فاجأ الشباب العربي في تونس ومصر العالم بتفجير ثورة شعبية تمكنت من إسقاط الأنظمة الحاكمة في هذين البلدين في وقتٍ قياسي، ويعتقد الكاتب بأن هذه الثورة بما أحرزته من نتائج مذهلة حتى الآن قد أصبحت نموذجاً تتعطش لتكراره الغالبية العظمى من الجماهير في بقية الشعوب العربية بلا استثناء، فطالما سعت جماهير هذه الشعوب إلى إحداث تغييرات حقيقية تلبي تطلعاتها في بناء أنظمة ديمقراطية، تمكنها من المشاركة الفاعلة في صنع وتنفيذ السياسات التي تتحكم في جميع جوانب حياتها المعيشية وتحقق لها العدالة والمساواة في تقاسم السلطة والثروة بين الجميع. لكن على ما يبدو فإن الأنظمة الحاكمة لهذه الشعوب لم تكن قادرة على استيعاب هذه المطالب ولا على إدراك مدى جديتها وأهمية تلبيتها، فظلت تتعامل مع الوضع بطريقة سلبية في بعض الحالات وبمراوغة في الحالات الأخرى، وفقط عندما انفجر الوضع وخرج عن السيطرة في بعض الدول، سارعت الأنظمة الحاكمة فيها وبعد فوات الأوان بالاعتراف ببعض تلك المطالب والاستجابة لها ووصفها بأنها مطالب مشروعة وهي المطالب نفسها التي تنكرت لها هذه الأنظمة لسنوات طوال، فكم بحت حناجر المصريين وهم يطالبون برفع حالة الطوارئ وتعديل الدستور ووقف مساعي التوريث ووضع حد للفساد، لكن النظام هناك كان يعيش على ما يبدو في واقع من الوهم، فقد تجاهل كل تلك المطالب واستمر بغرور ملفت في ممارسة أعمال الإذلال والقهر ضد شعبه، ولعلنا نتذكر الطريقة التي تمت بها الانتخابات التي أقيمت مؤخراً لمجلس الشعب المصري، والتي شكلت بأسلوب إدارتها وبنتائجها صفعة قوية لكل قوى التغيير في مصر، وبرهنت بما لا يدع مجالاً للشك عندهم بأن نظاماً كهذا لم يعد من الممكن التعايش معه بأي حالٍ من الأحوال في هذا العصر، فكان أن حسم الشعب المصري خياره على النحو الذي رأيناه.
وها هو الدور قد جاء سريعاً على النظام الحاكم في ليبيا، ومع الأسف فإن قائد النظام هناك لم يستوعب الدروس من جيرانه في المنطقة، فأخذته العزة بالإثم، وباشر في ممارسة أعمال القتل والإرهاب بتلك الطريقة الوحشية التي يشاهدها الجميع على شاشات التلفزة، الأمر الذي ساعد في قلب الأمور رأساً على عقب، فتساقطت المدن الليبية واحدة تلو الأخرى من يد الحكومة، والتف الشعب الليبي بقبائله وتشكيلاته المدنية والعسكرية الأخرى حول الثورة للإطاحة ب"الزعيم" وما هي إلا ساعات أو أيام قليلة فيسقط مع من سقطوا قبله، ومن العجيب أن يخرج نجل القذافي بخطاب يُمنّي فيه الليبيين بليبيا أخرى جديدة بعد أن قام هو ووالده بخراب ليبيا الحالية، متجاهلاً أن تبنيه لذلك الخطاب بصفته ابن الرئيس، هو بحد ذاته أحد مصادر وأسباب ثورة الغضب في ليبيا ضد الاستيلاء العائلي على السلطة هناك وضد مساعي التوريث في الحكم.
