يبدو أن البقاء في كراسي الحكم فترة طويلة يصيب الزعماء بالغباء، وتصبح قدرتهم على الفهم ضعيفة جداً.. نهاية الأسبوع قبل الفائت وقف الرئيس التونسي المطرود بن علي أمام المايكروفون في آخر ظهور رئاسي له يتمتم بكلمات مرتعشة مخاطبا الشعب التونسي "فهمتكم، فهمتكم"، حينها كان الشعب التونسي قد فهم الطريق ولم يكن لديه استعداد لمجرد الاستماع لكلمة الرئيس الغبي الذي احتاج الى عقود ليفهم شعبه. حين أعلن بن علي أنه فهم الدرس كان الشعب التونسي قد خرج قبل 25يوما معلنا أنه فهم ما يجب عليه فعله، وهذا الفهم المتأخر جدا ينم عن بلادة فائقة زاد من سوئها مستشارو السوء الذين قال بن علي إنهم غالطوه وعمد إلى إقالتهم في الوقت الضائع. أدرك بن علي أن الشعوب المقهورة لا تصمت الى الأبد، ولا يقتلها الكبت والتضييق بقدر ما يجعل انفجارها قويا ومزلزلاً، وأن الشباب فاقدي الفرصة في حياة أفضل يندفعون بقوة مخاطرين بحياتهم أملا في الخلاص. كثيرون هم الزعماء العرب لم يفهموا بعد وضدا على ما أملناه في أنهم سيستوعبون الدرس بالغ العبرة، إلا أنهم يغالطون أنفسهم باحثين عن مخارج أخرى هرباً من الحقيقة التي تبدو لهم مرة رغم أن عاقبة تجاهلها أكثر مرارة. كنا نؤمل أن يكون رئيسنا ذكيا ولماحاً ويحاول الإستفادة من الدرس التونسي ويعلن لنا طواعية أنه فهم حاجة الشعب ومطالبه - ليس من الضروري أن يقول لنا ذلك على شاشة التلفاز- بقدر ما يتطلب الأمر إثباتا عمليا من خلال قرارات تنهي أي لغط حول اعتزامه تمديد فترة بقائه في الحكم أو توريث الحكم لنجله. يعلن لنا أنه فهم جديا رغبة الشعب في ديموقراطية حقيقية عبر قرارات ترسي مبدأ التداول السلمي للسلطة وتطمئن الناس في أن الحكم ليس حكرا على آل صالح أو بيت الأحمر أو غيرهم وإن العصر لم يعد عصر الأب المؤسس أو الزعيم الضرورة، وإنما يمكن لأي يمني كفؤ ووطني أن يصل الى قصر الرئاسة ليخدم هذا الوطن. كنا ننتظر من الرئيس صالح الذي أمضى في الكرسي قرابة 33عاما أن يرفض مغالطات مستشاري السوء الذين يزينون له سوء أمله في البقاء في الكرسي مدى الحياة وأن يصغي الى رغبة جيل كامل في أن يروا يمنياً آخر يجلس على كرسي الرئاسة دون أن يدفع أبناء الشعب ثمن ذلك من دمائهم واستقرار بلدهم. كنا نأمل أن يتنبه الى خطورة إطلاق العنان للمقربين والأصهار والأزلام للعبث بثروات البلد والسيطرة على الاستثمار وتنفير المستثمرين، وأن يدشن مرحلة جديدة بعدة قرارات يسلم فيها عدداً من المؤسسات الإيرادية الحساسة الى كفاءات وطنية لديها رصيد من الخبرة والنزاهة. بدأت خيبة الأمل من اللحظة التي اتجه فيها الرئيس صباح الأحد الماضي نحو الثكنة التي جاء منها – المؤسسة العسكرية- ليخاطب الشعب وفي مقدمتهم خصومه السياسيين ومن هناك وجه لفرقاء العمل السياسي عبارات التهديد والوعيد. حين حضر الرئيس المؤتمر السنوي للقوات المسلحة كان معظم منتسبي هذه المؤسسة ينتظرون منه قرارات تعيد المواقع القيادية في الوحدات العسكرية والأمنية الى أهلها من الضباط الوطنيين أصحاب الكفاءة والأقدمية بدلا من تسليمها لأقارب – من الدرجة الأولى- بعضهم ليس لديه من الأقدمية ما يؤهله لأن يكون قائد كتيبة ناهيك عن أن يكون قائدا للحرس الجمهوري أو الأمن المركزي أو غيرها من الوحدات التي تضم ضباطا شاركوا في ثورتي سبتمبر وأكتوبر. إن مؤتمرا بهذا الحجم وفي ظرف وطني بالغ الحساسية لا يناقش مواضيع من قبيل إعادة الاعتبار للأقدمية في المؤسسة الأمنية والعسكرية وإرساء معاييير وطنية محترمة لتولي المناصب القيادية فيها، ويكتفي بتكرار الحديث عن التدريب