لقد قلتها أيها المرحوم الشابي إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر حكام حكمهم الغرور وعمت منهم القلوب. تدور الدنيا من حولهم وتهتز الأرض من تحت أقدامهم وهم في غيهم يعمهون. يظلمون بلا وازع ديني وأخلاقي يعبثون بمقدرات شعوبهم وكأنها ممتلكات ورثوها عن أبيهم وجدهم يسفكون الدماء ويقتلون البشر ويديرون الحياة وكأنها إحدى لعبهم المفضلة.
حين تنصحهم لا يسمعون وحين يخطئون لا يرعوون، يتألهون ولا يخجلون هو لا يسأل وهم يصرون ألا يسألون. وحين تقع الواقعة وتحيط بهم سيئات أعمالهم تراهم أرانب مذعورة يطلبون الغفران من شعوبهم فلا تستجيب لهم ويزعمون أنهم خدعوا فلا تصدقهم ويدعون أنهم الآن فهموا معاناة شعبهم فلا يثق أحد فيما يقولون، قال حكام السودان لأبناء الجنوب خذوا ما شئتم خذوا البترول كله وديروا أمور منطقتكم كما تريدون فقط أبقوا على وحدة السودان.. لقد فهموا بعد خراب البصرة وبعد أن ضيعوا في الصيف اللبن. ابن علي طغى وتجبر وحكم بالحديد والنار والفساد والإفساد وأغراه صبر شعبه.
وحين انفجر الغضب وبلغ السيل الزبى خرج يعلن في مسكنة وبعد رقع قرن من الحكم المطلق أنه فهم أخيراً ما يريده شعبه وأدرك بعد هذا العمر ما يعانيه مواطنوه وبادر بالأمر بمحاسبة اللصوص والعابثين.. فهم أخيراً بعد أن قتل العشرات من أبناء شعبه الذين خرجوا ليعبروا عن معاناتهم في حراك سلمي وبعد أن حمل الشاب التونسي شهادته الجامعية الماجستير ليضعها على عربية خضار يبيعه بعد أن فشل في الحصول على عمل ورغم كل ذلك أقبل جنود الطغاة ليحطموا عربيته ويرمون على الأرض خضاره الذي بثمنه يطعم أسرته فما وجد سبيل سوى أن يحرق نفسه وبلهيب جسده الطاهر أشعل ثورة أبناء تونس لتحرق الطغاة وأذنابهم. وفر الطاغية مذعوراً تلاحقه جرائم حكمه وينتظره في الحياة وفي الممات ما يستحقه جزاء وفاقا. تحية لشعب تونس الأبي.. لقد أعلنوا بثورتهم الشعبية الرائعة أننا في زمن الشعوب وفي خريف الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة المفسدة فهل لمن بقي أن يعتبر وأن يقدم اليوم ما يمكن أن يقبله شعبه بدلاً عن زمن لا يقبل فيه غير اقتلاعه من جذوره. صدق الله القائل: "فإن تولوا فأعلم إنما يريد الله أن يصبهم ببعض ذنوبهم".