في الغالب، تأتي المبادرة لتبتدر حالة الركود بشأن جديد يحجز موضعه في المقدمة لا أن يأتي في نهاية السجال. ومع ذلك فقد أطلق على مجموعة تراجعات للرئيس علي عبدالله صالح عن خروق دستورية "مبادرة". لكن الأكثر أهمية من اختلاف المصطلح ما تذكره الرئيس تحت ضغط الثورة العربية الشعبية الآخذة في الزحف الأفقي قبل أسبوع من مصطلحات ك"المصلحة الوطنية العليا" و"المصلحة العامة" و"تنازلات" وهي المصطلحات التي كان قد أسقطها من معجمه اللغوي الشحيح في غمرة الاندفاع باتجاه تعديل الدستور والانتخابات النيابية. "أقول لبيك للمصلحة الوطنية العليا وليس عيباً" نعم، قالها الرئيس بعد أيام قليلة من محاججاته ودعاوى رجالاته بأن المصلحة الوطنية تقتضي المضي نحو إقرار التعديلات الدستورية، وبعد أسابيع قليلة من العنوان الرئيس في الصحافة الحكومية "فخامة الرئيس يدشن الحملة الانتخابية من عدن". هذه ليست شماتة بطور الرئيس الأخير بل إبراز لمحطات قليلة في رحلته نحو فضيلة الإقرار بالخطأ والإحجام عنه، لكن كان سيحُسب له لو فعل ذلك استجابة لنصائح معارضيه وقسم واسع من موطنيه لا بفعل الإشارات المخيفة القادمة من تونس ومصر. الآن يبدو الرئيس مرغماً لا قائد حكيماً كما يحاول تابعوه أن يستدركوا فيما كانوا هم من أعانوه على إضاعة فرصة الإصغاء إلى صوت شعبه. فحين كان يخطب قبل أسبوع في قاعة البرلمان، ظهر كم أن تابعيه إمعات وعديمو القيمة؛ أعلن "تجميد" التعديلات الدستورية فصفقوا وقال "أؤكد على عودة الحوار واستئنافه" فصفقوا وأضاف "لا تمديد ولا توريث ولا تصفير العداد" ليصفقوا أيضاً. هؤلاء أنفسهم كانوا يصفقون بنفس الطريقة للرئيس حين أوقف الحوار مع المعارضة وأوعز بالإذن للتعديلات الدستورية خلال اجتماع طارئ لأمانة المؤتمر الشعبي العامة. وعلى الرغم من التراجعات الحسنة التي اشتمل عليها خطاب الرئيس صالح ولهجته المتصالحة غير المألوفة والمحكومة بجو الرهبة المحيط بالطبع، بيد أنه من وجه آخر يمثل إدانة طوعية لعهده الذي ينظر إليه بأنه ورم متقيح في جسد البلد ذي الحضارة المدهشة. فقد أقرَّ بأن "القربة مسدودة والمانحون لم يسلموا ديناراً واحداً" منذ مؤتمر لندن في 2006 وكان عليه أن يكمل الاعتراف ويصرح أن سبب ذلك هي حكومته التي لم تستطع استيعاب المشاريع المفترض أن يمولها المانحون خلافاً لرغبته في قبض مبالغ نقدية وهو بهذا أيضاً يقر بأن نظامه متسول فاشل بعكس الصورة التي يرسمها عنه الإعلام الحكومي على أنه شريك دولي فاعل. كان صالح نفسه قد وعد مواطنيه خلال احتفال دعائي قبل انتخابات الرئاسة في 2006 بأن المانحين سيساعدون اليمن ب45 مليار دولار من شأنها القضاء على مشاكل الفقر والبطالة. لقد ساعدت إدارة الحكم بمزيج من الأدوات المتخلفة وسياسات الفساد والغي عن مصالح السكان في خلق هذا الفارق الخيالي بين وعد غير مسؤول ب45 مليار دولار و"قربة مسدودة" لم يدخل فيها دولار واحد. وأضاف الرئيس: اليمانيون هم أكرم الأقطار العربية. اليمانيون يعطون للآخرين ولكن تحول الزمان، شاء الله أن نكون هكذا فعندنا انفجار سكاني كبير يلتهم الموارد. مواردكم بسيطة مائتين وسبعين ألف برميل (نفط). نهض الرئيس مسرعاً بعد أن أكمل خطابه ولم يستمع إلى أحد. من المحتمل أنه خشي أن يسأله أحدهم عمن صنع التحول السيئ الذي تحدث عنه أو أن يصوب له آخر: كان "اليمانيون" يعطون الآخرين قبل أن يُستخرج النفط من باطن أرضهم ويتدفق المائتان والسبعون ألف برميل. كان الأولى أن يزداد عطاؤهم لا فقرهم. إنها مشيئتك ورجالاتك "أن نكون هكذا" أما الله فلم يشأ لنا الفقر والتخلف "هكذا" اعتباطاً. ذلك جانب من الإدانة والآخر هو حديثه المسبق عن الفوضى مفترضاً الاقتتال الأهلي وتحريضه