وإلى جانب ما تم ذكره آنفاً تجتاح الشارع العربي اليوم موجة عارمة من الاحتجاجات المطالبة بتغيير أنظمة الحكم في العديد من البلدان العربية ومنها اليمن، وهنا نقف أمام وضع مقبل على تحول وشيك في اتجاه واحد من عدة احتمالات منها: الأول هو أن تظل السلطة والمعارضة كلٍ منهما منشغل بتسجيل مواقف ونقاط ضد الآخر، وبينما تستمر المعارضة في التحريض والتعبئة الإعلامية ضد الحاكم في الوقت الذي لا يمكنها السيطرة تماماً على نتائج هذه العملية التحريضية في الشارع؛ سيعمد النظام إلى نفس الأسلوب وإلى المواجهة معتمداً على شرعيته الدستورية ومراهناً على بعض المغامرين وأصحاب المصالح الخاصة في التجمهر والتظاهر المضاد وعلى اعتقاده بأن في مقدوره -في ظل هكذا ظروف- تنفيذ القانون وفرضه على الجميع في الساحة، والواقع أن مثل هذه الظروف تتطلب وضع معالجات سياسية مرضية أكثر منها قانونية، وفي ظل هذا التصور سيخرج الشارع اليمني بشكل أوسع في كل المناطق اليمنية -وقد خرج بعضه- إلى الشارع بمطالب أخرى متجاوزاً الجميع، وعندها ستنفلت الأمور ويسقط النظام، ويُصبح السؤال بعدها: هل ستتمكن القوى السياسية بعد ذلك من السيطرة على زمام الأمور والمحافظة على الاستقرار والأمن في البلد ومن ثم بناء النظام على أسس سليمة وديمقراطية حقيقية؟ أم أن الأمور ستخرج عن سيطرتها وتدخل البلاد في أتون فوضى وحروب شاملة؟ وهذا ما نخشاه.
أما الاحتمال الآخر، فهو أن تبادر القيادات الوطنية في السلطة والمعارضة لالتقاط الفرصة التي ما تزال سانحة أمام الجميع حتى هذه اللحظة، والدخول في حوار جاد وسريع يفضي إلى تحقيق عملية إصلاحات سياسية حقيقية وعاجلة على الأرض تلبي تطلعات اليمنيين كافة في العيش الكريم بحرية في هذا البلد، وتمنحهم الأمل بمستقبل يعيشون فيه جميعاً سواسية أمام القانون ويتقاسمون معاً بشكلٍ عادل ثمار وعوائد التنمية، وهنا سيتم تحقيق نتائج ربما تفوق ما يمكن أن تحققه بقية الثورات الأخرى التي تمت في العالم العربي حتى الآن، وعندها سيكون علينا القول بفخر بأن ثورتنا ليست شعب ضد حاكم، ولا هي انقلاب طرف ضد آخر، وإنما ستكون ثورة اجتماعية وسياسية شاملة ضد مرحلة أراد لها اليمنيون كافة أن تنكفئ والاتجاه بواقعهم نحو الأفضل.
لكن المشكلة في عدم جلوس الأطراف المعنية على طاولة الحوار حتى الآن، تكمن في ضعف الثقة إن لم يكن في انعدامها في هذه اللحظات بين السلطة والمعارضة بإمكانية الدخول في حوار جاد ومثمر، خصوصاً بعد الانتكاسات التي منيت بها جولات الحوار خلال الفترات السابقة، ولإعادة هذه الثقة وتهدئة الشارع اليمني أعتقد بأن على الرئيس علي عبد الله صالح، أن يقدم على اتخاذ خطوات أخرى إلى جانب ما قد تم اتخاذه من قبله من خطوات جريئة في السابق، أهم الخطوات المطلوبة تغيير القيادات العسكرية والأمنية المقربة منه أسرياً، إذ من المؤكد أن تعيين هؤلاء القادة في تلك المناصب بمعايير لا يحظى بها غيرهم، كانت وراء الكثير من مشاعر السخط ضد الرئيس ونالت كثيراً من شعبيته لدى الرأي العام في اليمن، وإن كان هناك من يصور للأخ الرئيس بأن بقاء هذه القيادات في أماكنها لا يمثل مشكلة أمام الحوار وإعادة الهدوء والثقة إلى الشارع، وأنها ضمان لحمايته وحماية النظام من الفوضى والخراب، إنما هم بذلك يُخادعونه ويخادعون أنفسهم، فالمتغيرات الإقليمية والبيئية المحيطة اليوم بما فيها تقنيات الاتصالات ونظم المعلومات التي مزجت الأحداث مع بعضها البعض في الخارج والداخل ورفعت من مستوى التأثير المتبادل بين هذين المستويين، يجعل من غير المعقول أن تظل ما يعتبرها الكثيرون مؤشرات للتوريث في اليمن على حالها في الوقت الذي شكلت فيه مثل هذه المؤشرات سبباً رئيسياً لاندلاع الثورات في أكثر من قطر عربي.
