بدت المرأة الطاعنة في السن وسط ميدان التحرير بالقاهرة صادقة تماماً وهي تعبر عن رغبتها في تقبيل من يصنعون مستقبل مصر إلى جوارها: «كنا بنقول عليهم بتوع نت، دلوقتي أبوس رجليهم»، وفي الواقع هم «بتوع الاثنين» معاً، أقصد: انترنت وثورة، وهم يستحقون ذلك، لأنهم فعلوا ما عجزت عنه الأحزاب السياسية المعتقة طوال عقود، وفي المقابل كانت "السلفية السياسية" حاضرة وبقوة، وبدا لوهلة أن المشهد الذي نقلته الكاميرات من مكان ما بين ميدان التحرير وميدان عبد المنعم رياض، خارجاً من فيلم سينمائي وليس واقعاً يمكن تخيله أو تصوره، لقد كانت الجمال والخيول وهي «تعرعر» وسط الشباب كافية لوضع عنوان المرحلة الفارقة: الشباب كرمز للمستقبل المشرق في مواجهة مباشرة مع النظام كرمز للماضي الأسود. يحصل ذلك في مصر، ولا أريد الاستطراد أكثر، فالعالم ينقل ويصور ويحلل كل التفاصيل هناك، غير أن الذي يحدث في هذه البلاد بحاجة إلى المراجعة والتفصيل، ومن المطلوب استعادة المقارنة بين الشباب والجمال لنعرف في أي طريق نذهب. دعونا نتذكر التهمة الجاهزة التي كانت تلصق بشباب ميدان التحرير قبل يوم 25 يناير وبعده بأيام قليلة: «قلة عميلة، تحاول زعزعة أمن مصر» بحسب الإعلام المصري، وبعد جمعة الغضب «ترخرخوا» جميعهم، وبدأت اللهجة تختلف، حتى ظهر علينا نائب الرئيس ورئيس الوزراء الجدد وهم يمتدحون ما قام به أولئك الشباب ويدعون «الجماعة المحظورة» للحوار. هنا وفي هذه البلاد، سيخرج لك «بدل العشرة عشرين»، بعضهم صادقون ومخلصون، يسردون عليك سيناريوهات الرعب والفوضى، في حال أردنا تقليد أولئك الشباب الذين ترغب تلك السيدة المصرية في تقبيل أقدامهم، والمبررات جاهزة: البنادق والجنابي والتخلف وارتفاع نسبة الأمية عند الشباب، ويزيد البعض بالقول إننا نشبه «روم الدرج»، يقصدون العجل الصغير الذي يظل محبوساً منذ أن يولد أسفل درج البيت في القرية، وعند أول فرصة له بالتحرر والانطلاق فإنه يقفز في كل الاتجاهات محطماً كل ما يراه ولا يعرف لنفسه طريقاً. من يقول ذلك هم من الأصدقاء الذين يمكن معهم قول كل شيء يبدأ بنكتة، وينتهي بأخرى، ولا تنتهي علاقتك بواحد منهم بالتآمر أو الخيانة، لكن الأمر ليس كذلك أبداً مع آخرين في السلطة والحكومة يكررون على نحو سيئ جداً ما بدأه الإعلام المصري والكثير من رجال السلطة والحكم مع كل من ينادي بالتغيير ووسائل القيام به. سنسمع اليوم وعلى نحو مزرٍ الكلام المكرر نفسه، عن الذين يحاولون تشويه سمعة اليمن، وتخريب البلد، والإساءة إلى إنجازات الثورة، «ويقلون الأدب» مع القائد العظيم الملهم، لأنهم فقط نادوا بالتغيير. نظرة واحدة على اللافتات التي خرجت في مظاهرات الحزب الحاكم في ميدان التحرير، تجعلنا نظن وكأن الذين يسيرون في الاتجاه الآخر جوار الجامعة، مجرد مخربين وبلطجية ويكرهون الوطن، ونصفهم عملاء للخارج وخائنون ومكانهم الطبيعي السجن وليس جولة الجامعة الجديدة. في أوقات سابقة كان بالإمكان، مجاراة مثل هذا الدفاع السيئ عن بقاء الأوضاع على ما هي عليه يمكن عذر مثل هؤلاء الناس مصلحتهم مع أن يظل كل شيء على ما هو عليه، و«المرء ضعيف والنفس طماعة»، لكن بعد الزلزال الذي حدث ولا يزال في تونس ومصر، وسقوط كل شعارات الأحزاب الحاكمة ومبرراتها في البقاء، من العيب