على العنف، لمجرد أن معارضيه قرروا تنظيم احتجاج سلمي. كم كان مؤلماً بالفعل وصالح الذي انتهى من تقديم نفسه على أنه رئيس رؤوف بمواطنيه يقول "أدعو الشعب وكل مواطن في حالة إذا أحدث البعض الفوضى والغوغائية فمن حق كل مواطن أن يدافع عن ماله وعرضه". يكفي هذا الإيحاء القاتل وحده لإفساد ما سميت "مبادرة" ونسفها، كما أن ذلك يجعل أي مراقب مطمئناً وهو يحكم عليها بأنها خطوة إجبارية فرضها هدير الجماهير المهيب في تونس والقاهرة لا المسعى الصادق لصاحبها. ويتواصل الانطباع الرئاسي عن اليمنيين كمجموع من الرعاع، يضع الرئيس يده على قلبه خوفاً من أن يتقاتلوا في حال أذن لهم بالتظاهر. ففي يوم الخميس التالي لخطاب "المبادرة" احتشد عشرات الآلاف من أنصار المعارضة في أوسع احتجاج لها بالعاصمة صنعاء منذ الإطاحة بالتوافق السياسي وعلى مقربة منهم، احتشد عدد كبير من أنصار الرئيس صالح لتأييد سياساته ليتزعم الأخير اجتماعاً لمجلس الدفاع ويخصص حديثه في "الحكمة اليمانية" وشكر المواطنين الذين أظهروا عظمة الشعب اليمني لأنهم تظاهروا دون إحداث فوضى. وانتقل هذا المنطق ليعم وسائل الإعلام الحكومي التي توافقت مجتمعة في الثناء على "الحكمة اليمانية" في تكريس لخيال الحاكم الذي هوى بالحكمة اليمانية إلى أن يعتقد بأنَّ أقوم لوازمها أن حالت دون اقتتال أصحابها كوحوش منفلتة في الوقت الذي يتباهى هو على الدوام بتحول ديمقراطي تجاوز 20 عاماً، ينسب الفضل الأكبر فيه إلى نفسه. لن يكون ممكناً تقييم ذلك إلا أنه إقرار آخر من نظام صالح بسحق طموحات اليمنيين الكبيرة كأمة قوية جديرة بإرساء حاضر فخم إلى جموع غوغاء مقترنة بالفوضى وتسول الإعانات. بنظرة قديمة من حقبة ما قبل 14 يناير يوم انتصار الثورة التونسية الشعبية، يمكن تقييم إعلانات الرئيس علي عبدالله صالح في الثاني من فبراير بأنها جيدة واستوعبت على الأقل اعتراضات المعارضة التي نشأت إثر ما تسميه الأخيرة انقلاب على اتفاق فبراير 2009. لكن في ظل الواقع العربي الجديد المرشح للتمدد في أكثر من بلاد عربية فإن على المعارضة أن ترفع مطالبها الجوهرية التي أنتجتها في ظروف طبيعية لا في أحوال مؤقتة متصلة بالنزاع الانتخابي. ذلك أن هذا الخيار أفضل للمعارضة والنظام من الخيار الذي كان في طريقه لمحاكاة الحالتين التونسية والمصرية، شريطة أن يقدم النظام على إصلاحات ثورية تكون أكبر إصلاحات في تاريخه، بعبارة أخرى عليه أن يتفادى ثورة شعبية بثورة إصلاحات.. يتطلب ذلك أن يقتلع ذهنيته الصماء القديمة ويروض عقليته بقسوة لتقبل واقع جديد. هذا المذهب الذي سيبدو نكوصاً هو منحى مؤقت يفترض تجاوب المعارضة مع "المبادرة" الرئاسية حتى يوم الأربعاء المقبل حين من المقرر أن تعلن المعارضة موقفها من "المبادرة" على الرغم من أنها شددت الأحد الماضي على مواصلة الاحتجاجات. حتى في حال تجاوبت المعارضة مع المبادرة فستشترط له هذه المرة ثمناً يكافئ بريق الثورة التي تطرق الأبواب، وضمانات أقلها إشراف دولي أو إقليمي لم يغب عن بال محمد سالم باسندوة، السياسي المخضرم الذي يرأس لجنة الحوار المنضوي في إطارها كل مشارب المعارضة من أحزاب ومنظمات. ينبغي للمعارضة إن قبلت "المبادرة" تضمين التعديلات الدستورية مواداً تنظم وضع قوات الجيش والأمن بمختلف تشكيلاتها وإسناد قيادتها إلى قادة مهنيين بموجب الأفضلية في الكفاءة والخبرة والإنجاز. ستغدو تسوية مصير قوى الجيش والأمن أفضل تمهيد ممكن لقيام دولة وطنية، تستطيع المعارضة أن تصبو إلى حكمها بثقة كما تستطيع حكمها إذا انتخبها الشعب. وإذا لم تنجز المعارضة هذا التطلع في المرحلة الراهنة مستفيدة من الشعور الثوري العارم فلن تقدر على إنجازه مرة أخرى. يبدو التوقيت الراهن