ثمة ملاحظات أخيرة ينبغي التنويه إليها، الأولى وهي أن نعي بأن مشكلاتنا الراهنة في اليمن وخصوصاً المعيشية منها، لا تكمن في سوء الإدارة الحكومية لموارد البلاد فحسب، فاليمن يواجه تحديات كبيرة من الصعب على أية حكومة مهما كانت نزاهتها أن تتخطاها من دون تعاون الجميع، فعلى سبيل المثال يبلغ عدد التجمعات السكانية في اليمن أكثر من 135 ألف تجمع سكاني، في حين أن هذا الرقم في دولة يبلغ تعداد سكانها أربعة أضعاف اليمن كمصر لا يتعدى 35 ألف تجمع، ومن المعلوم أن هذا التشتت الرهيب للسكان في اليمن يشكل عامل استنزاف كبير جداً لموارد التنمية، إذ أن كل تجمع من هذه التجمعات بحاجة لتوفير كل الخدمات الضرورية لكل واحدٍ منها على حدة، ففي مصر حيث يعيش نحو 95% من السكان في تجمعات ضخمة بامتداد نهر النيل يصبح من السهل على الحكومة شق الطرقات وتوفير بقية الخدمات بتكاليف أقل، أما في اليمن فالوضع مختلف كثيراً وإذا ما أخذنا في الاعتبار الصعوبات التضاريسية لليمن والتي تشكل عائقاً إضافياً للتنمية تصبح الصورة أكثر وضوحاً، هذا بالإضافة إلى ضعف الموارد الاقتصادية المتاحة في البلد، فضلاً عن التحديات الأمنية والسياسية الخطيرة التي لم تعد تخفى على أحد، هذه التحديات وغيرها تفرض على الجميع الحرص على ما تبقى بين أيدينا من فرص للتغيير الآمن في هذا البلد عبر الحوار، خصوصاً أن هناك خطوات وتجارب جيدة تمت خلال السنوات الماضية على صعيد الإصلاح السياسي، فالانتخابات الرئاسية التي تمت عام 2006م برغم ما شابها من تجاوزات كانت تجربة مشجعة وتبشر بإمكانية إقامة انتخابات أفضل في المراحل القادمة، وطالما وأن هناك دعوة قائمة للحوار حول مختلف القضايا بما فيها الإصلاح السياسي، فإن من الواجب على الجميع سلطة ومعارضة ورجال ثقافة وكل من له تأثير في الوسط الاجتماعي والسياسي العمل بكل ما من شأنه إنجاح هذا الحوار فعلياً على أرض الواقع.
أما الملاحظة الثانية، فإن الصور التي تم مشاهدتها عبر بعض الفضائيات لبعض العناصر المسلحة وهي تطلق النار على المتظاهرين أمام جامعة صنعاء، والتصدي بالرصاص الحي للتظاهرات في مدينة عدن، وكذلك إلقاء قنبلة على تجمع للمحتجين في تعز، هي أمور بالغة الخطورة وتعكس صورة غير حضارية عن المجتمع اليمني، وتتحمل الحكومة كامل المسؤولية عنها حتى تقوم الأجهزة الأمنية بضبط من قاموا بتلك الأفعال وتقديمهم للعدالة.