أن نستمر في ترديد ما يبدو قديماً ومستهلكاً وغير ذي جدوى. الشباب الذين خرجوا في شوارع تونس وتدفقوا إلى ميدان التحرير واعتصموا جوار أسوار الجامعة، هم أفضل ما في كل هذه البلاد مجتمعة، وأرجو أن نتفق على ذلك، هم ليسوا دعاة تخريب ولا عملاء ضد الوطن، وهم يحبون بلدهم أكثر من غيرهم، هذا الكلام أصبح مؤكداً في تونس، وآمن به اليوم أغلب المصريين، وعلينا أن نتعلم ونستفيد من تجارب الآخرين. مقابل ذلك علينا التأكيد أن البلد في الأعوام الأخيرة لا يشهد استقراراً ولا تنمية، بل يذهب إلى مزيد من الفوضى وتراجعاً مخيفاً في مجالات البناء والتنمية، ومن يريد لهذا البلد الخير عليه أن يدعو لتغيير هذه الأوضاع، وفي أوضاع كهذه يصبح الشعار هكذا: نعم للتغيير من أجل الاستقرار والتنمية. هنا يجب التأكيد على أن كل ما تحقق على طريق الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية في بعض البلاد العربية يعود الفضل فيه إلى هؤلاء الذين يتهمهم بعض الرجال «المكرشين» بالتخريب، والذين يصفون ما قاله الرئيس في مجلس النواب بالمبادرة التاريخية عليهم أن يتذكروا أن هذه المبادرة التاريخية ليست مبادرة أولاً، وإنما «مراجعة» لأخطاء ارتكبها الرئيس ونظامه، والأهم إن هذا «التاريخي» ما كان ليحدث لولا هؤلاء الشباب الذين خرجوا إلى الشارع، فالأمر لم يحدث صدفة ولا تصنيفة من عند الرئيس، ولا هو مثلاً راجع ضميره في الليلة السابقة ثم استيقظ في اليوم التالي يعلن علينا تراجعه عما اقترفه قبل أيام مع «رفاقه». من المفيد هنا تذكر الصحف الرسمية و«عنتريات» الحزب الحاكم التي تلت فوز الحزب الوطني الحاكم في مصر بالانتخابات التشريعية الأخيرة. أكتب ما سبق حتى نعيد ترتيب الحديث عن المرحلة المقبلة، ونظرتنا تجاه من يصنعون اللحظة الحرجة، اللحظة التي تدفع بالرئيس صالح إلى صنع إصلاحات حقيقيقة بضمانات واقعية، أو تدفع به خارج القصر الجمهوري بدون خوف منه، أو ما سيترتب عن تنحيه، هذا البلد ليس كما نظن جميعاً مجموعة بربر وقبائل متخلفة، فينا بعض من ذلك ولسنا كلنا كذلك، والتظاهرات التي احتضنتها الشوارع الممتدة من الجامعة الجديدة وميدان التحرير تعكس إمكانية المحافظة على قدر معقول من الاستقرار، ونحن نردد «الشعب يريد إسقاط النظام»، وعلينا أن نعود بين فترة وأخرى إلى هذه الطريقة الراقية جداً التي ينتهجها شباب ميدان التحرير وسط القاهرة، وتدفع بي هنا حيث أعمل إلى احتضان كل زميل مصري صباح كل يوم وبي شعور أنني احتضن الثورة وأحس برياح التغيير. سأختم بتكرار ما يجب تكراره، وهو أن هناك الملايين على امتداد هذا البلد يرغبون في تغيير هذه الوجوه التي لم تتغير على كراسي المسؤولية والحكم طوال ما يزيد عن 30 عاماً. الملايين ترغب في التغيير، ولا ترغب في الفوضى والتدمير، والذين يحبون هذا البلد عليهم أن يؤمنوا أن وقت التغيير حان، ولا يستحوا إن هم تبنوا وجهة النظر الجديدة هذه، لا يخجلوا أبداً من المطالبة بالتغيير والتأكيد عليه، وتقديم الاحترام لكل شاب يهتف وسط الشارع ضد هذا النظام.. أنصحهم بذلك، حتى لا يبدوا مضحكين كأعضاء مجلس النواب غير المحترمين أبداً: الأيدي نفسها التي صوتت وهتفت للتعديلات وتصفير العداد هي نفسها التي صوتت وصفقت بالحماس نفسه وبعد أيام قليلة بعكس ذلك.