من جديد وعلى نحو مدهش تتكرر القصة في اليمن، كأن الأخبار تعيد قراءة القصة من الكتاب نفسه، بعض الاختلاف في التفاصيل للحفاظ على الأسلوب فقط، الأسلوب اليمني قد يكون أكثر عنفاً، أما الخطوات فترسم الطريق بوضوح ساطع: يخرج الشباب إلى الشارع، تلحق بهم أحزاب المعارضة التقليدية، يصطدمون بالآلة الرهيبة للأجهزة العسكرية والبلاطجة، يقررون الصمود فينجحوا في ذلك، هذا ما يحدث حتى اللحظة، وبقية القصة يمكن إعادة كتابتها من الذاكرة القريبة على النحو التالي: يستمر الرئيس الذي سيكون "غارقاً ونزقاً" في إعادة خطبه وتصريحاته خلال الأعوام العشرين الماضية عن الحوار والكرسي وصناديق الاقتراع، ويستمر الشباب في التدفق إلى ميادين مدنهم، معلنين سأمهم من النظام كله، وبمرور الوقت ستكون أبواب جهنم مشرعة أمام الجميع، وسندعو جميعاً أن يتوقف الرئيس عن العناد والمكابرة كما كان مبارك في الأيام الأخيرة، ويتوكل على الله، ويذهب. البلاد كلها أمام اختبار رهيب جداً في الأيام الجارية، إما يصنع هؤلاء الشباب لحظة بلدهم التاريخية، ويساعدهم رئيس البلاد على ذلك بالاستجابة لمطالبهم، أو يركب رئيس البلاد رأسه، ويذهب في لحظة غضب إلى استدعاء "القبيلة والعسكر"، مدركاً في الوقت نفسه أن أسوأ ما خوفنا به "الحرب من طاقة لطاقة" سيأتي على يديه هو ولا أحد غيره. دعونا نتذكر أن العالم كله وقف في الأيام التي سبقت انتصار الثورة المصرية إلى جانب الفكرة الملحة بتنحي مبارك لتجنيب مصر الاحتمالات المفجعة، قبل ذلك كان الجميع يتحدث عن تأخر مبارك عن الأحداث بفارق يومين إلى ثلاثة، والجميع كان يتحدث أن النظام في مصر فشل في قراءة الشارع ومآلات الثورة التونسية، ويبدو أن النظام لدينا غبي بما فيه الكفاية ليمارس وبالحماقة والصلف نفسه خطايا الأيام الأخيرة في النظامين التونسي والمصري. المدهش في الأمر كله أن الثورة المصرية بالذات، هي الأولى في التاريخ التي يتم نقلها عبر آلة الإعلام الرهيبة للجزيرة وبقية القنوات الإخبارية، لحظة بلحظة، يعني المراهق في السياسة حفظ القصة، ومن المرجح أنه لن يكرر ما كرره النظام المصري عن الاختلافات بين تونس ومصر، لقد كان الإعلام "القومي" المصري وأركان النظام الفاسدين يتحدثون عن مصر "المختلفة"، والجميع يعلم ماذا حدث بعد ذلك، واليوم يتردد الكلام نفسه على لسان النظام في صنعاء.