أغلى فرصة سانحة للتحول إلى حالة ديمقراطية حقيقية، تعيد صياغة مضامين الدولة وأهدافها لتحقيق غاية الدولة الحديثة التي ظلت قوى الحركة الوطنية تنادي بها منذ منتصف القرن الماضي. كان ذلك ممكناً لدى قيام الوحدة بين شطري البلاد في 1990 لولا الرؤية الفردية الضيقة التي طبعتها ثم الانقلاب في 1994 على المتاح الذي كان قد تحقق. العملية الديمقراطية بمفهومها المفضي إلى تداول السلطة قد انتهت عملياً ولم يتبق سوى قشرات تنعكس في مظاهر سطحية وهذا يجعل إعادة بناء الديمقراطية إحدى مهام المعارضة الكبرى لا الاكتفاء بالدفاع عن أسس التجربة الأولى الناقصة التي بدت مقنعة عام 1990 في بلد يخرج لتوه من أسر نظام شمولي منغلق، وسط منطقة صلدة شديدة الجمود. ذلك أن واقع المنطقة أو ادعاء منظرين مجوفين بعدم استعداد اليمنيين لديمقراطية رحبة ليسا العاملين اللذين يحددان أي قدر من الحرية يجب منحها للناس، بل حاجة الشعب وحاجة العصر. كما يتعين على المعارضة الحفاظ على زخم الوثبة الشعبية التواقة بالفعل إلى تغيير حقيقي، تجلى خلال احتجاجات الخميس في كبريات المدن. يعني ذلك الحذر من مقايضة حركة الاحتجاجات المتنامية بمبادرة الرئيس التي تبدو ثمناً بخساً دُرس بعناية لإطفاء نجم الحركة البادئ في البزوغ فيما لا تتضمن المبادرة سوى كبح لجموح كان يعلم الحزب الحاكم صعوبة المضي قدماً فيه. لن يكون بإمكان المعارضة الذهاب بعيداً في المراهنة على المستوى الذي وصلت إليه حركة احتجاجاتها مؤخراً في حال توقفت عنده وشرعت تتفاوض متكئة عليه. ويتطلب هذا الخيار أن تغادر حالة ما تسميها المهرجانات القائمة على نمط الإذاعة المدرسية..إذ من غير المقنع حشد أعداد ضخمة من الغاضبين والتباري في إلقاء الخطب والشعر المقفى على أسماعهم ثم فضهم بالجملة التقليدية المملة "رسالتكم وصلت". الحفاظ على حركة الاحتجاجات يتضمن أيضاً إجلاء طابعها الشعبي والدفاع عنه في وجه الدعاية النظامية التي تجاهد من أجل تقزيمه وتشويهه لتقدمه إلى المتلقين على أنه مجرد شغب لفريق يريد إيصال حميد الأحمر إلى السلطة. لقد استخدمت الدعاية النظامية هذا التضليل في كل تجمعاتها المضادة لتحصر هجومها على حميد الأحمر وتصور الاحتجاجات الشعبية الضخمة والصادقة بأنها تتحرك بإيحاء من رجل طامع في السلطة. يخير الخطاب الحكومي الإيحائي البسطاء بين علي عبدالله صالح كحاكم شرعي وحميد الحمر كطامع في السلطة بطريقة غير مشروعة من شأنها تفكيك الدولة وإغراقها في الفوضى والاقتتال الأهلي لكي يفض أكبر عدد ممكن من المواطنين عن حركة تغيير، تركض سراعاً وهي محفوفة بالشوق والإسناد الشعبي. تاريخياً، دأبت الأنظمة المستبدة الغارقة في الفساد على التقليل من حجم الحركات الشعبية التحررية ونسبها إلى جهات وهمية أو أعداء مختلقين للهروب من حقيقة أن عدداً هائلاً من مجموع الشعب يمقتها. يحدث أنصع مثال لذلك في مصر حيث يصر ملايين المحتجين على الإطاحة بنظام الرئيس مبارك ليزعم الأخير طلية أيام الثورة المستمرة أن عناصر أجنبية تستهدف مصر هي من تقف ثورتهم وفي أفضل الأحوال يلصقها بتنظيم محظور في إشارة إلى الإخوان المسلمين. تتشابه الأنظمة الدكتاتورية في اختلاق الشائعات بحق الحركات المناهضة لها إذ من الصعب أن يتقبل زعماء هذه الأنظمة بأن بحراً من البشر يمقتونهم، وهذا في جوهره عمل غير أخلاقي وخال من الشهامة التي توجب الاعتراف بمناقب الخصم وقوته. "هؤلاء يمقتونك حقاً أيها الرئيس" هذه الجملة خير نصيحة يمكن لأحد معاوني مبارك أن يسديها له لو تمكن من اختلاس نظرة على ميدان التحرير بالقاهرة، كما هي أغلى مشورة كان على مساعدي صالح تأكيدها له وهو يحلق بمروحية فوق عشرات الآلاف من المحتجين ضده الخميس الماضي.