المالي الأكبر لليمن، إذ تنفق سنوياً – طبقاً لبعض التقديرات - نحو ملياري دولار كمساعدات تنموية للبلد إلى جانب ما يقرب من 300 مليون دولار مكرسة لتمويل جهود "التعاون" الأمني بينهما، إلا أن الإطار العام الذي تنتظم فيه هذه المعونات تؤسسه الرؤية السعودية الحاكمة والمستمرة لليمن كجارٍ مرهوب الجانب، أمنياً وجيوستراتيجياً، ولذا فإن أي صيغة أو صورة للتعاون بين البلدين تبقى مرهونة بتلبية حاجات المملكة السعودية وتطلعاتها أولاً وفي الأساس، ومدى قدرتها على درء أية مخاطر وتهديدات قد تأتيها من خاصرتها الجنوبية الرخوة، سواء في صورة مخاطر أمنية أو متغيرات جيوسياسية "سالِبة" لا تتوافق مع أجندة المملكة ومصالحها الأكثر ديمومة في اليمن.
وضمن هذه الصيغة الضاغِطة جرت (وتجري) معظم التفاعلات في علاقات صنعاء مع الرياض، وينسحب ذلك على التعاون الأمني بينهما، والذي مثّل – ظاهرياً على الأقل – القاطرة التي تقود مسيرة نمو العلاقات اليمنية – السعودية خلال السنوات القليلة الماضية. لكن المراقب لمسارات التعاون الأمني اليمني - السعودي لا يفوته المنحنيات والتعرجات التي مرّ بها ولا يزال، إذ أن كثيراً من مساراته محكومٌ برؤى وتصورات ومصالح متضاربة؛ وما قد يعزز مصالح طرف في المعادلة التفاعلية الثنائية في لحظةٍ بعينها ربما يخصم، على نحو أو آخر، من مصالح أو مكاسب أو مقتضيات تهم الطرف الآخر ويبدي حرصه على الظفر بها (أو تجاهلها). وثمة مؤشرات عديدة على هذا النمط من المنحنيات المتأرجحة في علاقة الرياض الأمنية بصنعاء، من قبيل السياسة الأحادية التي تتبعها المملكة في إدارة الحدود المشتركة، وما تكتنفها من إجراءات يتم تقريرها وتنفيذها دون تشاور مسبق مع الجانب اليمني (مسألة بناء الجدار الإلكتروني العازل مثلاً).
على أن ملف تنظيم القاعدة، وقد أضحى هاجساً أمنياً مشتركاً إثر انهيار الفرع السعودي للتنظيم وفرار عدد من عناصره السعوديين الخطرين إلى اليمن، ليندمجوا في وقت لاحق مع الفرع اليمني للقاعدة مؤسسين بذلك "تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب" الذي يضع المملكة نصب عينيه من منطلق كونها "بلاد الحرمين" التي يسعى لتحريرها من "نجس الكفار" حسب تعبير أدبياته، هذا الملف الأكثر تعقيداً جسّد ذروة التباين والتذبذب في منحنيات التعاون بين صنعاءوالرياض(4). والسبب – كما يبدو – يكمُن في محاولة الطرفين استثمار هذا الملف الصعب لتحقيق مكاسب وسد ثغرات، بعضها لا يتأتى إلا وفق منطق اللعبة ذات المعادلة الصفرية Zero – Sum Game (ما يحصل عليه طرف يخسره بالضرورة الطرف الآخر)، وهي صيغة لا مثيل لها ضمن صيغ التعاون المعهودة بين الدول والأنظمة السياسية.. وهنا المشكلة الرئيسية.
لنتأمل سريعاً بعض الأمثلة والشواهد الحديثة التي يمكن إيرادها في هذا السياق: - قبل نحو عامين، وتحديداً في شباط/فبراير 2009، قام المطلوب السعودي محمد العوفي (الذي عرف – لفترة قصيرة – بأنه القائد الميداني لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب) بتسليم نفسه للسلطات السعودية. وقد تبيّن لاحقاً أن عملية استسلام العوفي قد تمت دون تنسيق أمني عالي المستوى وتبادلي المنافع بين سلطات اليمن والمملكة، الأمر الذي لم يُمكّن أجهزة الأمن اليمنية من الحصول على "معلومات ذات قيمة" من هذا القيادي، يمكن توظيفها في حربها ضد تنظيم القاعدة.
