جاءت اللحظة فوددت لو "أخرج حافياً إلى الطرقات أعانق المارة ودموع الفرح تفيض من عيني"، مندفعاً كبطل، مجنوناً كعاشق، كانت لحظة مصر، ولم تكن بعد لحظة بلدي، المصريون هنا يرفعون الأعلام وصور ميدان التحرير، ويكتبون على جباههم، ويرسمون على مركباتهم: "أنا مصري وأفتخر"، شعرت بالانكسار: كان ميدان التحرير وسط العاصمة صنعاء في تلك اللحظة غارقاً وسط دخان المباخر والقبائل ولا شيئ آخر سوى البرع، البرع فقط، بالجنابي والكلمات والشعوذة أيضاً. المصريون هنا حيث أعمل بدوا وكأنهم يولدون من جديد، لقد استعادوا وطنهم: يتبادلون رسائل الفرح، ورسائل أخرى بسيطة ومعبرة لم تكن على البال أبداً: "من النهار ده دي بلدك إنت، ما ترميش زبالة، ما تكسرش إشارة ما تدفعش رشوة، ما تزورش ورقة، اتقن عملك، افتخر إنك مصري". وبطريقة ما كان صوت عصام الشوالي يدوي في أذني: "الله يا مصر". يقول صديقي الدكتور عثمان: نفسي تذوق الشعور الذي أحس به الآن، ما تفتكرش الفرحة اللي أنا فيها، لقد قلت لأولادي وزوجتي إن هذا اليوم أسعد يوم في حياتي، وأجمل من لحظة زواجي ويوم استقبالي لأول مولود، ويوم تخرجي من الجامعة". كان يصف ما حدث وكأنه خارجاً للتو منتصراً من أغلى وأكبر معاركه، لقد استعاد شبابه دفعة واحدة، ولم ينس روح الدعابة المصرية: "اسمع بأه آخر نكتة: أحد الشباب المحتفلين في ميدان التحرير كتب على يافطة: "ارجع ياريس متخافش كنا بنهزر معاك"، ثم كتب أسفل اليافطة: "الكاميرا الخفية"، كان يتكلم ويضحك، ويعدد التحديات التي تنتظر البلد، لكنه كان مطمئناً، ثم يعود ليروي نكتة أخرى ويرجع لمعانقتي من جديد. أعيش أياماً رائعة مع شباب عرب من أغلب البلدان، والسؤال التقليدي، "والآن دور من"؟ بعضهم يقول لي: "لقد حان دوركم"، فأتمنى وأضحك، ونرجع لحكايات شباب ميدان التحرير، وطريقتهم الراقية في التظاهر وبطولتهم ونضجهم وصمودهم. بالنسبة لي كانت اللحظة المصرية فرصة تاريخية لا تتكرر لإذكاء نضج الجيل الذي أنتمي إليه في اليمن، كان ممكناً – ولا يزال - بحسب ظني وأشواقي أن تسري روح الثورة إلى ميدان التحرير في العاصمة صنعاء، أو شارع التحرير في تعز أو أي مكان يمكن إعادة تسميته بعد ذلك، ولا زلت قلقاً في الوقت نفسه من محاذير العنف والفوضى، غير أن اللحظات مشحونة بأسباب الأمل وأسباب القلق معاً، ولا يزال ممكناً اختبار ما يمكن أن نصنعه نحن الشباب، وما نحن قادرين عليه، ولساعات طويلة أبقى مستيقضاً خلف أفكار لا تأتي بالنوم أبداً: هل نستطيع تقليد شباب مصر؟ هل سأحجز على أول طائرة وأذهب إلى ميدان التحرير، أم أجري وراء فكرة جديدة تبحث عن طريقة نساعد بها نحن المغتربين مادياً من يتضرر أو يصاب من المتظاهرين؟ وكيف يمكن تشجيع إخواني الشباب على إبقاء المظاهرات سلمية والمحافظة عليها راقية ومتحضرة في وجه رجال الأمن السريين والشرطة وبلطجية الحزب الحاكم؟ وكيف يمكن أن نجعل الجيش يعمل لصالحنا كما حدث في تونس ومصر ونحن نعرف من يقوده ومن يرأسه؟ الأهم: هل هناك ما يكفي من الجيل الحالي لقيادة التغيير؟ السؤال الأخير يذكرني بما قاله الأستاذ هيكل لمنى الشاذلي بعد تنحي مبارك بساعتين: "أنا لست سعيداً بمن خرج ولكني سعيد بمن دخل"، هو يقصد الشباب، أما من خرج فهو يوجه له الشكر والتقدير، والسبب أن "الرئيس حسني مبارك ترك الأزمة تطول لفترة طويلة جداً نضج فيها جيل جديد ونضجت فيها مشاعر حقيقية ونضجت فيها مسؤولية كاملة لشعب بأكمله، خرج يتولى مسؤوليته، وهذا يعنيني فيما حدث". في بلادنا وبطريقة ما، لا يمكن القول إن هناك جيلاً بأكمله قد نضج، كما لا يمكن القول بعكس ذلك تماماً، لكن الذي يظهر داخل "القدر العميق" أن الطبخة كلها "عردت" والتعبير من القرية، والقصد أن الجيل بأكمله لم ينضج بعد، جزء من هذا الجيل لا يزال "رعوياً" وفات عليه الاستعداد للنضج من جديد، لقد توقفت آلة اللهب أكثر من مرة خلال الطبخة وأعيد إشعالها من جديد، وبدا واضحاً أن نظام الحكم لدينا استطاع وعلى نحو ملتو ورهيب إفساد مكونات النضج، فتأخر الجيل هنا عن الجيل هناك، ولم تنضج مشاعر حقيقية ولا مسؤولية كاملة لشعب بأكمله. القارئ يستطيع أن يضيف من عنده إلى نظام الحكم ما يرى من الأسباب: سيطرة القوى التقليدية، الثقافة المتخلفة للقبيلة، رجال المال وأبناء المسؤولين الفاسدين، ضعف أحزاب المعارضة. جزء مما سبق يبدو صحيحاً لكنه ينتمي إلى عصر ما قبل الثورة المصرية، وما يحدث أن الثورة تفاجئ الجميع، ولازلت أنتظرها، بدون عناء الرد على الطرف الآخر الذي لو كان عاقلاً فسينتبه إلى أنه يردد ويفعل ما كان الحزب الوطني في مصر يفعله في الأيام الأولى للثورة المصرية، وسيأتي اليوم الذين يسعى فيه رجال الحكم في بلادنا ورؤساء الصحف والمؤسسات الإعلامية وأعضاء الحزب الحاكم لتغيير جلودهم كما يحدث الآن في مصر وعلى نحو فاضح رهيب، حتى الحزب الوطني هناك تبخر فجأة، أكثر من ثلاثة ملايين عضو بحسب ما كان يزعم جمال مبارك تحللوا واختفوا ولم يجد أحد مراسلي القنوات الفضائية واحداً منهم عندما خرج يبحث عنهم في شوارع القاهرة. اليوم أقرأ أن اللقاء المشترك وافق على العودة إلى الحوار، ثم هو يقول إنه لم يوافق تماماً على ما سميت مبادرة لكنه ينظر إلى ما قاله الرئيس كأفكار عامة تحاول أن تبحث عن مخرج، وشخصياً لا أثق كثيراً باللقاء المشترك حتى يثبت أنه أهل لهذه الثقة. غير أني أسمع صوت العقل بداخلي يأتي من بعيد مؤيداً ومباركاً لأي حوار، لكنه صوت ضعيف وسط صخب الثورة في قلبي والحماس لتغيير وجه هذا البلد البائس بسرعة لا تنتظر المكايدات والمهاترات والأساليب الغبية والعتيقة لرجال هنا وآخرين هناك. صوت العقل ينادي بالحوار، لكن من يضمن لنا أن رئيس البلاد الذي "يلعب بالكروت" و "يرقص على رؤوس الثعابين" لن يغالطنا مرة أخرى؟ ومن يضمن لنا أن هذا "المشترك" قادر على ترجمة ما يريده هذا الجيل الجديد الذي يفقد يوماً وراء الآخر إيمانه بالأحزاب والرجال المعتقين، ويستبدل كل ذلك بشعار المرحلة الثائر: "لا حزبية ولا أحزاب، ثورتنا ثورة شباب". أريد أن أفرح مثل إخواني المصريين، نَفَسي قصير ولا أستطيع الانتظار أكثر، ومثلي الكثير من الشباب في عدنوصنعاءوتعز وذمار وفي كثير من هذه المدن والقرى، يحبون أن ينتموا فعلاً لجيل البوعزيزي ووائل غنيم ونوارة نجم، يرغبون في صنع الكثير، الاندفاع إلى الشارع والتدفق على الميادين وتسجيل التاريخ الجديد بأيديهم وهتافاتهم، بصبرهم وعنادهم، بشوقهم للقادم الجديد الذي لن يأتي أبداً ما لم نذهب إليه.