وتحديث المعدات العسكرية، إنما يعد نوعا من إضاعة الوقت والمال. كان اليمنيون ينتظرون من الرئيس أن يدرك الى أي مدى يشعر الجيل الصاعد الحاصل على قدر معقول من التعليم بالإحباط وخيبة الأمل عندما يرون أن مجرد الحصول على وظيفة لا يكفي عائدها لتوفير ضروريات الأسرة هو حلم بالنسبة لهم وكي يحصل أحد أبناء قريتي على وظيفة انتظرها خمس سنوات عليه أن يبيع تراب أمه ليوفر للفاسدين نصف مليون ريال هي ثمن الوظيفة هناك. وأن يدرك كم يشعرون بالقرف من الحديث عن وطن يستغله المقربون منه والمنافقون الذين أصبح أولادهم وأحفادهم يركبون سيارات "بورش" باهضة الثمن ويديرون شركات مقاولات واستيراد وتصدير رأس مالها بالمليارات، وشهيتهم مفتوحة لالتهام فرص آلاف الشباب الضائعين في متاهة الفساد واستحواذ شلل بعينها لا تقل بشاعة عن عائلة الطرابلسي على فرص ملايين الشباب. ألا يدرك الرئيس أن فللا يملكها المحسوبون عليه - بالقرابة أو بالولاء – تكلفة الواحدة منها تكفي لبناء عمارة سكنية تؤوي ما يزيد على 40أسرة على الأقل. سيدي الرئيس .. لم يعد الحديث عن الزيادات في مرتبات موظفي الحكومة وفي مقدمتهم الجيش والأمن– التي هي مقرة أساسا في اسيتراتيجية الأجور- مجديا وبات الجميع يدرك أنها ليست سوى مهدئات آنية، ووهم لا يسمن ولا يغني من جوع، فنحن ندرك جيدا وضع أقاربنا وأصدقائنا من منتسبي هذه المؤسسة المهضومة وما يعانونه من شظف العيش يحدثك الجندي المحال على التقاعد للتو وكأنه خارج من كهف تاه فيه طويلا وعاد الى بيته خالي الوفاض. سيدي الرئيس كم أنت بحاجة للتأمل في الجندي المجهول صاحب عربة الخضار المصادرة "محمد البوعزيزي" الذي كان سببا في الإطاحة بنظام له قبضة أمنية حديدية جعلته يعتقد أنها ستؤمنه الى الأبد، وكم في شوارع مدننا وأزقة قرانا النائية مثل هذا الشاب الذي انعدمت أمامه فرص الحياة، أشعل في جسده النحيل نارا انطلقت من مدينة سيدي بو زيد ولم تخمد حتى التهمت عرش الطاغية وأحالت حزبه العتي الى جيفة منتنة يتبرأ منه كل المتزلفين والمستفيدين الذين شجعوا بن علي على تعديل الدستور ليسمح له بالبقاء في الحكم مدى الحياة. سيدي الرئيس كل هؤلاء الذين يستفيدون من الفساد ويجمعون ثروات طائلة يظهرون لك من الولاء والحب ما لا يعد ويؤكدون لك أنك الزعيم المفدى، وأن الشعب لا يزال يموت حبا فيك، هم في الواقع يغالطونك خشية إغضابك وخشية فقدان مصالحهم. ومادام المحيطون بك لا يقولون خيرا فدع المكابرة واستمع للمعارضة التي نعتقد أنها لا تزال تقيد حركة الشارع التواق للتغيير، والتفت الى الغليان في الجنوب، ونقدم لك نصيحة مجانية بأن كلفة بقائك في الكرسي بعد الآن باتت باهضة جدا على الوطن، وقد تكون باهضة عليك أنت وعلى تاريخك الطويل في الحكم وما تعتقد أنه إنجازات لك.. بإمكانك أن تدير معارك ضارية في الجنوب، وتستعمل فيها كل الأسلحة لكن كيف لك أن تقنعهم بالوحدة بعد أن تيقنوا أنك حولتها الى مزرعة لك وللمقربين منك ولمسوا من طريقة إدارة الدولة هناك أن مستقبلهم ليس في وضع مثل هذا، وأن هذه ليست الوحدة التي حلموا بها عقود من الزمن ودافعوا عنها في حرب 94م ، ولا مجال الا أن تثبت لهم أن الوطن والوحدة والديموقراطية ملك الجميع، وتؤكد للجميع أن لا رئاسة مدى الحياة ولا تمديد وأنك ستغادر الكرسي في 2013 بعد أن تسوي الملعب لإجراء انتخابات نزيهة تمكنهم من التيقن أن بإمكانهم حل كل المشكلات تحت سقف الوحدة. وقبلها أن ترفع عن الملايين من المسحوقين يد العصابة المحيطة بك والتي تقضي على أي أمل يتلمسه الشباب في العيش بشكل لائق.