- في شهر شباط/فبراير من العام 2009 نفسه، نشرت وزارة الداخلية السعودية قائمة تضم 85 مطلوباً من المتشددين، قالت "إن جميعهم خارج المملكة، وبعضهم ذهب إلى اليمن". وكان اللافت في هذه القائمة، والمميز لها عما سواها من قوائم للمطلوبين السعوديين، ورود اسمي اليمنيين ناصر الوحيشي، أمير تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وقاسم الريمي، القائد العسكري للتنظيم، والملاحقين من قبل أجهزة الأمن اليمنية (باعتبارهما مواطنين يمنيين موجودين على أراضيها حصراً)، في قائمة المطلوبين للمملكة، وعلى نحوٍ أظهر اليمن - كمجالٍ جيوسياسي وقانوني وأمني – وكأنها تقع تحت سلطة واختصاص القوانين السعودية.
- عملية استسلام "القاعدي" السعودي عبدالله عسيري للسلطات السعودية في آب/أغسطس 2009 (والذي فجّر نفسه في قصر الأمير محمد بن نايف محاولاً اغتياله)، تمت – وعن سابق تصميم رسمي سعودي - دون علم السلطات اليمنية أو بالترتيب معها، وهو ما أثبته التسجيل المصوّر الذي سرد فيه التنظيم بعض تفاصيل العملية، وكيف خُططت ونُفّذت. وكان البيان الذي تبنّى من خلاله التنظيم عملية عسيري، ونشر بعدها بأيام قلائل، قد ألمح إلى أن المخابرات السعودية تتحرك خفيةً داخل الأوساط المحلية اليمنية لترصّد وتتبّع من يوصفون قاعدياً ب "المجاهدين"، دون أن يكون للأمن اليمني أي معرفة بهذه التحركات. وما قد يقوّي رواية "القاعدة" هذه، المعلومات غير المتواترة التي تداولتها بعض الأوساط وتفيد بأن ضباط استخبارات سعوديين مُتخفّين في زي مدني وعلى هيئة تجّار وسُيّاح ومهربين وخلافه، أخذوا يكثفون وجودهم وتحركاتهم في بعض مناطق اليمن وأطرافها، حيث يعتقد أن قادة "القاعدة" يختبئون وينشطون فيها، سيما في محافظات كمأرب والجوف وأبين.
- في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2010، ووفقاً لمسؤولين في الاستخبارات الغربية، قامت الاستخبارات السعودية – من طرف واحد ودون تنسيق واضح مع أجهزة الاستخبارات اليمنية - بتحذير الحكومة الفرنسية، وحكومات أوروبية أخرى، من أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، يخطط لشن هجوم إرهابي على أراضي القارة انطلاقاً من اليمن.
- في منتصف تشرين الأول/أكتوبر نفسه، أعلنت السلطات اليمنية أنها ألقت القبض في مطار صنعاء على مغترب يمني يقيم بصورة دائمة في السعودية، ويدعى صالح الريمي (33 عاماً) أثناء قدومه من المملكة. وبحسب وزارة الداخلية اليمنية، فإن اسم الريمي كان مدرجاً في القائمة السوداء، باعتباره مطلوباً أمنياً بتهمة تمويل تنظيم القاعدة في اليمن، لكن الداخلية السعودية سرعان ما نفت بشكل قاطع تلقيها من نظيرتها اليمنية ما يفيد بضلوع المواطن اليمني المقيم في المملكة، بأي أنشطة تمويلية ل«القاعدة».
ولا شك في أن هذه الشواهد وغيرها تساعدنا على فهم التعاطي السعودي المثير للجدل مع قضية الطرود المفخخة، رغم أنه أوقع النظام الحاكم في اليمن في حرجٍ بالغٍ أمام مواطنيه وحلفائه الإقليميين والدوليين على حدٍّ سواء، كما أنها – أي الشواهد الآنفة الذكر - تفتح كوّة أخرى في جدار الغموض الذي يكتنف تفاعلات التعاون الأمني اليمني – السعودي، وبصفة خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة.
والحقيقة أنه ما دام الإدراك السعودي لطبيعة مصالح المملكة في "فناءها الخلفي" لم يتجاوز عتبة "الأمن" وظل محكوماً بهواجسه ومقتضياته وشكوكه، وطالما عجز صنّاع السياسة في اليمن – في المقابل - عن تغيير هذه المدركات أو التخفيف من حدتها، وإعادة التوازن للعلاقات اليمنية - السعودية تالياً بحيث تغدو محكومة بصيغة أكثر برجماتية تقوم على قاعدة "الجوار الاستراتيجي البنّاء" الذي يُلبّي المصالح الوطنية والتطلعات المشتركة نحو الاستقرار والتنمية المستدامة؛ مادام استمر كل ذلك فإن التعاون الأمني – تحديداً - بين الدولتين سيراوح منحنياته وتعرجاته ذاتها، ما يعني - في نهاية المطاف - أن السلوك السعودي الحذر إزاء اليمن، بما ينطوي عليه من فرص ومخاطر، سيظل على حاله: أحادياً غالباً، واستفزازياً أحياناً، وغير مأمون الجانب على الدوام.