سيقول لنا الرئيس وأنصاره: لسنا مثل تونس ومصر، لدينا ديمقراطية وانتخابات، وأحزاب سياسية، النصيب الأوفر منها في مجلس النواب للحزب الحاكم. وينسى الرجل أن الحزب الوطني في مصر كان يردد الكلام نفسه، وهو الفائز في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بنحو 420 مقعد من أصل 508. يعني قصة الانتخابات معروفة، "ومن يريد السلطة يأتي عبر الصناديق" نكتة سخيفة، والجميع اليوم يعرف أين تتركز السلطات كلها، سواء بانتخابات مزورة أو بتعيينات رسمية، وقائمة الأسماء التي تعتلي أهم المواقع القيادية والعسكرية شاهدة على أن الرئيس يتعامل مع هذه البلاد وكأنها ملك له ولأسرته، ثم هو وبالطريقة التقليدية القبلية مستمر في إدارة الأزمة دون أن ينتبه ولو لمرة واحدة أن هناك طرقاً أخرى للحل وليس للإدارة. الهتافات اليوم التي تطالب بالأمن والتنمية والاستقرار، وعدم الانجرار إلى الفوضى والعنف، يجب أن توجه إلى علي عبدالله صالح وحده، لأنه المسؤول عن كل هذا الخراب الذي وصلنا إليه، وبسببه هو تعقدت أوضاعنا بشكل لم تعد معه عمليات الترقيع مجدية أبداً، وأرجو أن يجد من ينصحه بأن فكرة "المؤامرة" "والأجندات الخارجية" أصبحت طريقة بائسة لرمي "بلاوينا" على الآخرين. دعونا نتذكر مرة أخرى أن شباب ميدان التحرير في القاهرة اتُهِموا بالعمالة والخيانة، وقصة الكنتاكي واليورو معروفة، ومن رددوا مثل هذه الحماقات يقدمون اعتذاراتهم اليوم للشباب المصري. هنا في صنعاء وعدن وتعز لا يمكن وصف آلاف الشباب بأنهم خونة ويعملون وفق أجندات خارجية، ولا يمكن أيضاً وصفهم بالمنقادين لشخصية بعينها، من يقول ذلك يجرمهم في الأولى ويستغبيهم في الثانية، وفي كلا الحالتين هو يوجه الإهانات لشباب حجمهم بمئات الآلاف، ورئيسنا يفعل ذلك بكل سهولة، ويصفق له ويهتف له المئات! اليوم نستطيع القول إن هذه الثورة الشعبية وصلت إلى طريق اللاعودة ولا يمكن بعد اليوم إخمادها أو تفريقها، القمع والدم يأتي بالمزيد من الغاضبين، والحلول الوسط والخدع التي تعودنا عليها منذ أيام بعيدة وطويلة لن تنقذ النظام الآيل للسقوط، وسيكون الرئيس أمام اختبار عسير جداً ليثبت لنا أنه ذكي وداهية كما يحب أن يقال عنه، والخيارات أمامه محدودة وصعبة ومؤلمة. وهو بالقرارات التي سيتخذها سيكون المسؤول الوحيد في المرحلة الجارية عن تحمل تبعات أي عنف. الخيارات الآن صعبة، وبمرور الوقت ستكون أصعب، لكن طريق العودة ليس وارداً بالمرة، لقد وضعنا الشباب الرائع على الطريق الصحيح في اتجاه التغيير، أما الكلفة فبعلم الله، والواضح تماماً أن الكثير من أوراق تاريخ هذه البلاد ستكون مليئة بالتفاصيل والأشخاص الذين وقفوا هنا والذين وقفوا هناك. أكتب عن نظام يشبه "دكان عسكر" يتدفق تحته نهر جارف مؤذن باقتلاعه، ويتداعى أفراده إلى محاولة الإبقاء عليه مصدراً للرزق والمنفعة فقط، ولن يكون غريباً أن يلجأ هؤلاء الناس إلى استنزاف كل أموال الدولة للمحافظة على مواقعهم، والتحالف مع الشيطان نفسه لاستمرار الوضع على ما هو عليه. أما الشباب فلا شيء يقلقني عليه الآن، هم بحسب المعطيات أنضج وأذكى وأكثر إصراراً وحماساً مما كان يتصوره الآخرون عنا، وهم قادرون إن شاء الله على تغيير وجه هذا البلد وإلى الأبد، بأقل التكاليف. ثلاث نقاط أخيرة: الأولى يجب أن يبدأ واحد منا في إنشاء صفحة العار الإلكترونية على غرار صفحة العار المصرية، ويمكن البدء فيها بقائمة المحافظ معياد وبقية البلاطجة الذين هاجموا المتظاهرين، النقطة الثانية من مسؤولية المغتربين الذين يجب أن يجد كل واحد طريقة لدعم إخوانه في الساحات والميادين، أما الثالثة فيجب الاستفادة من التجربة المصرية، يجب أن تكون المطالب قصيرة وموحدة، وننسى خلال هذه الفترة بقية المطالب حتى يأتي يومها.