3. خطوة الأميركيين التالية (المُعتادة): "دَعهُم يَعملون وراقِبْ من بعيد"! ربما يكون السؤال حول خطوة أميركا التالية في اليمن، في ضوء غزوة "الطرود" القاعدية الفاشلة، هو الأكثر إلحاحاً في هذه الآونة بالنسبة لليمنيين والأميركيين معاً. فما حصل للمرة الثانية خلال أقل من عام، عزز مخاوف ساسة واشنطن من أن اليمن بات يواجه احتمالاً "حقيقياً" بأن يصبح "أفغانستان أو باكستان أخرى"، مما قد يهيئ ظروفاً مواتية لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب لشن هجمات دامية تطال الداخل الأميركي، ناهيك عن تهديد المصالح الأميركية والغربية الأكثر حيوية في شبه الجزيرة العربية.
لكن الإدارة الأميركية التي أعلنت على لسان رئيسها باراك أوباما أن "تدمير القاعدة" في اليمن هو هدفٌ يحظى بأولوية، تدرك، مع ذلك، أنه ينبغي التعاطي مع تهديدات "القاعدة" في اليمن بواقعية شديدة خشية الانجرار إلى خوض "حرب استنزاف" غير ضرورية في هذا البلد الهامشي الذي لا يتمتع بأي قيمة استراتيجية ذات شأن سوى مجاورته لخزانات النفط الخليجية وإطلالته على مضيق باب المندب المهم وإشرافه على خليج عدن الممر الملاحي الحيوي للتجارة الدولية، والذي استباحته عصابات القراصنة مؤخراً.
والحال إن الأميركيين يدركون تماماً أن أي استراتيجية طويلة الأمد لمكافحة الإرهاب تقتضي معالجة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار الاجتماعي الذي يسمح لتنظيم القاعدة بالنمو والانتشار، لكنهم يعلمون أنه ليس في مقدورهم الذهاب بعيداً جداً في هذا المجال في اليمن. ومن ثمّ تبدو الخيارات الأميركية في اليمن - على المديين القريب والمتوسط - محدودة للغاية؛ فالولاياتالمتحدة المنشغلة بأمور أخرى، والرازحة تحت عبء العجز، قد لا تتحلى بالصبر ولا بالموارد لمنع اليمن من الانزلاق إلى مصاف "الدولة الفاشلة"، والتحوّل تالياً إلى مرتع مثالي للجماعات المتطرفة والإرهابية.
وبهذا تكاد تتركز خيارات الولاياتالمتحدة للتعامل مع خطر تنظيم القاعدة في اليمن حالياً، في أمرين اثنين غير متعارضين بالضرورة (بل وربما يكونا متعاضدين): أولهما، اتخاذ تدابير انتقامية عاجلة للرد على عملية الطرود المفخخة، سواء بعلم حلفائها اليمنيين والسعوديين – وربما الباكستانيين إن وسعنا نطاق الفعل الأميركي قليلاً – أو من دون علمهم إذا اقتضى الأمر ذلك. وفي خطٍّ موازٍ، المُضي في سياسة "الضغط الناعم" على السلطات في اليمن، من خلال تقديم المزيد من المساعدات لها وضمان وجود تنسيق أكبر في استراتيجية مكافحة الإرهاب، بحيث يتضمن زيادة مشاطرة المعلومات الاستخبارية وعمليات التدريب وأشكال الدعم الفني واللوجيستي التي يقدمها الأميركيين للقوات اليمنية.
ويتمثّل ثاني خيارات واشنطن في إعطاء الضوء الأخضر لحلفائها السعوديين، مدفوعين برغبة أميركية رسمية صريحة هذه المرّة، لتأدية مهمة "الوكيل المُقاوِل" للولايات المتحدة في مكافحة "القاعدة" في اليمن، بحيث تتولى الرياض تتبع مصادر التهديدات المختلفة المرتبطة بالتنظيم هناك وتبادل المشورة بشأنها مع واشنطن أولاً بأول، فضلاً عن تحميلها عبء تمويل جزء مهم من جهود الشريك اليمني في مكافحة الإرهاب، وهي الجهود التي سيستمر الأميركيون في دعمها بالتجهيزات اللازمة والخبراء والمُدرّبين، بما في ذلك تمكين الشريك اليمني من استخدام طائرات من دون طيّار لأغراض قتالية إذا استدعت الظروف ذلك.
وفي التحليل الأخير، فإن ما بدا أنها "غزوة" لم تكتمل لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، والذي أخذ يستنزف طاقاته ودهائه شيئاً فشيئاً، أطبقت بظلالها القاتِمة على اليمن واليمنيين لسببٍ ليس لهم يد فيه، وما عجز السعوديون عن تمريره منذ زمن تمكنّوا – في لحظة مواتية – من جعله أشبه ب "حقيقة" مؤكدة يصغي لها الحلفاء الأميركيين والغربيين بكل اهتمام، ويتفاعلون معها بكل الجوارح. وغداة الاستعراض السعودي الأخير بالأوراق والقدرات في سوق "الحرب على الإرهاب" المزدهرة، بات الغربيون اليوم بحق يدركون من هو اللاعب الأكبر في جنوب الجزيرة، حيث تتهادى خيالات "القاعدة" و"الدولة الفاشلة" و"الموت المُتنكِّر العابِر للقارات"، صانعةً كابوساً جديداً لا يعرفون متى يستيقظون من تهويماته المُزعجة (والمُربِحة) في آن.
----------------------------- هوامش وملاحظات: (1) ربما لا يعد من قبيل المصادفة أن تكون الخبرة السعودية هي من يقف وراء تطور قدرات "القاعدة في جزيرة العرب" العسكرية والعملياتية. ف "القاعديون" السعوديون راكموا خلال سنين عدّة من العمل الحركي، سواء داخل المملكة أو خارجها، خبرات ومهارات مهمة في هذا الجانب، وقدرتهم على الوصول إلى أسرار وطرق تركيب العبوات المتفجرة تتخطى بكثير قدرة العناصر اليمنية. كما أن العديد منهم درسوا في كليات علمية وتطبيقية، ويتقنون اللغة الإنكليزية التي يستغلون معرفتهم بها من أجل الحصول على المصادر التي تتيح المعرفة بصناعة المتفجرات والمتوفرة أساساً باللغة الإنكليزية. ثم هناك أيضاً إمكانيات الوصول إلى شبكة الإنترنت، حيث تتوفر المرجعيات والأدبيات اللازمة لصنع القنابل، بوسائل مبتكرة ومن أبسط المكونات، وهو ما ترصده الاستخبارات الغربية والسعودية باستمرار من خلال تتبع ما يدور من حوارات ومناقشات في المنتديات الجهادية مثلاً، والتي يتبادل المتحدثين فيها الأفكار في تطوير وسائل أكثر ابتكاراً دائماً لإيقاع أكبر كمٍّ من الخسائر بأعداء التنظيم، لاسيما الغربيين، وفي مقدمتها القنابل والعبوات الناسفة وسواها مما يمكن التفكير فيه واستخدامه مستقبلاً.
(2) انظر مثلاً المانشيت العريض التالي: "خبراء أمن: السعودية تملك مفاتيح هزيمة «القاعدة» في اليمن"، صحيفة الشرق الأوسط السعودية، 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2010.
(3) راجع مثلاً: "اليمن يتحول إلى رأس حربة لهجمات «القاعدة» ضد الولاياتالمتحدة"، صحيفة الشرق الأوسط السعودية، 31 تشرين الأول/أكتوبر 2010.
(4) المفارقة التي تدعو للسخرية هنا، أن ما أخفق فيه السياسيين اليمنيين والسعوديين على مدى عقود، وهو الوصول إلى شكل من أشكال التناغم والانسجام في سياساتهما وبما يحفظ مصالح البلدين معاً؛ نجح مجموعة من الإرهابيين من مواطني البلدين في تحقيقه ولو بصورة تخالف طبائع الأشياء ومقتضيات زمننا. وهكذا، فإن التطلع إلى صيغةٍ ما للتقارب وربما التكامل بين اليمن والسعودية، وهو أمر ما يزال يُنظَر إليه اليوم كضرب من الخيال في قاموس الواقع السياسي الراهن، تمكّن مجموعة من المطلوبين اليمنيين والسعوديين من تحويله إلى "حقيقة" تنظيمية مؤكدة تجاوزت التعقيدات الجيوسياسية القائمة، عبّرت عنها عملية "اندماج" تشكيلاتهم القاعدية في كيان إقليمي واحد، لتغدو - بدورها – "كابوساً" أمنياً متطاولاً يحاول كلا البلدان درء مخاطره عنهما بشتى الطرق، وإن تشتت الأساليب وتفرقت السُّبُل أحياناً.
(*) باحث في قضايا الأمن والإرهاب والجيوستراتيجيا، ومدير تحرير مجلة "مدارات استراتيجية" التي يصدرها مركز سبأ للدراسات الاستراتيجية. من أحدث منشوراته: القاعدة في اليمن (دبي: مركز المسبار للدراسات والبحوث، 2010) [مؤلف مُشارك]؛ اليمن ومجلس التعاون لدول الخليج العربية: البحث عن الاندماج (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2010)؛ القرصنة البحرية في خليج عدن والمحيط الهندي: التهديد والاستجابة (صنعاء: مركز البحوث والمعلومات بوكالة الأنباء اليمنية "سبأ"، 2010).